شادي عبد السلام.. أنشودة البعث التي أنارت السينما المصرية

يأتي الاهتمام بالمخرج السينمائي شادي عبد السلام لأنه قيمةٌ بحدّ ذاته، ولأنه صاحب مشروع، وهو أحد الكبار الذين أضافوا للثقافة المصرية لمسة إبداعية بثوب تأصيلي خلال القرن الماضي، وقد ركّز على التاريخ المصري، وكان يهمه أن يعرف العالم كله عن الحضارة المصرية.

ومن هنا جاء اهتمام الجزيرة الوثائقية بهذا المخرج الفذّ، فأنتجت عنه فيلما بعنوان “شادي.. أنشودة البعث”، وعرضته على شاشتها، وقد تناولت فيه بعضا من سيرته الذاتية، وألقت مزيدا من الضوء على مسيرته الأكاديمية والمهنية، وتتبّعت بعض أفلامه الخالدة، التي قدمها للسينما المصرية والعالمية.

شادي عبد السلام.. المخرج الذي قدّم الحضارة المصرية للعالم

لم يكن شادي مجرد مخرج سينمائي، بل هو مفكر منشغل بالهوية المصرية، وكان مثقفا وعاملا في مجال السينما، وامتد تأثيره في مجال الديكور وتصميم الملابس. ولم تكن قيمته منبثقة من الأعمال التي قام بها فقط، ولكن في المدرسة التي ابتكرها أيضا، وقدّم من خلالها الحضارة المصرية للعالم.

يقول شادي عن نفسه، في حديثٍ مسجَّل للإذاعة: أحب التاريخ، ليس مهما أن تعرف عن الأمجاد والحروب والحوادث، التاريخ هو مسيرة الإنسان صعدا إلى مستويات الرقي والتحضر. درستُ التاريخ والفلسفة في إنجلترا، وبعد تخرجي قاموا بتزكيتي لدراسة المسرح، وبعد فترة درست الفنون الجميلة، قسم العمارة، وتخرجت مهندسا معماريا.

حين بلغ شادي 15 عاما ترك المدرسة، لمشكلة عنده في طوله، كان يخشى على قلبه من فرط هذا الطول، وكان يتابع دراسته في البيت، وفي الجامعة درس الفنون الجميلة، قسم العمارة.

وقد تأثر بالعمارة، وتعرَّف من خلال دراسته للتاريخ على أصوله، وهو وإن كان يسكن الإسكندرية، فإن أصوله من المنيا، وقد درس تاريخها، واهتم بالملابس التاريخية، فصمّم ملابس فيلم “وا إسلاماه”، وعمل في ديكورات “الناصر صلاح الدين” ليوسف شاهين.

“روبرتو روسيليني”.. نار السينما التي اتقدت في شادي

تحتاج الأفلام التاريخية لدراسة عميقة ومتأنية، وتحديدا في الأعمال الفنية التي ستظهر في الفيلم، من الديكورات إلى الملابس وغيرها، وكان شادي يتفوق في هذه الأعمال على كثير من المدارس، حتى الأوروبية منها، فعمل في فيلم “فرعون” مع المخرج “كافلاروفيتش”، وكان منسق عرض، وكان المخرج يستشيره في المِصريّات، ولما رأى مخرج الفيلم ما له من عمق اطلاع على تاريخ الحضارات المصرية المختلفة، أوكل له مشهدا كاملا في الفيلم.

عمل شادي مدرسا في المعهد العالي للسينما، وكان بمثابة طاقة عِلم وإلهام فُتِحت لطلابه، فكان يعلمهم أن الفن سبيل للرقي وليس للتجارة والكسب، وكان يتعامل مع طلابه كأنهم أصدقاؤه وزملاؤه.

يقول شادي: كان “روسيليني” دافعا لي لأكون مخرجا، وكان ذلك نقطة تحول بين أن أكون مهندس ديكور أو مخرجا، وكان يدفعني لأكون مؤلفا مخرجا. و”روسيليني” هو مخرج إيطالي، ويعتبر أبا السينما الواقعية الإيطالية، وكان يعمل على فيلم “صراع من أجل البقاء” عن بدايات الحضارات العالمية، فجاء إلى مصر للتصوير عن حضارة الفراعنة.

