“مروان.. حرية المستقبل”.. أيقونة صانع الانتفاضة المُغيّب في سجون الاحتلال

تشكل صوره وهو يرفع بيديه المكبلة بالقيود علامة النصر والمرسومة على الجدران العازلة في الأراضي الفلسطينية تحديا متواصلا للاحتلال الإسرائيلي الذي يسجنه منذ سنوات طويلة. إنه السياسي والمناضل الفلسطيني المعروف مروان البرغوثي الذي غاب قليلا عن الاهتمام العربي في السنوات الماضية، بيد أنه ما زال في قلب الواقع والذاكرة الفلسطينية.

مروان البرغوثي هو بطل الفيلم الوثائقي الملحمي “مروان.. حرية المستقبل” (Marwan: Tomorrow’s Freedom) للمخرجتين “صوفيا سكوت” و”جورجيا سكوت”. إذ يعود الفيلم إلى التاريخ الحافل بالنضال لمروان، ويسجل الألم المتواصل الذي تعيشه زوجته وأولاده، فهم يحملون منذ سنوات شعلة الرفض السلمية التي حملها دائما هذا القائد الفلسطيني المُغيب اليوم في السجون الإسرائيلية.

كلب البرغوثي الأليف.. عداء تمتد جذوره إلى الطفولة

ليس من المعروف لمن تعود العين البشرية التي أظهرها الفيلم في لقطة مقربة كثيرا في مشهده الافتتاحي، وربما كانت رمزا للعين الفلسطينية التي تشهد منذ عقود طويلة على الظلم والمأساة.

يرافق مشهد البداية ذاك صوتا يخبرنا قصة من طفولة مروان، فربما شذبت مبكرا طريقه تفكيره، فقد قتل الاحتلال الإسرائيلي كلبه، وبكى الطفل مروان من ذلك الظلم الذي أصاب الحيوان الأليف، ودفعه إلى مواجهة مبكرة مع القوة التي تهيمن على بلده وحياته.

يركز الجزء الأول من الفيلم على التعريف بالبرغوثي، فيقابل مجموعة كبيرة من السياسيين الإسرائيليين السابقين، ومجموعة من السياسيين الأوروبيين، وسيكون للشخصية الفلسطينية المعروفة حنان عشراوي حصة في الجزء الأول في الفيلم، إذ ستبين ببلاغة كبيرة المكانة الاستثنائية التي يحتلها البرغوثي في السياسة والوجدان الفلسطيني.

تمر حنان عشراوي -مثل الكثير من الذين تحدثوا في الفيلم- على الفرص الضائعة بسبب سجن البرغوثي، إذ كان يمكن للسياسي الفلسطيني أن يقود بجدارة أي عمليات سلام ممكنة، وأن يُوحّد الفلسطينيين بكل أطيافهم، وقد غلب الاحترام الشديد لشخصه على شهادات كثير من المتحدثين عن السياسي الفلسطيني، وحتى من الذين كانوا يقفون على الجهة المضادة من الصراع.

“لا يوجد مثل مروان”.. زيارة إلى مسقط رأس البرغوثي

يتغير مناخ الفيلم عندما ابتعد عن الحوارات المباشرة والنفَس التلفزيوني التقريري الذي طبع ثلثه الأول، وتحول إلى بورتريه عائلي حميمي عندما بدأ بمرافقة زوجة البرغوثي فدوى وأولاده وبنته الوحيدة. تأخذ فدوى فريق الفيلم إلى قرية كوبر في الضفة الغربية، حيث وُلد البرغوثي وعاش طفولته، وتشير إلى مكان في حديقة البيت القديم لهم، حيث دفن كلب البرغوثي الذي قتلته قوات الاحتلال الإسرائيلي.

يرافق فدوى ابن البرغوثي الأكبر قسام، ويؤكد في حديث للكاميرا بأن والده عائد لا محالة إلى فلسطين، بينما يروي أطفال من القرية باللغة العربية تفاصيل عن إطلاق نار من القوات الإسرائيلية حدث في قريتهم في الليلة التي سبقت وصول فريق الفيلم إلى القرية للتصوير، في تأكيد جديد على العنف الذي يُخيّم دائما على حياة الفلسطينيين.

