أسمهان.. أميرة أطربت الساسة ولاعبت المخابرات وكسرت تقاليد الجبل
ليس من التجنّي القول إن القدر الذي خطّ تفاصيل حياة آمال الأطرش أو أسمهان كان مبدعا وغريبا وغامضا، فمن يقرأ كل ما كُتب عن أميرة جبل الدروز وأشهر مطربات القرن الماضي لن يفوته أن يلخّص حياة أسمهان، تلك الأميرة الهاربة في سطرين؛ “ولدت في البحر على ظهر سفينة محاطة بأمها وأخويها الهاربين من الموت، وألقت بنفسها في يمّ المخابرات البريطانية والفرنسية، قبل أن تبتلها ترعة في الطريق قرب دمياط في مصر”.
وبقدر صفاء عينيها التي سحرت كل المحيطين بها، وعبقريتها في الغناء والأداء، كانت حياتها مضطربة مثل يمّ هائج، وسُطّرت خاتمتها بمأساوية وغموض.
آمال الأطرش.. ولادة يلفّها الغموض في مركب هارب
لفّ الغموض ميلاد أسمهان أو آمال الأطرش تماما مثلما لفّ تفاصيل نهايتها، واختُلف على تاريخ مولدها، فأرجعه صديقها الصحفي المصري محمد التابعي إلى العام 1912، بينما تقول الباحثة شريفة زهور في كتابها “أسرار أسمهان: المرأة، الحرب، الغناء” إنها وُلدت في العام 1917، على العكس مما قاله أقاربها الذين يرجعون تاريخ ميلادها إلى سنة 1918.
وعلى كل حال، فقد كانت نهاية العام 1917 تنذر بنهاية الإمبراطورية العثمانية التي مزّقتها الحرب العالمية الأولى، وقُضمت أغلب أراضيها، وفي تلك الفترة استقر فهد الأطرش وزوجته علياء المنذر في منزل يشبه القلعة فوق تلة في مدينة ديميرجي بالأناضول صحبة ابنيهما فؤاد وفريد، وكانت علياء حاملا بابنتها آمال.
تروي شريفة زهور اللحظات التي قادت عائلة فهد الأطرش الموظف لدى الباب العالي للهروب من الأناضول، وتقول: اندفع فارس في الطريق إلى القلعة، ولما اقترب من البوابة أبطأ سيره، فاعترضه الحراس، لكنه أصرّ على التحدث إلى رب الأسرة فهد الأطرش أو إلى زوجته. قال منذرا إياهم: اليونانيون قادمون في غضون يوم أو يومين على الأكثر، سوف يصلون، يجب أن ترحلوا على الفور. كانت الزوجة حاملا تنتظر ولادة طفلها، والرحلة المفاجئة قد تؤدي إلى الوضع قبل الأوان، ورغم ذلك قرر فهد وعلياء الهروب.
توجهت العائلة الهاربة نحو أزمير، ومن هناك ركبت زورقا واتجهت إلى بيروت. وفي الثالث والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917 -حسب أغلب المصادر- وضعت علياء طفلتها خلال رحلتهم في البحر. ويروي فؤاد الأطرش قصة ولادة أخته قائلا إنه قد وقع خلاف بخصوص تسميتها، إذ اقترح الأب اسم بحرية، لكن الأم اعترضت قبل أن يتفقا على اسم آمال.
علياء المنذر وفهد الأطرش.. قصص أمراء في روايات الأطفال
يرجع نسب أسمهان إلى عائلة الأطرش الدرزية التي تملك نفوذا في سوريا، فقد سيطر إسماعيل الأطرش جد أبيها على جبل الدروز في العام 1858 فذاع صيته، أما أبوها فهد فقد كان قائم مقام لدى الباب العالي في بيروت، وكان أميرا، وكسبت زوجته أيضا لقب الأميرة.
وتشبه قصة والدي أسمهان قصص الأمراء في روايات الأطفال، فقد هام فهد الأطرش بعلياء المنذر التي تعود أصولها إلى عائلة لبنانية درزية، واختطفها حتى يتمكن من الزواج منها.
كان الدروز إحدى الورقات التي راهن عليها الفرنسيون في بداية العام 1920 لضمان هدنة في منطقة الشام ولبنان، لذلك توجهت أعين رقبائهم إلى فريستهم وهي عائلة فهد الأطرش، وخططوا لاعتقال علياء وأبنائها الثلاثة حتى يضمنوا هدنة مع عشيرة زوجها، غير أن الأم تمكنت من الهرب باحثة عن الأمان لأبنائها في أرض تحت الهيمنة البريطانية، وبدأت في العام 1923 رحلتها من بيروت نحو مصر، المحطة التي ستفرش الورد والشوك في طريق أسمهان.