استدعته وزارة الثقافة للمساعدة في ثورة سينمائية مصرية، وكانت الخطة أن يختار ثلاثة سيناريوهات لأفلام يعمل عليها، وكان من بين هذه السيناريوهات فيلم “المومياء”، وقد انبهر “روسيليني” بفكرة الفيلم التي هي عبارة عن بعث حضاري للشخصية، ولكن العاملين اصطدموا بأوامر عليا بوقف الفيلم، لأنه يتناقض مع القومية العربية، فتدخل شادي وأقنع الوزارة من ليلته بإجازة تصوير الفيلم.

“المومياء”.. فيلم معرفي بين الجوائز العالمية والرفض الجماهيري

قام شادي عبد السلام بإخراج فيلم “المومياء” على مدى سنة ونصف، وكان بحقٍّ بطل التكوين المجرد في السينما المصرية، وكان وقع الفيلم مدهشا على كثير من النقاد، فكان بمثابة جوهرة تشع ضياء من كل الجهات.

سحرٌ أخذ بعقول المشاهدين إلى آفاقٍ غير معهودة في السينما المصرية، وكان الإقبال عليه كبيرا في نوادي السينما المتخصصة، وحصد تفاعلا كبيرا، أما في أوساط الجمهور العادي فكان الفيلم مملا ذا مَشاهِد طويلة وبطيئة ورتيبة.

شادي عبد السلام في استوديو تصوير فيلم المومياء

كان شادي عبد السلام يحمل جهاز تسجيل، ويتجول على دور السينما، ويسأل الجمهور عن رأيهم في الفيلم، فتبين له أن المسألة معرفية، تتعلق بوعي هذه العينة من الجمهور بالأبعاد التاريخية والفنية للعمل. وكان يُنظَر لشادي من قبل القوميين والناصريين على أنه شوفيني، يروج للفكرة المصرية، متجاوزا مصر القومية.

عُرِض الفيلم في فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وعاد بجوائز كثيرة، مثل جائزة “جورج سادول” لأفضل فيلم أجنبي عرض في باريس 1970، وهي جائزة مهمة جدا، ومنحت لأول مرة لفيلم مصري، وكتب عنه نقاد عالميون، أعادوا للفيلم قيمته على المستوى المصري.

لم تكن فكرة الفيلم حول سرقة الآثار بقدر ما هي إعادة بعْث لشخصية “ونيس”، شخصية الإنسان البسيط التائه في الفيلم، الذي أعاد اكتشاف نفسه وقيمة حضارته وتاريخها. يقول شادي: أردتُ أن أبعد المُشاهد عن حقيقة أن هذه القبيلة تسرق الآثار، وألفت نظره إلى حقيقة أن تاريخه يضيع ويتمزق، ويتنازعه اللصوص كأنه إرث سائب.

مركز الفكر التجريبي.. صومعة إبداعية برعاية رسمية

في 1969 أنشأ شادي عبد السلام “مركز الفيلم التجريبي”، بتكليف من وزير الثقافة المصري آنذاك ثروت عكاشة، وانضم إليه عدد من تلاميذه في المعهد العالمي للسينما، ومنهم سمير عوف وعاطف الطيب وإبراهيم الموجي وغيرهم، وامتد مشروعه المعرفي من خلال المركز التجريبي الذي اعتبره وحدة إنتاجية لمجموعة من الموضوعات، يمكن أن تندرج تحت عنوان “وصف مصر”.

يقول شادي: على صدى فيلم “المومياء” أسندت إلي إدارة مركز الفيلم التجريبي، وقبلت ذلك لأنني كنت أعلم عدم قدرتي على مجاراة السينما التجارية، وكان عليّ أن أعمل شيئا مفيدا يستمر، وكان كل العاملين فيه من المعهد العالي للسينما.

ثم عمل فيلم “الفلاح الفصيح” الذي يتحدث عن العدالة، وهو ليس فيلما تاريخيا عن الفراعنة كما يمكن أن يتوهم المُشاهد، بل يصلح للإنسان بالمطلق، في كل زمان ومكان.

يتحدث سمير فرج مدير التصوير في فيلم “لؤلؤة النيل” -الذي هو من إخراج شادي عبد السلام أيضا- قائلا: كان عليّ أن أصور مشهدا تحت الماء، فصنعنا حوضا من الزجاج، وصورنا المشهد بنجاح، حتى أن الفيلم عندما عرض بروما حصد عدة جوائز، منها جائزة البندقية 1972، وتسبب في أن اليونسكو جاءت ورفعت المعبد كاملا إلى المكان الذي هو عليه الآن.

