“المرابِطة”.. كفاح امرأة مقدسية تعلّق قلبها بالأقصى
إنه وقت الفجر من شهر رمضان المبارك، والمقدسيون يتوجهون إلى المسجد الأقصى لأداء الصلاة، بينما تملأ قوات الاحتلال الصهيوني الطرقات والأزقّة، مدججة بالسلاح وتَعدُّ على أهل البلاد أنفاسهم.
وحدها هنادي الحلواني لا تستطيع دخول باحات الحرم القدسيّ، فقد منعتها سلطات الاحتلال بقرار من المحكمة، ولكنها ما تزال تتشبث بالعزيمة والأمل، وتحاول من جميع الأبواب، وفي كل الأوقات، وكأن المسجد الأقصى يأسر قلبها ويشدها إليه برباط وثيق.
وهذا ما سيشعر به كل من شاهد الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية عن هنادي، وكان بعنوان “المرابِطة”.
هنادي الحلواني.. ابنة فلسطين التي تعلّق قلبها بالأقصى
تحكي لنا هنادي قصة عشقها للأقصى فتقول: اليوم أزيّن كعكة بصورة قبة الصخرة الذهبية، هدية مني لطالبات “مشروع مساطب العلم” بجامعة القدس المفتوحة، الفوج الأول لعام 2017، إذ ننوي عمل حفل تخرّج لهن في ساحات الأقصى، وأنا قلقة من أن يمنعني جنود الاحتلال من الدخول، أو يمنعوا الأخوات الخريجات، أو يعتقلوا بعضنا، أو يمنعوا إدخال الحلويات.
فهن يخططن لإقامة حفل بهيج، وقد أعددن العدة لذلك، من تحضير للوجبات والحلويات إلى غير ذلك. تقول هنادي: بعض الأخوات الأخريات أعددن أطباقا شعبية أخرى؛ مثل المقلوبة وورق العنب والكوسا المحشي، وللتوّ تواصلْتُ مع الأخت أم إيهاب، فلقد استطاعت -والحمد لله- الدخول من باب المجلس، وسأحاول أنا الدخول من باب حطة، أما الكعكة فسأحاول إدخالها من خلال مجموعة من الأطفال، جيران الأقصى، بحجة أن لديهم حفل تخرج في الداخل.
“لا يمكن أن تتصوروا مدى فرحتي”.. عودة إلى باحات المسجد
تقول هنادي: بحمد الله، استطعنا الدخول بعد لأي، وها هنّ بقية الأخوات الخريجات والأمهات قد تجمّعْنَ في نفس المكان الذي بدأن فيه مشروعهنّ، بجانب المصلّى المرواني، فقد كان لي الشرف أن أبدأ معهن هذا المشروع المبارك، لأعلمهنّ العلم النافع والرباط في المسجد الأقصى، لعل يوم النصر والتحرير يكون قريبا.
فهذه أول مرة منذ ثلاث سنوات ونصف، ألتقي فيها بطالباتي اللاتي بدأن دراستهن الجامعية انطلاقا من هذا المكان، وكنت أظن أنني لن أراهنّ بعد ذلك اليوم، بسبب تضييق قوات الاحتلال عليَّ ومنعي من دخول الأقصى، ولكنني -والحمد لله- دخلت اليوم لمشاركتهن فرحتهن بالتخرج، ولا يمكن أن تتصوروا مدى فرحتي وسعادتي بدخول هذا المكان المبارك المقدّس مرة أخرى.
صدام جنود الاحتلال.. اعتداءات جسدية وألفاظ نابية
خاضت هنادي كثيرا من الصدامات مع جنود الاحتلال، وتسرد بعض قصصها قائلة: لي قصص كثيرة مع شرطة الاحتلال المنتشرة على كل أبواب الحرم القدسي الشريف، فأنا أحاول الدخول من جميع الأبواب، وفي جميع فترات الصلوات المختلفة، فأنجح أحيانا قليلة في الدخول، وفي معظم المرات يمنعونني.
