“جايير بولسونارو”.. صورة أخرى للبرازيل في عهد الزعيم الشعبوي

يستشرف الوثائقي الفرنسي “جايير بولسونارو.. البرازيل الأخرى” (Jair Bolsonaro, un Autre Brésil) اقتحام مناصري الرئيس البرازيلي الخاسر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة مبنى مجلس النواب البرازيلي والقصر الرئاسي والمحكمة العليا قبل وقوعها بالفعل، عبر طرحه السؤال الآتي في ختام مساره: هل سيترك “بولسونارو” السلطة ويسلم الحكم لخلفه حسب التقاليد الديمقراطية، أم أنه سيشكك بنتائج الانتخابات ويحرض مؤيديه على مهاجمة رموز المؤسسات الديمقراطية؟

يأتي السؤال بعد مراجعة سينمائية حصيفة للسياسات التي اتبعها الرئيس اليميني الشعبوي خلال سنوات حكمه، فقد تركت أثرا سلبيا عميقا في كل مناحي الحياة البرازيلية، كما أحدثت شرخا حادا بين أبناء الشعب الواحد، لن يزول بمجرد رحيل الرجل الذي تسبب فيه، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية التي تواجه البرازيل اليوم، ويكتسب الوثائقي معناه الحقيقي بسبب مراجعته لها، ومعرفة ما تركته سياساته من خراب عام يصعب إصلاحه.

“جايير بولسورو”.. سلوك قائد يميني لا يعبأ بغير مصالحه

تُثَبت صانعة الوثائقي “إنغريد بيبونيو” وزميلتها “لاتيتا روسي” في مفتتح الفيلم حقائق تتعلق بطبيعة شخصية الرئيس السابق “جايير بولسونارو” وسلوكه السياسي، وأبرزها قدرته على افتعال المشاكل وتهييج الرأي العام لغايات سياسية يريد الوصول إليها، إلى جانب عدم قناعته بالديمقراطية، وميله بسبب تربيته العسكرية للحكم الفردي الديكتاتوري.

يتضح ذلك من خلال سيطرته على مقاليد الحكم وحصرها بينه وبين أولاده، وفوق كل هذا إصراره على المضي في تنفيذ سياسته اليمينية، وعدم التراجع عنها حتى بعد ثبوت فشلها. وأكثر الأمثلة سطوعا على ذلك النهج سياسته غير المسؤولة في مواجهة جائحة كورونا التي راح ضحيتها قرابة 600 ألف مواطن من أبناء الشعب البرازيلي.

لم يتراجع “بولسونارو” عن موقفه واستهتاره بأرواح الناس رغم الانتقادات الحادة والكثيرة التي وجهت إليه، واضعا البرازيل بين أكثر دول العالم تضررا بالوباء.

“المرض ليس أكثر من نزلة برد”.. جريمة بحق الشعب

المشاركون في الوثائقي هم من الصحفيين المختصين بالشأن البرازيلي، وبعض المحللين السياسيين المحليين، وهم يحيلون أسبابَ ذلك السلوك غير المنطقي في زمن الوباء إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية البائسة التي وصلت إليها الفئات الفقيرة من المجتمع البرازيلي، إذ يعرف الرئيس الشعبوي أن حكومته عاجزة عن تأمين الرعاية المطلوبة لها، في حال دعوتها للمكوث في بيوتها وعدم الخروج منها، ضمانا لعدم إصابتها بالمرض.

على العكس من ذلك، شجعهم الرئيس على الخروج للعمل بدعوة أن “المرض ليس أكثر من نزلة برد”، وأنه شخصيا لا يخشى الإصابة به. والنتيجة موت أكثر من نصف مليون مواطن.

