الإمام مسلم.. ثري نيسابور الذي فرغ حياته للحديث الشريف

قلّ أن يتفرقا، بل أصبحا من الثنائيات ما دارت الشمس والقمر، واستقر الليل والنهار، إنهما شيخا أهل الحديث البخاري ومسلم، ولهما مع حديث النبي الكريم ﷺ قصة باقية في شغاف الأيام ومنابر التاريخ.

ولكل منهما قصة منفردة وضرب من الخلود يمتاز به عن صاحبه، ويفترق فيه معه وإن جمعهما شغف المعرفة، وفضل خدمة الحديث الشريف، وكان الإمام مسلمٌ بعد البخاري شيخَ صنعة الحديث، وشيخ السنة وفخر أهل نيسابور التي التقط فيها صور الحياة الأولى، واحتوت تربتها جسده الشريف عند رحيله، وبين الميلاد والرحيل سِفر نور عابر للأجيال والقرون.

نيسابور.. نشأة الفتى الثري في ظلال الحديث

في نيسابور مدينة العلماء والمحدثين ولد الإمام مسلم بن الحجاج سنة 206 هـ في أسرة عربية قحة مهاجرة إلى بلاد الشرق الإسلامي، وقد كان والده رجل علم وتربية وصلاح، وصدرا في المجالس مقصودا موصوفا بالفضل بين أهل جيله.

نيسابور.. حيث ولد ومات الإمام المحدث مسلم بن الحجاج

وقد عني هذا الشيخ بتربية ابنه مسلم، ووجه فكره ونفحات صبوته إلى العلم، وكانت سوق الحديث نافقة في نيسابور والناس مقبلون عنها، فثنى الرجل ركبتيه وهو ابن ثماني سنين في مجلس شيخ نيسابور الإمام يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري، فنهل من علمه وارتوى من نضير سمته، وتعلق قلبه بالحديث.

ثم نهض وهو ابن 14 سنة في رحلة لطلب الحديث قادته إلى أصقاع ومناطق متعددة، رغم أنه كان من أسرة ذات ثراء وأملاك وعقار، وكانت التجارة رابحة في أيديهم تدر عليهم مالا وافرا، وتصنع لهم مكانة رفيعة، غير أن الإمام مسلما رنا إلى ما هو أعظم وترقى في مدارج أعلى وأسمى.

طلب الحديث.. رحلة تلقي عصا التسيار عند الإمام البخاري

ويروي الذهبي أن أول رحلاته كانت في حدود عامه الثامن عشر، وأنه حج وهو أمرد الوجه ابن عشرين سنة.

وقد قاده الطلب والشغف بتتبع الآثار النبوية إلى الحجاز ومصر وبغداد والشام، فسمع من مئات الحفاظ والعلماء مثل يحيى بن يحيى النيسابوري، ومحمد بن مهران الحمال، وقتيبة بن سعيد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبيد الله القواريري، وإبراهيم بن موسى الفراء، وعلي بن الجعد، وخلف ابن هشام، وسريج بن يونس، وعبد الله بن مسلمة القعنبي.. وغيرهم كثير.

تتلمذ الإمام مسلم على يد شيخ المحدثين الإمام البخاري

ثم ألقى عصا التسيار إلى الإمام البخاري، وأعجبه نهجه وسمته وحفظه، وجرى بينهما من ماء الود ما يكون عادة بين الشيوخ المصلحين والطلاب الصالحين، حتى نقل بعض المؤرخين أنه خاطب شيخه البخاري مرة قائلا: دعني حتى أقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله.

وقد ظهر تأثير البخاري في شخصية تلميذه مسلم، فحذا حذوه في التعلم والتعليم والسمت والهيئة، وإلى ذلك أشار الخطيب البغدادي حين قال: إنما قفا مُسلم طريق البخاري ونظر في علمه، وحذا حذوه، ولَمَّا ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مُسلم وأدام الاختلاف إليه.

فتنة خلق القرآن.. آيات الولاء المطلق للشيخ المهجور

لم يكتفِ مسلم بالود والولاء الوجداني لشيخه البخاري، بل صاحب ذلك إسناد فعلي ومناصرة له فيما تعرض له من مضايقات وخصومات، ومن ذلك موقفه معه في وجه محدث نيسابور الإمام محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله الذي يقال إنه حسد البخاري وسعى في توريطه في قصة خلق القرآن، وقد تعرض إثر ذلك للطرد ولمحنة شديدة.