تقول الباحثة شريفة زهور في كتابها “أسرار أسمهان: المرأة الحرب الغناء”: باعت علياء سيارتها بناء على نصيحة من ابنها فؤاد، وامتطت القطار متجهة إلى مصر، لكن موظف الهجرة في منطقة القنطرة أوقفهم بسبب عدم امتلاك علياء وثائق سفر، فطلبت منه الاتصال بسعد زغلول رئيس الوزراء آنذاك، وأن يخبره أن علياء المنذر الأطرش قريبة سلطان الأطرش تناشده أن يكون كافلها.
تابعت العائلة السير إلى القاهرة واستأجرت الأم شقة في حي فقير وصفها فريد الأطرش في كتاب “مذكرات فريد الأطرش” قائلا: سكنّا في حجرتين صغيرتين أشبه بأقفاص العصافير، وعرفت أن في سفرنا إلى القاهرة كانت نجاتنا من ظلم الفرنسيين الذين كانوا يعتزمون اعتقالنا، انتقاما لوطنية أبي وثورة أبناء عشيرتي، كما أن الصدمة التي هزتني هو مشهد والدتي وهي تكد على شغل الإبرة.
حين وصلت العائلة إلى القاهرة لم تكن أسمهان قد تجاوزت ثماني سنوات من عمرها، وبدأت الأم تخطط لحياتها الجديدة، واستغلت إتقانها الحياكة للعمل من أجل إعالة أطفالها، غير أنها خاطت دون قصد قدر ابنها فريد وابنتها أسمهان حين أورثتهما صوتها الجميل في مرحلة أولى، وحين فُتح لها باب احتراف الغناء صدفة لتجرّ ابنيها على مهل لأضواء الشهرة.
“ديفيد”.. اليد التي أطلقت الحناجر الذهبية لعائلة الأطرش
يروي الكاتب محمود صلاح في كتابه “أسمهان الليلة الأخيرة” أن اليد الأولى التي أطلقت الحناجر الذهبية لعائلة الأطرش وسط القاهرة كانت يد موسيقي وعازف يدعى “ديفيد” يسكن بالقرب من شقة عائلة الأطرش في القاهرة، ويقول صلاح: خلال فترة إقامة عائلة أسمهان في القاهرة اعتادت علياء أن تغني وهي تعمل على آلة الحياكة، وسمعها عازف يدعى “ديفيد”، فقام بزيارتها واقترح عليها تسجيل بعض الأغاني التي سيمنحها لها، وعرض عليها مبلغ عشرة جنيهات مقابل كل أسطوانة، وقبلت الأم هذا العرض.
غير أن ابنها الأكبر فؤاد رفض أن تحترف أمه الغناء، ووضع على الطاولة تقاليد الدروز والعشيرة، ويستحضر فريد الأطرش في مذكراته غضب أخيه قائلا: رفض شقيقي فؤاد أن تحترف أمي الغناء، كذلك رفض أن تحترف أختنا أسمهان الغناء. كيف وكيف وكيف؟ ويمكن أن تتخيل الباقي، وكأن تقاليد جبل الدروز مودعة أمانة في عنقه، وكأن الغناء عمل يتنافى مع الأخلاق، لكن أسمهان التي تتمتع بحنجرة غنائية صافية تجعل من الحلم حقيقة في متناول الأذن لم يكن بالإمكان حجب صوتها عن الميكروفون مهما كانت الصعوبات، ووجدت أسمهان نفسها تغني بحكم الواقع الذي عاشته أمي من ناحية، وأنا من ناحية ثانية، إلى أن راح صوتها ينمو وذاكرتها الموسيقية تشتد وعودها الطري ينضج.
فتحت علياء المنذر منزلها للمهاجرين السوريين واللبنانيين، وحددت يوما لاستقبالهم، وهو أول ثلاثاء من كل شهر، وكان صوتها جميلا، وكان ضيوفها يطلبون منها في كل مرة الغناء، وفي البداية كانت علياء تخشى الغناء مقابل أجر خوفا من عشيرة زوجها، ورغم ذلك فقد فتحت بابها للموسيقيين.