جائحة كورونا كشفت عورات النظام اليميني

يتفق المحللون على أن تلك السياسة يراد بها إخفاء فشل الحكومة في تأمين الحد الأدنى من الضمانات الصحية والاجتماعية للمواطن، لكنها في الوقت نفسه كشفت عن زيف ادعاءاتها، وفشل “برنامج الدعم الحكومي” الذي تبجحت به، وصار يتقلص تدريجيا منذ ظهور الوباء، حتى وصل إلى مستويات لا تكفي حتى لتأمين أبسط الاحتياجات الأساسية.

عودة الطبقية.. حالة الفقر الأشد في تاريخ البلاد

يتوقف الوثائقي عند تلك النقطة ليقدم جردا بمستويات الفقر في البرازيل، وبسببه يموت اليوم كثير من سكانها جوعا، أمر لم تشهده البرازيل قبل وصول “بولسونارو” للحكم، كما لم تشهد بروزا للفوارق الطبقية بين الفقراء والأغنياء كما تشهده في زمن الرئيس اليميني، وبلغت مستوياتها درجة عالية تضع البرازيل بين أكثر دول العالم تمايزا بين الأغنياء والفقراء.

يصف الصحفي البرازيلي المشارك في الوثائقي “سيلفيو كوستا” حالة الفقر بأنها الأشد في تاريخ البرازيل، وبسببها أضحى أكثر من ثلثي سكانها غير متأكدين من حصول عوائلهم على الطعام المطلوب، في ظل الظروف الاقتصادية التي يعيشونها.

يحيل الصحفي أسباب ذلك إلى السياسية الاقتصادية التي انتهجتها حكومة “بولسونارو”، وتمسكها بمبدأ “الاقتصاد الليبرالي” الذي يعني خصخصة كل موارد الدولة الطبيعية ومشاريعها، وهي سياسة تعود بالنفع لأصحاب المصالح والمشاريع العملاقة، وبشكل خاص مشاريع “الصناعة الزراعية”.

أسباب اهتمام المستثمرين الأثرياء والمقربين من الرئيس السابق بهذا الجانب من الاستثمار يعود إلى كون البرازيل بلدا زراعيا متطورا، يشكل الإنتاج الزراعي لوحده ربع دخله القومي.

“خرّب بولسونارو خلال حكمه كل ما بنيناه خلال 30 سنة”

لضمان تأييدهم له عمل “بولسونارو” من اللحظات الأولى لتوليه الحكم على استقطاع مساحات كبيرة من غابات الأمازون المطيرة، ومنحهما لهم ليحولوها إلى مزارع خاصة، لقد خرب بسياسته المحميات الطبيعية، وعرّض سكانها الأصليين للخطر، بسبب مهاجمة مرتزقة الشركات الرأسمالية لهم، وتخويفهم بغية الابتعاد عن الأراضي التي منحتها لهم الحكومة، ويصف زعيم قبيلة أمازونية الحدث قائلا: “لقد خرّب بولسونارو خلال سنوات حكمه الأربع كل ما بنيناه خلال 30 سنة”.

زعيم قبلية أمازونية يقول إن لقد بولسونارو خرّب خلال أربع سنوات ما بنوه خلال 30 عاما

كما قاد حملة منظمة لضرب المنظمات المدافعة عن البيئة، والمحتجة على تحويل ملكية مساحات كبيرة من غابات الأمازون، إلى أصحاب رؤوس الأموال الذين يعملون على تدمير مياهها وهواءها، وتسببوا في إشعال الحرائق في أشجارها ونباتاتها.

يقارب الوثائقي موقف الرئيس البرازيلي من الدعوات الدولية لوقف نزيف غابات الأمازون بموقف الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، من ناحية توجيه تهمة التآمر لكل من يقف ضد سياسته.

هكذا أعلن الرئيس البرازيلي في لقاء دافوس عام 2019 رفضه لدعوات القادة المشاركين فيه للحد من الأخطار الجدية التي تهدد “رئة العالم”. وقد رد عليهم صراحة بأن هذا جزء من بلده، وهو حر في التصرف به، ولكسب المزيد من الشعبية صرح لوسائل الإعلام المحلية عند عودته من الاجتماع بأن الغربيين ما زالوا ينظرون إلى البرازيل باعتبارها مستعمرة قديمة لهم.