يعود الفيلم مرة أخرى إلى قرية البرغوثي، ليرافق في المرة الثانية ابنه قسام، ويزور خالة والده المسّنة التي ما زالت تعيش في القرية.

مروان البرغوثي مع ياسر عرفات على جدار الفصل العنصري الإسرائيلي

تتنهد خالة والده وهي تغالب دموعها عندما تستعيد ذكريات عن فخر عائلتها، وتقول “لا يوجد مثل مروان”، وتتمنى وهي تحضن ابنه الشاب أن تزور مروان مرة واحدة فقط قبل موتها، فهي ممنوعة من زيارته في السجن.

تهمة الإرهاب.. انحياز القضاء قبل بدء المحاكمة

يستعيد الفيلمُ على عجالة التاريخَ الفلسطيني الحديث، ويبدأ من عام 1967 بوصفه نقطة مفصلية حددت إلى حد كبير ما حدث بعدها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كان البرغوثي منذ شبابه منشغلا بوضع بلده وناسه، فالتحق بمنظمة فتح وهو لم يتعد السادسة عشر من عمره، وسُجن مرارا بسبب نشاطه، بل إنه أنهى دراسته الجامعية العليا وهو في السجن.

بيد أن دور البرغوثي التخطيطي في الانتفاضة الفلسطينية الثانية هو الذي يفجر غضب السلطات الإسرائيلية الكبير عليه، وسيقود إلى تلك المحاكمة المهزلة، وبعدها حُكم عليه بخمس عقوبات بالسجن المؤبد، إضافة إلى أربعين عاما بتهمة تخططيه لقتل إسرائيلي، وهي تهمة نفاها البرغوثي دائما.

يستعيد أحد القانونيين الإسرائيليين السابقين أن حاكِم المحكمة الشهيرة تلك اتهم البرغوثي بالإرهاب قبل أن تبدأ المحاكمة أصلا، وهو أمر يعد خارج كل الأعراف القضائية، ويؤكد الطبيعة غير المحايدة لتلك المحكمة.

تتذكر عائلة البرغوثي أيام المحاكمة، وأنهم كانوا فخورين بوالدهم الذي صورته الكاميرات كثيرا في لقطات وصور أصحبت اليوم أيقونية، حيث يحمل دائما إشارة النصر بيديه المكبلات بالقيود. ومن القصص غير المعروفة عن المحاكمة ما رواه الابن الأكبر للبرغوثي عن اليوم الذي اصطحبت فيه العائلة ابنها الأصغر وهو ابن أربع سنوات، وقد فرح الأب جدا لرؤية ابنه الطفل (هناك مشاهد أرشيفية تظهر البرغوثي وهو يلحظ بسعادة ابنه في المحكمة).

ما يعقب ذلك كان قاسيا إلى حد كبير، فقد ضرب إسرائيلي متطرف ابن البرغوثي الطفل على رأسه في قاعة المحكمة، وقامت مراسلة من قناة الجزيرة الإخبارية -كانت في قاعة المحكمة وقتها- بإنقاذ الطفل من ضربات أخرى لذلك المتطرف، قبل أن تتدخل الشرطة وتأخذ هذا الإسرائيلي الذي يلبس زي اليهود الأرثوذكس إلى خارج المحكمة.

“نيلسون مانديلا”.. صورة البرغوثي في أشهر زنازين العالم

حظي نضال البرغوثي السلمي وسجنه الظالم على اهتمام السياسي الجنوب أفريقي المعروف “نيلسون مانديلا”، إذ يتحدث عن البرغوثي في مناسبات عدة، ويدعو إلى إطلاق سراحه، ويعقد مقارنة بين نضال الأفارقة في جنوب أفريقيا ضد العنصرية، وبين كفاح الفلسطينيين لنيل حريتهم.