إنهم يتصرفون معي بشكل سيئ في أكثر الأحيان، ويشتمونني بألفاظ نابية، وقد يعتدون عليّ جسديا، أو يفرقون بيني وبين طالباتي اللاتي أعلمهن القرآن وسنن الرباط في الأقصى.
وتروي أن الاحتلال وجد أن إصدار قرارات إبعادٍ منفردة بحق المقدسيين والمقدسيات مرهقةٌ جدا لأجهزته التشريعية والتنفيذية، فاستعاض عن كل ذلك بقائمةٍ موحدة، فيها جميع الأسماء المبعدة، وتُحدّث دوريا بإضافة أو شطب أسماء جديدة.
محاكم الاحتلال.. قرارات صهيونية تدمي قلب المرابِطة
نحن اليوم أمام باب إحدى محاكم الاحتلال الصهيوني، حيث ستصدر أحكام جديدة بحق مجموعة مرابطات المسجد الأقصى، وعلى رأسهم المرابطة خديجة خويص والمرابطة هنادي حلواني، والتهمة هي حبّهنّ للمسجد الأقصى وشغفهنّ لدوام المرابَطة فيه.
يقول أحد المحامين: حتى إدخال بعض الأطباق الفلسطينية الشعبية، من شأنه أن يجرّ عليهن قرارا بالحبس أو الإبعاد.
وفي هذا اليوم، أُصدر حكم بحق هنادي الحلواني بحبس منزلي مدة 14 يوما، وإبعاد عن المسجد الأقصى مدة 30 يوما، وإبعاد عن الضفة الغربية مدة ستة أشهر.
تقول هنادي: هذا هو أول يوم في الحبس المنزلي، ومنذ أمس تتصل صديقاتي للاطمئنان عليّ وسيأتين لزيارتي اليوم، فقد قضيت قبلها أسبوعين في السجن بين غرف التحقيق والمحاكم، بعيدة عن زوجي وأولادي، ولكم أن تتخيلوا كم يكون قاسيا ترك المنزل وفيه أولاد في مراحل عمرية حرجة، فابنتي الكبرى في السنة الجامعية الأولى، وابني في الثانوية العامة “التوجيهي”، ولي ولدان آخران في المرحلة الأساسية.
يوم الجمعة.. احتكاك يخلق حالة من الفوضى والاعتقالات
اليوم يوم الجمعة، وقد انتهت الصلاة في الأقصى بحشود غفيرة من المسلمين الذين صلوا في الشوارع والأزقة حول الحرم القدسي، وتحت أعين شرطة الاحتلال وبنادقها المصوبة تجاه الرؤوس.
ويفتعل أفراد الشرطة الصهاينة الاحتكاك بالمصلين، لخلق حالة من الفوضى والتدافع، تتيح لهم التدخل بالقوة الغاشمة لإبعاد المصلين عن الأقصى.
وها قد بدأ إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، واستخدمت الشرطة الهراوات والرصاص المطاطي والمياه العادمة لتفريق حشود المصلين، بينما انقضّت قوات أخرى على عدد من الشباب المصلين واعتقلتهم، ولا ذنب لهم إلا أنهم لبوا نداء الله لصلاة الجمعة في باحات الأقصى.
وها هي ذي هنادي تراقب من شرفتها وصول صديقاتها لتهنئتها بخروجها من سجن الاحتلال إلى سجنها الجديد في بيتها، فلقد استطاعت أم إيهاب الإفلات من المواجهات الدامية في ساحات الأقصى، والوصولَ إلى بيت هنادي، وها هي تخبر صاحبتها عن القهر والذل الذي لاقته أثناء التحقيق، من امتهان للحجاب وتكبيل لليدين والقدمين، حتى مع وجود المحامي.
“لقد اعتقلوا امرأة عزلاء”
تقول هنادي: انتهت اليوم فترة الحبس المنزلي بعد أسبوعين، وسأخرج لأرى الطريق أول مرة منذ شهر تقريبا. وأذكر أنهم دهموا البيت بقوة كبيرة مدججة بالسلاح في الساعة الخامسة فجرا قبل شهر، واقتادوني مكبلة أمام أبنائي والجيران، حتى كان الناس يتساءلون عن هذا الجرم الذي ارتكبته لأجل أن يعتقلوني بهذه الطريقة.