وتروى كتب التراجم الموقف كما يلي: لما استوطن محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور؛ أكثر مُسلم بن الحجاج الاختلافَ إليه، فلمَّا وقع بين محمد بن يحيى الذهلي والبخاري ما وقع في مسألة “اللفظ” ونادى عليه، ومنع الناس من الاختلاف إليه -أي حضور دروسه- حتى هُجرَ، وخرج من نيسابور في تلك المحنة، قَطَعَهُ أكثرُ الناس غير مُسلم، فإنه لم يتخلَّفْ عن زيارته.

فأُنْهِيَ إلى محمد بن يحيى أن مُسلما بن الحجاج على مذهبه قديما وحديثا، وأنه عوتب على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجِع عنه، فلما كان يوم مجلس محمد بن يحيى قال في آخر مجلسه: ألا مَنْ قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مُسلم الرداء فوق عمامته وقام على رؤوس الناس وخرج من مجلسه، وجمع كلَّ ما كان كتب منه، وبعث به على ظهر حمَّال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة، وتخلَّفَ عنه وعن زيارته.

حجة أهل الأثر.. شهادات الشيوخ والحفاظ والمؤرخين

عرف أهل العلم ومؤرخو تاريخ الإسلام للإمام مسلم بن الحجاج قدره ومكانته، وبهر العلماء أيام الطلب بذكائه ونباهته وحدة ذاكرته ونزوعه إلى العلم وأخلاقه، وقد استبشر به شيخه الحافظ إسحاق بن راهويه فتساءل منبهرا: أي رجل يكون هذا؟ وخاطبه شيخه إسحاق بن منصور الكوسج قائلا: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.

وقد أثنى عليه ابن الصلاح في كتابه على صحيح مسلم الذي سمّاه “صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط”، فقال: كان له في علم الحديث أضراب لا يفضلهم وآخرون يفضلونه، فرفعه الله تبارك وتعالى بكتابه الصحيح هذا إلى مصاف النجوم، وصار إماما حجة يبدأ به ويعاد في علم الحديث وغيره من العلوم النافعة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وعده الحافظ محمد بن بشار أحد حفاظ الدنيا، وهم في نظره وفي زمانه أربعة: أبو زرعة الرازي بالري، ومسلم بنيسابور، وعبد الله الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى.

وفي المغرب الإسلامي نجد القاضي عياض يصف الإمام مسلما بأنه: أحد أئمة المسلمين وحفاظ المحدثين ومتقني المصنفين، أثنى عليه غير واحد من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، وأجمعوا على إمامته وتقدمه وصحة حديثه، وتمييزه وثقته وقبول حديثه.

صحيح مسلم.. عصارة الأحاديث الصحيحة من مئات الآلاف

أخذ الإمام مسلم شهرته من كتابه “الصحيح” المعروف بصحيح مسلم، ولم تقتصر مكتبة إنتاجه العلمي على هذا المؤلف الفريد وحده، فقد ترك مؤلفات متعددة في تخصصه في علوم الحديث رواية ودراية، ومن مؤلفاته:

الكنى والأسماء. علل الأحاديث. طبقات التابعين. رجال عروة بن الزبير. المنفردات والوحدان. التمييز.

ترك الإمام مسلم مؤلفات متعددة في علوم الحديث كالطبقات والكنى والأسماء

غير أن شهرة الرجل ومكانته عبرت به من خلال كتاب الصحيح الذي حمل اسمه، “وأبقى له الله به ذكرا جميلا وثناء حسنا إلى يوم الدين” على حد تعبير شارحه الإمام يحيى بن شرف النووي.

وتورد بعض كتب مؤرخي ومفسري الحديث أن الإمام مسلما صرف 15 سنة من عمره لجمع وتنقيح كتابه الصحيح، وأكمله سنة 250 هـ، وعمره يومها 44 سنة، واختاره من أكثر من 300 ألف حديث من مروياته ومحفوظاته، ثم بدأ في نخله وتمحيصه قبل أن يختار منه 3033 حديثا كاملا غير مكرر، وبالمكررات يرتفع الكتاب إلى 7395 حديثا شريفا.