نيلسون مانديلا علّق صورة الأسيرة مروان البرغوثي في زنزانته

ويوجه الفيلم الانتباه إلى دور فدوى البرغوثي في تواصل علاقة جنوب أفريقيا مع قضية فلسطين، فقد حافظت على علاقات مع سياسيين جنوب أفريقيين يواصلون لليوم المساعدة في إطلاق البرغوثي.

ومما يذكر أن صورة البرغوثي قد علقت لفترة في الزنزانة التي حبس فيها مانديلا سنوات طويلة، وهو السياسي السجين الوحيد الذي علقت صوره في تلك الزنزانة الشهيرة.

إضراب السجناء.. صرخة الجوع القادمة من خلف الأسوار

تصادف تصوير الفيلم الوثائقي مع انطلاق إضراب عن الطعام بدأ به البرغوثي مع سجناء عرب، احتجاجا على المعاملة القاسية التي يتعرضون لها، وأيضا لنقل البرغوثي إلى سجن داخل إسرائيل، وهو أمر يخالف القوانين الدولية التي تنص على عدم نقل سجناء دول مُحتلة إلى داخل أراضي الدول التي تمارس الاحتلال.

يبدأ الفيلم بتسجيل تأثير يوميات الإضراب على الذين في الخارج، وبالتحديد عائلة البرغوثي التي قادت النشاط العام للفت الانتباه لمأساة السجناء السياسيين الفلسطينيين.

يرافق الفيلم فدوى البرغوثي أثناء نشاطها العام، ويحاول أن يتقرب مما يحدث في السجون الإسرائيلية عبر مقابلة سجناء سابقين، إضافة إلى عرض مشاهد أرشيفية من مقابلة مع مروان البرغوثي نفسه، ويكشف بتفاصيل كثيرة ما تعرض له وما شهد عليه من ممارسات غير قانونية تجاه سجناء عرب.

يزداد الضغط النفسي على الجميع مع تواصل الإضراب، وشحّ المعلومات المتوافرة من داخل السجن عن حال السجناء الصحي.

قسام ومروان.. خمس سنوات من الحميمية في سجن واحد

كان قسام -وهو ابن البرغوثي الأكبر- الوحيد الذي سمح له بزيارة والده في الأيام الأولى للإضراب، ويروي أن الجوع له آثار صحية كبيرة، وأن الجميع يعاني من الصداع الذي لا يقاوم، ويتحدث عن والده قائلا: “أتمنى أن يستطيع النوم حتى يخف الصداع”، ثم يتهدج صوته ويترك المقابلة ويذهب إلى غرفة أخرى، إذ لم يرغب أن يضعف أمام الكاميرا.

لقطة من الفيلم لطفلة تجلس أمام جدار الفصل العنصري

حُبس قسام أيضا في شبابه خمس سنوات، وكان مع والده في السجن نفسه، ويتذكر أن والده كان يذكره أثناء سجنهما معا بثقل اسم العائلة، ودورهما الذي يجب أن لا يتوقف حتى في فترات السجن، وأنهما يجب أن يكونا قدوة وعونا للسجناء السياسيين معهم.

يعي قسام التركة النفسية لحمل اسم مروان البرغوثي، فيبوح في مقابلة حميمية بأن عليه أن يذكر نفسه بأن لا يُظهر أي ضعف أمام الناس أو الإعلام، وأن ألمه الشخصي بتغييب والده في السجن يجب أن يأتي في المرتبة الثانية أمام ألم الناس الذين فقدوا أحبابا لهم.

فدوى.. مناضلة تحارب في الخارج من أجل زوجها

تتحدث فدوى البرغوثي للكاميرا قائلة إنها تفتقد زوجها، بينما تشاهد مشاهد أرشيفية له على شاشة حاسوب في بيتها، لقد وجدت زوجة البرغوثي نفسها في موقع لم تكن تتوقعه، إذ كان عليها أن تربي أولادها في موازاة عملها العام، ولفت الانتباه العالمي لمظلومية زوجها.