تقول الكاتبة شريفة زهور: في تلك الفترة بدأ نجم الفنانة منيرة المهدية يسطع بعد دخولها إلى فرقة سلامة حجازي، قبل أن تنشئ فرقتها الخاصة، وظهرت أيضا في تلك الفترة بديعة مصابني التي كانت تملك مسرح منوعات غنائية، وتستأجر مطربات مثل فتحية أحمد ونجاة علي وليلى مراد. وكان نجم أم كلثوم قد سطع أيضا، وكان أول إعلان شاهدته أسمهان في القاهرة عن أم كلثوم حينها سألت أمها قائلة من هي تلك المرأة التي تلبس حطة الرجل الدرزي؟ ولم تكن تلك المرأة سوى أم كلثوم التي كانت تضع لباس الرأس الخاص بالرجل.
“يا ابنتي أنت فتاة غير عادية”.. بدايات اكتشاف الموهبة
بدأت أسمهان تكشف موهبتها بصحبة أخيها فريد، ولقي الأخوان الدعم من أستاذهما في المدرسة مدحت عاصم، وكانت آمال تغني كل ما تحفظه خلال ارتيادها لمسارح الغناء التي تزورها صحبة شقيقها فريد وفؤاد.
لم تتجاوز أسمهان 15 عاما حين بدأت تغني في مجالس العائلة، ويقول شقيقها فريد الأطرش في مذكراته: حدث أن سمعها عدد من الأصدقاء مثل زكريا أحمد وداود حسني ومحمد القصبجي وغيرهم، فتحمسوا لها ورأوا أنه قد أصبح من الملائم أن تغني للجمهور، هنا اعترض أخي فؤاد ورفض، ومن ثم كان عليه أن يرضخ أمام أراء الأكثرية: أمي وأسمهان وأنا، وغنت أسمهان من ألحاني “نويت أداري ألامي” و”عليك صلاة الله وسلامه” و”رجعت لك حبيبي”، فكانت مدهشة.
لم يحسم أي أحد حقيقة مكتشف أسمهان، فمحمود صلاح يرجع الفضل إلى العازف “ديفيد” مكتشف صوت والدتها علياء، أما فريد الأطرش فيقول: هناك موسيقيون كثر يدّعون أنهم اكتشفوا صوت آمال الجميل عندما كانت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من العمر. وفي ذلك الوقت كانت الأسرة تعرف مجموعة من الموسيقيين، منهم سامي الشوا ومدحت عاصم ومحمد القصبجي. عادت أمل ذات يوم من السينما، وحاولت أن تغني ما سمعته من غناء “جانيت ماكدونالد”، وتزامن ذلك مع مجيء القصبجي، فاستمع لها وأعجب بها ووصفه بأنه من الفردوس.
وقيل أيضا إن القصبجي سمعها وكان معه الشيخ محمود سابا وهي تغني “سكت الدمع وتكلم” التي لحنها القصبجي وألفها أحمد رامي، وقال عنها الشيخ سابا: عندما ينضج هذا الصوت سيكون له مستقبل عظيم.
وقال عنها داود حسني وهي تؤدي إحدى أغاني أم كلثوم “يا ابنتي أنت فتاة غير عادية”، ويُنسب إلى داود حسني أيضا فضل إعطائها اسمها الجديد أسمهان بدلا عن آمال، وقال لها إنها لا تستطيع أن تغني باسم آمال أو إيميلي، وأعطاها اسمها الفني وهو أسمهان رغم معارضة أمها.
بدأ داود حسني بتعليم أسمهان الغناء وأصول العزف على العود، وتبناها القصبجي من أجل تعليمها المقامات، وعلّمها زكريا أحمد قواعد الصوت، وتلقت دروسا في التأليف الموسيقي على يد فريد غصن.
تقول الباحثة شريفة زهور في كتابها “أسرار أسمهان المرأة الحرب الغناء”: سمع محمد عبد الوهاب أسمهان في منزل السيدة زبيدة شهاب تغني، وكان قد بدأ بالبروز حينها، واختارت أسمهان موالا لبنانيا غناه فرج بيضا حزنا على أخيه، فقال عبد الوهاب ربما كانت أسمهان فتاة صغيرة، غير أن صوتها كان بلا شك صوت امرأة ناضجة. حينها قدم عبد الوهاب نصحه لأسمهان عن التغيرات في الموسيقى وعن السينما التي تخلق جمهورا للمغني.