وهذه سيارتي لم أرها ولم أنظفها منذ شهر، ولن أستطيع قيادتها اليوم لأنهم احتجزوا رخصة قيادتي، ولكنهم لن يمنعوني من مواصلة السير على الأقدام، ولولا أنني ممنوعة من دخول المسجد الأقصى لذهبت هناك، وسجدت سجدة شكر لله تعالى.
وتروي قصة حادثة جرت لها مع جنود الاحتلال قائلة: أضحك كثيرا كلما مررت بهذا الشارع، فهو يذكرني بحادثة اعتقالي في 2016، ويومها هربت من الشرطة، وحاولت الاختباء في أحد هذه المحلات، حتى دهمت فرقة كبيرة من الشرطة المكان، وضربوني ضربا مبرحا كما يضربون الرجال، واقتادوني إلى إحدى العربات العسكرية الكثيرة التي كانت في المكان، لقد اعتقلوا امرأة عزلاء، تماما كما لو كانوا يحاصرون خلية مسلحة كاملة.
نظرة إلى المسجد الأقصى.. مهوى الأفئدة
تقول هنادي: اليوم أستطيع العبور من البوابات الرئيسية لسور القدس، والدخول إلى البلدة القديمة، مثل باب العامود، ولكن عندما اعتُقلت في السنة الماضية، مُنعت مدة 6 شهور كاملة من دخول البلدة القديمة كلها.
اضطرت هنادي للصعود إلى سطح إحدى البنايات العالية المجاورة للحرم، لإلقاء نظرة على المسجد الأقصى، مهوى فؤادها، كما هو مهوى أفئدة 1.7 مليار مسلم حول العالم. أما شراذم المستوطنين الصهاينة شُذّاذ الآفاق، فلهم حرية التجول في باحات الأقصى تحت سمع وبصر وحماية شرطة الاحتلال، حيث يقيمون طقوسهم التلمودية دون مضايقة.
تقول هنادي: أدرّس أحكام القرآن الكريم في مسجد عابدين القريب من بيتي، ولم أتوقف يوما عن التعليم، حتى عندما مُنعت من دخول المسجد الأقصى، وكنت أيضا أتعلم رواية ثانية من القراءات، وعندما منعوني من الأقصى حاولت أن أواصل التعلم في أحد مساجد الضفة الغربية، ولكنهم منعوني من دخولها كذلك.
“بدلا من هنادي واحدة باتت هنالك ألف هنادي”
تقول هنادي: هذا هو رمضان الثالث الذي تمنعني فيه سلطات الاحتلال من دخول المسجد الأقصى، فمنذ 2012 تلقيت عشرات قرارات المنع، وهذا ثالث رمضان أُمنع فيه. إنه شعور بالقهر الشديد، ولولا الدعم المعنوي المتواصل من زوجي وأبنائي وعائلتي، لكان الشعور بالقهر أكبر، ولكن ثقتي بالله تتعاظم يوما بعد يوم أن النصر قادم لا محالة.
سأتوجه اليوم إلى مركز أمن القشلة في باب الخليل، لأطّلع على القرار الذي اتخذه بحقي قائد لواء القدس، بناء على تقارير المخابرات التي وصلته عني، وقد كان القرار جاهزا؛ الإبعاد لمدة 6 شهور أخرى عن المسجد الأقصى.
لم تعد تهمني قرارات الإبعاد، ففي كل مرة أصبحت أوصل الرسالة بشكل أقوى، وبدلا من هنادي واحدة باتت هنالك ألف هنادي، وسيصبحن آلافا وملايين.
وعلى الرغم من قرارات المنع المتعددة المتواصلة، فإن هنادي تجد لزاما عليها أن تحاول الدخول إلى المسجد الأقصى من أي باب متاح، وتكرر هذه المحاولات في جميع الأوقات، وبدون كلل أو ملل، كأنها بذلك تحاول إيصال هذه الرسالة إلى مسلمي العالم أجمع، أن يكون الأقصى أغلى عندهم من أموالهم وأولادهم وجميع ما يملكون.