وتشير فدوى إلى أبنائها وأحفادها الذين كانوا يجلسون حولها، ثم تقول: “درسوا وتخرجوا وتزوجوا وأنجبوا الأولاد دون أبيهم”. لم تكن الرحلة سهلة أبدا للمرأة الفلسطينية التي سافرت إلى دول عدة، وحاربت على عدة جبهات للتذكير بسجن زوجها غير العادل.

كان يمكن لمروان وفدوى أن يعيشا حياة سعيدة، فقد توفرت لهما فرص للعيش في دول عدة في سنوات زواجهما الأولى، بيد أن حبهما وارتباطهما بفلسطين، جعل هذه الفكرة غير مقبولة أبدا.

يقترب مشهد طويل في نهاية الفيلم من تصوير العذاب المتواصل الذي تعيشه فدوى البرغوثي، إذ يرافقها الفيلم وهي تستعد لزيارة زوجها في السجن بعد منع طويل، وكانت تجرّ لمسافات طويلة حقيبة الكتب الثقيلة التي يطلبها زوجها المحب للقراءة، قبل أن تصعد الحافلة التي تنقلها إلى السجن الإسرائيلي.

ترتسم ابتسامة عذبة على وجه فدوى وهي في الطريق لمقابلة زوجها، لكن هذه الابتسامة ستغيب في طريق العودة، ذلك أنها مُنعت من زيارة زوجها، بعد أن كانت قد حصلت قانونيا على إذن الزيارة، وبعد يوم طويل قضته في الانتظار أمام الحواجز المسلحة.

فدوى البرغوثي زوجة الأسير مروان البرغوثي أمام صورته

لم تكتفِ السلطات الإسرائيلية بمنع فدوى من زيارة زوجها في ذلك الوقت الذي سجله الفيلم الوثائقي، بل عاقبت الزوجة بدون أي أسباب من زيارة زوجها ثلاث سنوات كاملة.

صلابة الأسير.. صور أيقونية من أرشيف التحدي

ليس هناك أرشيف ضخم لمروان البرغوثي، فهو مسجون منذ سنوات طويلة، وسلطات الاحتلال الإسرائيلي تتحكم بصوره التي تصل إلى الخارج، لكن هناك أرشيفا مصورا يسبق سجنه، ويتألف في معظمه من صور وفيديوهات من قلب الأحداث الساخنة، مثل المشاهد التي تظهره وهو يركض، بينما أصوات الرصاص من حوله يصم الآذان، وهناك مشاهد أخرى من إلقاء القبض على البرغوثي ونقله بوحشية في مدرعات الجيش الإسرائيلي.

أما الصور والمشاهد الأرشيفية التي صُوِّرت أثناء محكمة البرغوثي فقد عبرت حواجز التغطيات التلفزيونية التقليدية، وأصبحت رمزا عالميا للكفاح ضد الظلم. إن ما يميز مشاهد المحكمة تلك هو نظرة التحدي والتصميم المرسومة على وجه البرغوثي، وعلامة النصر التي لم يتوقف عن رفعها رغم القيود الحديدية في يديه.

كما ينجح هذا الفيلم في الحصول على عرض مقابلة نادرة للبرغوثي من السجن، كانت القناة البريطانية الرابعة سجلتها معه قبل سنوات. تظهر هذه المقابلة المعدن والصلابة الفريدة لمروان البرغوثي، والخسارة الكبيرة التي خسرتها فلسطين والمنطقة لسجنه، وأيضا الإلهام الدائم الذي يمثله للفلسطينيين، وقد بدا جليا في هذا الفيلم.

يخبرنا الفيلم في نهايته بأنه من المقرر أن يُرشح البرغوثي نفسه في الدورة الانتخابية الجديدة لرئاسة فلسطين، وأن جميع التوقعات تقول بفوزه في هذه الانتخابات. ومن الجدير بالذكر أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي اعتقلت مروان البرغوثي منذ عام 2002، وما زال حتى اليوم في سجونها على أمل الحرية.


إعلان