حفلة الأوبرا.. اكتمال بريق الشهرة وخطف أنظار الساسة
تركت أسمهان المدرسة لاحتراف الغناء بعد أن وقّعت عقدا مع شركة كولومبيا للأسطوانات، وضمّ العقد تسجيل خمس عشرة أسطوانة مقابل عشرين جنيها عن كل أغنية، حينها سعت أسمهان إلى تعلم كل أشكال الموسيقى الشرقية، بما فيها الأغاني الشعبية اللبنانية والسورية، واستوعبت تقنيات موسيقى الشام الصعبة، بما في ذلك أداء المواويل التي كانت تعرضها على أمها وعلى مطربين من الشام.
لاح بريق الشهرة من بعيد للفتاة التي لم تبلغ العشرين بعد، وذلك حين تلقت دعوة للغناء في الأوبرا. كانت تلك انطلاقتها الحقيقية التي وضعت لها تاجا حقيقيا من النقاد والجمهور، ففي تلك الليلة وقفت أسمهان بثوبها المتواضع وجسدها النحيل ووشاحها الذي ربطته حول رأسها، وغنت أمام الجمهور وأثنى النقاد على أول ظهور لها في الأوبرا، وكانت تلك الحفلة هي المفتاح الذي فتح لها الباب لتستقبل الزوار في منزل أسرتها، وكان من بينهم أم كلثوم.
بدأت أسمهان تجذب الجميع بصوتها، بما في ذلك رجال السياسة والأعمال، حتى أن طلعت حرب كان قد هاتفها في شقتها الجديدة في غاردن سيتي، وطلب منها الغناء هي وفريد في حفلة مساء ذلك اليوم، وأعجب بها وأصبح راعيا لها، حتى أنها كانت ضيفته الدائمة صحبة فريد في منزله الريفي. أصبحت فنانة الحفلات الخاصة، وأغدقت عليها الأموال، ثم غنت في الإذاعة هي وأمها وشقيقها فريد خلال سنوات احترافها الأولى.
فؤاد الأطرش.. ابن الأمير البكر الحريص على تقاليد الجبل
استفادت أسمهان من علاقتها المتينة بطلعت حرب باشا الذي “استعمل نفوذه لتوقع أسمهان عقد تسجيل جديد مع شركة الدكتور بيضا بيضافون، وبدأت تشق طريقها نحو المجالس والشهرة، وكان أخوها فؤاد يراقبها على المسارح وفي جلساتها الفنية الخاصة، وكان يراقب أيضا نضجها كامرأة، فكانت الفكرة لإنقاذ سمعتها هي أن تتزوج رجلا من عشيرتها حريصا على تقاليد العشيرة، فقد كان فؤاد يخشى أن تشاهد العائلة في جبل الدروز أسمهان في أحد الأفلام دون غطاء للرأس، مما قد يؤدي ربما إلى قتلها.
كانت أسمهان حينها تغني بصالون ماري منصور، ووسط آهات صوت الجمهور المتخمر بصوت أسمهان كان فؤاد الأطرش يكتم حنقه الذي غذّته زيارته إلى جبل الدروز في العام 1928، ومقابلة أبيه هناك.
كان فؤاد يسعى إلى الاحتفاظ بتاج من نوع آخر في الجبل، وهو تاج الأمير البكر لفهد الأطرش، وأنعشت الفترةُ الطويلة التي قضاها في الجبل ميلَه إلى تقاليد الدروز الصارمة، لذلك حين عاد إلى القاهرة مرة أخرى، بدأ يمنع مجالس الغناء التي دأبت أمه على تنظيمها في بيتها، ولاحق أخته في كل مكان، ولاح له الحل من بعيد، وهو البحث لها عن زوج من العشيرة.
إنهاء المسيرة.. مهمة قاتل يقع في حب ابنة عمه
ذاع صيت أسمهان في مصر وفي لبنان وسوريا بعد أن خرج صوتها من المجالس الخاصة إلى المسارح، وهو صيت لم يرض عشيرتها في سوريا. ففي العام 1933 سافر ابن عمها الأمير حسن الأطرش إلى القاهرة، وتوجه إلى منزل علياء المنذر غاضبا، وهددها قائلا إنها لم تقبل عرض زواجه من أسمهان، فإنه سيبلغ أبناء عشيرتها بأنها تحترف الغناء، وأن العائلة سترسل أحد أفرادها لقتلها هي وابنتها. حينها قبلت الأم عرض الأمير الذي قدم لها 500 قطعة ذهبية، ووعد أن يرسل لها 15 جنيها شهريا، وهكذا تزوجت أسمهان بابن عمها.