المدرسة العسكرية.. أقصر الطُرق لمجاراة الأغنياء

للربط بين مواقفه السياسية وتكوينه الشخصي يراجع الوثائقي جانبا من تاريخه، وفيه يكشف تناقضات تميط صانعتاه اللثام عنها، عبر بحثهن الميداني عن جذوره العائلية وتكوينه النفسي، ليعرف العالم أي شخصية معقدة حكمت واحدا من أكبر دول القارة اللاتينية، وتسببت في تخريب بنيتها الاجتماعية والاقتصادية.

تذهب المخرجتان إلى القرية التي ولد فيها، لمقابلة عدد من أصدقاء طفولته وزملاء دراسته، ففي القرية الصغيرة عانى الطفل “بولسونارو” من عقدة الفقر، فقد كان والده قالع أسنان شعبيا، ومزارعا في حقول ملاك الأراضي الأغنياء.

تدمير الأمازون من أجل عيون الأثرياء

هؤلاء الأغنياء لم يسمحوا للفقراء من أمثاله بالاقتراب من بيوتهم الفخمة، وكان عليهم الاكتفاء بالتفرج على سكانها من بعيد ومن خلال بواباتها الحديدية، لقد كره الأغنياء وظلت الرغبة في مساواتهم تراوده، لهذا وجد في العسكرية أقصر الطرق لتحقيق حلمه في مجاراتهم. فقد دخل وهو ابن 17 من عمره المدرسة العسكرية، وتفوق في دراسته، ثم أكملها وتخرج منها ضابطا، وفي عام 1964 وصل العسكر إلى السلطة بانقلاب مهّدوا له بالدعاية ضد الشيوعية وتصفية المعارضة.

تقريب الجيش.. رحلة إلى الرئاسة على رقاب العسكر

تعلّم “بولسونارو” من قادته دروس السيطرة على الحكم جيدا، وبموهبة لافتة راح يحيط نفسه بمجموعة مختارة من أفضل الضباط، وبالرغم من حب قادته له، فقد نشط في تأليب الجو ضدهم، من خلال المطالبة برفع رواتب صغار الضباط، لقد كان هذا أول نشاط سياسي له بالمعنى العملي، وبه مهّد لنفسه الانتقال إلى العمل السياسي خارج أسوار المعسكرات.

ترك الجيش بعد أكثر من 15 سنة من الخدمة العسكرية، ليدخل عالم السياسة. بلباقة واضحة وتدبير سياسي محكم صار متحدثا باسم مجلس الشعب الذي وصل إليه بفضل أصوات العسكر والضباط المؤيدين له، ومنذ دخوله إليه بفضل نهجه العدائي والمثير للجدل المقارب لنهج الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”؛ لفت إليه انتباه وسائل الإعلام، وكسب ود التيارات اليمينية المتطرفة، لقد ربط بإتقان مصالحه بمصالح الجيش، وطالب برفع رواتب المنتسبين للقوات المسلحة وتحسين أوضاعهم، وذلك بمنحهم مزيدا من الامتيازات.

ترامب الملهم للشعبوية البرازيلية

خلال فترة رئاسته أضحى الجيش وقادته ذراعه اليمنى والضامنين لحماية سلطته من كل انقلاب محتمل. المفارقة الغريبة أنه بعد فترة وجيزة من حكمه بدأ بإبعاد قادة الجيش من المراكز الحساسة المهمة التي منحها لهم أول الأمر، لكنه ظل يعتمد عليهم ولم يجردهم من امتيازاتهم الكبيرة.

يحيل الوثائقي السبب إلى رغبته في حصر قيادة البلد بعائلته وأولاده فقط.

“فلافيو بولسونارو”.. تهور الابن الطامح في وراثة السلطة

يكرس الوثائقي جزءا من وقته لمتابعة نشاط أولاد “بولسونارو”، وبشكل خاص “فلافيو بولسونارو” أكبرهم سنا، وأكثرهم طموحا في وراثة السلطة من أبيه.