شادي عبد السلام يقف خلف الأهرامات التي افتتن بها في أعماله

وقد طلبت منه وزارة الثقافة أن يعمل فيلما عن أنشطتها، فجاء فيلم “آفاق”، وكانت مادته من الفنانين والأنشطة الفنية التي تنضوي تحت وزارة الثقافة من مسرح وسينما وفنون تشكيلية وموسيقى، وهو فيلم مرتبط تماما بالثقافة المصرية، ترى فيه الفنانين في صوامعهم، بشكل لم تكن لتراه في الأفلام الوثائقية الأخرى.

“أخناتون”.. كواليس الأسطورة الفنية التي قتلت صاحبها

أخرج شادي عبد السلام فيلم “أخناتون”، وكانت لديه خلية نحل، تعمل على تحضير الرسوم والماكياج والملابس، إضافة إلى ناديا لطفي التي ستمثل دور الملكة “تي”، ومحمد صبحي الذي سيمثل دور “أخناتون”. يقول شادي: “أخناتون” هو الفرعون الوحيد الذي نادى بفكرة الإله الواحد، وأنا في هذا الفيلم أعالج مأساة رجل سبق فكرُه عصرَه، وأعتبره فيلما قوميا ويجب أن يكون إنتاجه مصريا، ولا أتخيل أن تتدخل دولة أجنبية في إنتاجه.

عرضت أكثر من دولة على شادي أن تنتج الفيلم؛ منها فرنسا وإيطاليا وليبيا، لكنه رفض، وفجأة جاءه عرض من منتج تجاري مصري هو محمد سالم، ودارت عجلة إنتاج الفيلم، وبدأت الورشات والأستوديوهات بأعمال الجبس والإكسسوارات والديكورات، وفجأة توقف العمل، وتبين أن المنتج يستغل مقدرات فيلم “أخناتون” لإنتاج فلم تجاري آخر.

توقف العمل لمدة 10 سنوات، وأصيب شادي عبد السلام بإحباط شديد، وبدأت تنتابه حالات من الصداع النصفي، كان ثقيلا عليه أن يُسرَق إبداعه بهذه الطريقة، فأدخل المستشفى، وما لبث أن فارق الحياة. مات دون أن يتحقق حلمه في “أخناتون” الذي صرف له أكثر من 10 سنوات من عمره.

وبعد وفاته تحركت الحكومة من جديد لإنتاج الفيلم، وتواصلت مع عدة دول مثل فرنسا وأمريكا، للمشاركة في إنتاجه، لكن هذه الدول اعتذرت بحجة أن الفيلم لا يحوي مشاهد عنف ودم كافية، هذا بالضبط كان رد المنتجين الأمريكيين.

أعمال شادي.. بصمة في تاريخ السينما المصرية

ترك شادي عبد السلام بصمة لا تمحى في السينما المصرية، فالديكورات والملابس والإكسسوارات السينمائية كانت قبل شادي شيئا، وأصبحت بعده شيئا آخر. وصُنِّف فيلمه “المومياء” واحدا من أحسن مئة فيلم عربي، وقد أعيد ترميمه سنة 2009، بواسطة شركة “سكورسيزي”، ورُشح للعرض في مهرجان “كان”.

لن تموت أعمال شادي ما دامت السينما حية، فروحه ما زالت تسري في أعماله، وقد لاقت أفلامه المرمّمة حضورا لافتا في أوساط الشباب، لكن الإهمال طال كثيرا من اللوحات والإكسسوارات التي أنجزها تحضيرا لفيلم “أخناتون”، ويطالب رفاقُ شادي وزارةَ الثقافة بوضع خطة لحمايتها.

يتقدم تلاميذ شادي وزملاؤه بالشكر لمكتبة الإسكندرية التي خصصت ركنا لحفظ مقتنيات شادي السينمائية، أسمته “متحف عالَم شادي عبد السلام”، لكن المطلوب متحفٌ للسينما المصرية برمّتها، على غرار متاحف السينما العالمية، فتراث شادي عبد السلام وغيره من رواد السينما المصرية جدير بمتحف يحفظه.