سياسة التأليف.. تقسيمات منهجية تفوق صناعة البخاري

بيّن الإمام مسلم منهجيته في جمع وانتقاء الحديث في مقدمة كتابه، فقال: إنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله ﷺ، فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار، إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد؛ لعلة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المُحتاج إليه يقوم مقام حديث تام، فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة، أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن، ولكن تفصيله ربما عسر من جملته، فإعادته بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم. فأما ما وجدنا بدا من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه، فلا نتولى فعله إن شاء الله تعالى.

أجمعت الأمة على أن صحيح مسلم هو ثاني أصح كتب الحديث بعد صحيح البخاري

وقد امتاز صحيح مسلم بالسهولة والوضوح وثبات المنهجية، وبذلك تفوق على صحيح البخاري في حسن الترتيب والتبويب، وفاقه البخاري في صرامة التصحيح.

ويذكر الإمام النووي طرفا من ميزات “صحيح مسلم” قائلا: وقد انفرد مسلمٌ بفائدة حسنة، وهي كونه أسهل متناولا، من حيث أنه جعل لكل حديث موضعا واحدا يليق به، جمع فيه طرقه التي ارتضاها واختار ذكرها، وأورد فيه أسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة، فيسهل على الطالب النظر في وجوهه واستثمارها، ويحصل له الثقة بجميع ما أورده مسلم من طرقه، بخلاف البخاري، فإنه يذكر تلك الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة، وكثير منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أولى به، وذلك لدقيقة يفهمها البخاري منه، فيصعب على الطالب جمع طُرق الحديث.

شروح الصحيح.. أسفار مشرقة تنهل من بحر الإمام مسلم

قد عكف العلماء المسلمون على صحيح مسلم حفظا وشرحا وتدريسا، ومن أشهر شروحه: “صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط” لابن الصلاح.

ومن بينها أيضا كتاب “المعلم بفوائد مسلم” للمازري، وقد أكمله القاضي عياض بشرح سماه “إكمال المعلم”، ثم جاء محمد بن خليفة الأُبِّي وكمَّل كتاب “الإكمال”، فألَّف كتاب “إكمال إكمال المعلم”، ثم جاء بعده محمد السنوسي فألف كتابا أسماه “مكمل إكمال الإكمال”، لتخرج من ذلك سلسلة مرتبة من شروح كتاب مسلم يكمل بعضها بعضا.

ومن شروحه أيضا، كتاب “المنهاج في شرح صحيح مسلم ابن الحجاج” للإمام يحيى بن شرف النووي. وغيرها من الشروح.

ليلة السراج الموقد.. نهاية بين سلة التمر وصحائف الحديث

لم يطل عمر الإمام مسلم بن الحجاج، فلم يزد على 55 سنة كانت حافلة بالطلب والعطاء العلمي، فقد رحل إليه أجلاء العلماء والمحدثين، وظل رفيق المحبرة والصحيفة والمداد، حتى طوى رحلة الحياة ذات ليلة بحثية عاطرة، قبل انبلاج الصباح، وهو يبحث وينقب عن حديث سمعه ولم يعرف وجهه.

في سنة 261 من الهجرة توفي الإمام مسلم ودفن في مسقط رأسه في نيسابور

ويختصر الخطيب في “تاريخ بغداد” قصة وفاة الإمام مسلم قائلا: قال أحمد بن سلمة: عُقِدَ لمسلم بن الحجاج مجلسٌ للمذاكرة، فذُكِرَ له حديث لم يعرفه فانصرف إلى منزله وأوقد السراج، وقال لمن في الدار: لا يدخلن أحدٌ منكم هذه الغرفة، فقِيل له أُهديت لنا سَلة فيها تمر، فقال: قدموها إليَّ، فقدموها إليه.

فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة يمضغها، فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث. فقِيل إن الإمام مسلما مات بسبب ذلك، وقد تُوفي بنيسابور عشية يوم الأحد، ودُفِنَ يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 261 من الهجرة، لتنطفئ بذلك شعلة حياة عاطرة، وينطلق كوكب خلود لا يزال يضيء بين الخافقين.