تكشف اللقاءات معه عن الأدوار التي يقوم بها لتضليل الرأي العام، وكسب المؤيدين لسياسة والده من خلال تخويفهم بالخطر اليساري القادم، والمتمثل بالأحزاب الاشتراكية والعمالية. يشرف بنفسه على وسائل التواصل الاجتماعي التي تضمن لوالده ملايين المعجبين، يتباهى أمام صانعتي الوثائقي بدوره في تأليب الرأي العام ضد المعارضة، واستغلال محاولة اغتيال والده عام 2018 خلال حملته الانتخابية في مدينة ميناس، ودخوله المستشفى لإجراء عملية جراحية له لكسب عطف الجمهور الواسع، وجرّه إلى جانبه.

وهو يعمل مع بقية أفراد عائلته على تشكيل فرق من المسلحين المرتزقة، لتخوف المعارضين لوالده، وبشكل خاص الصحفيين منهم. يقابل الوثائقي عددا من الصحفيين الذي تلقوا تهديدات بالقتل، أو اختلاق قصص مفبركة ضدهم تمس سمعتهم المهنية والشخصية.

تحالف الدين والمال.. أساليب تقليدية للشعبوية الديكتاتورية

يعمل الأبناء مع بقية مسؤولي الحكومة على كسب تأييد رجال الكنيسة للوقوف إلى جانب والدهم، كما وقفت معه في السابق خلال الانتخابات الرئاسية، لضمان ما تريد الحصول عليه من نفوذ وسلطة.

يقدم الابن الأكبر معلومات عن دور رجال الكنيسة في إيصال والده إلى دفة الحكم من خلال إقناع 40% من المسيحيين الإنجيليين للتصويت لصالحه، وتشكل الكنيسة الإنجيلية مع عائلة “بولسونارو” تحالفا سياسيا قويا، مكونا من الجيش وكبار ملاك الأراضي وأصحاب مشاريع التصنيع الزراعي، ومن الرأسماليين الأثرياء.

يصف خبير سياسي أمريكي متخصص بالحركات اليمينية المتشددة التركيبة المكونة لذلك التحالف بـ”التمثيل الحقيقي للشعبوية الديكتاتورية”، ويهدف لإبعاد أي منافس له بوسائل غير نزيهة، كما وقع مع الرئيس البرازيلي السابق “لويس إيناسيو لولا دا سيلفا” الذي أدخل السجن بتهم فساد ملفقة.

انتخابات الرئاسة.. سقوط غير متوقع وصمت يطرح الأسئلة

لم تتمكن كل تلك السلطة وامتيازاتها ولا حتى متانة التحالف الشعبوي من منع المعارضة من الفوز في الانتخابات الأخيرة التي فاجأت نتائجها الرئيس السابق، وقد لزم الصمت أول الأمر، مما دفع الوثائقي لطرح سؤاله المركزي هل سيقبل بالنتيجة، أم أنه سينهج نفس نهج “ترامب”؟

أثبتت الأحداث مشروعية السؤال، كما كشف البحث السينمائي عن حيثيات التغييرات البنيوية العميقة التي أحدثها وجود زعيم يميني شعبوي على رأس سلطة كرّست هيمنة عسكرية ديكتاتورية، وأحدثت شرخا مجتمعيا عميقا.

وبسبب ذلك -كما يظهر في القسم الأخير من الوثائقي- برزت تيارات يمينية مسلحة تؤمن بأخذ السلطة بالقوة، وبتصفية الخصوم السياسيين، وعدم الإيمان بالوسائل الديمقراطية التي أوصلت زعيمهم للحكم قبل أربع سنوات، لكنهم لا يريدون اليوم تسليمه لغيرهم بنفس الأسلوب، تماما كما فعل ملهمهم “ترامب” يوم أوحى إلى مناصريه باقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي، بعد خسارته الانتخابات الشرعية.