كانت تلك إحدى الروايات التي نُقلت عن زواج أسمهان الذي أبعدها سنوات عن المسارح والغناء، غير أن الباحثة شريفة زهور تفسر بدقة تفاصيل ذلك الزواج، وتقول إن فؤاد أعاد ربط علاقاته بعائلته وعشيرته في جبل الدروز، وهناك تعرف على ابن عمه حسن وأعجب به، وعاد بعد مدة وقد انطبعت في رأسه تقاليد العشيرة، وكانت شقيقته هي فريسته، لذلك فكر في تزويجها من رجل من أبناء الجبل، حيث لم ترض أمه ولا فريد ولا أسمهان نفسها.
تقول الكاتبة شريفة زهور إنه قبل أن توافق علياء على ذلك الزواج كان لا بد من تقديم ضمانات وترتيبات استفادت منها علياء مباشرة، وتروي تفصيلا دراميا آخر في قصة أسمهان نقلا عن الجنرال “إدوار سبايسرز” الذي كان في القوات البريطانية في الشرق الأوسط، وتقول: كانت أمها ذات صوت جميل مثلها، وأقامت في القاهرة، ولأنها كانت بلا دخل، فقد لجأت إلى الغناء في حفلات الأصدقاء السوريين، ولم يعارض ذلك عادات الدروز تماما، لكن عندما أصبحت تغني في الملاهي ومسارح المنوعات خالفت تلك العادات، فعزم الدروز على منعها من ذلك.
وطافوا بالقبعة وجمعوا مبلغا ماليا كبيرا من المال، ثم ضربوا القرعة بينهم، ففاز الوريث الذي لا يُنازَع بالقرعة التي تلقي عليه مهمة السفر إلى القاهرة وقتل السيدة، ولما وصل إلى القاهرة قصد المنزل الذي كانت تقطنه، وفتحت له ابنتها فوقع في حبها على الفور، وأنفق مال الجريمة على الخروج معها، وتزوجها وعاد إلى السويداء مركز الإقليم. وهذه إحدى الروايات.
تزوجت أسمهان من ابن عمها حسن في العام 1933، واكتسبت لقب الأميرة آمال الأطرش، وعاشت في فيلا في دمشق حسب شرطها، لكنها سرعان ما تراجعت عن الشرط، وقبلت الذهاب إلى السويداء لتعيش في منزل بني على تلة وكان أشبه بالحصن.
أميرة الجبل.. وساطات لدى الفرنسيين وحنين إلى القاهرة
بدأت أسمهان تفهم الوضع السياسي في سوريا، وساعدها زوجها حسن على فهم أنظمة الإدارة في دمشق، وأهمية المعاهدة السورية الفرنسية آنذاك، فقد كانت أسمهان ناضجة بما يكفي لتفهم مغزى الأحداث وما تنطوي عليه الانقسامات في الجبل، وفي ذلك الوقت كان الدروز قد عرفوا أسمهان التي تتوسط بينهم وبين الفرنسيين بين الحين والآخر.
قضت أسمهان أكثر من ثلاث سنوات في الجبل، وبدأت تتوق إلى عوالم الفن في القاهرة، وزاد حملها بابنتها كاميليا من اكتئابها، حتى أنها توجهت إلى طبيب لإجهاضها في القاهرة عند زيارة أمها، لكنها فشلت في ذلك وأنجبت ابنتها وبدأت تسترجع نعيم القاهرة، ولم تخف عدم رغبتها في العودة إلى الجبل، غير أنها عادت إلى زوجها مكرهة تاركة ابنتها في مصر، وسرعان ما عادت إلى القاهرة مرة أخرى لتجتمع بابنتها وأمها.
كان ذلك في العام 1936، حينها كان الملك المصري الشاب فاروق قد اعتلى العرش خلفا لأبيه الملك فؤاد، وكان الملك فاروق حينها حديث المصرين في مجالسهم العائلية والخاصة، وتروي الكاتبة شريفة زهور أن أسمهان كانت تواقة إلى معرفة الملك الشاب فاروق، وما لبثت أن سمعت قصص القصر والملك وأمه نازلي وحسنين باشا، وسكنت شخصيته عقل أسمهان إلى أن التقت بحسنين باشا والتقت عند استئناف عملها مزيدا من اللاعبين السياسيين في تلك المرحلة.
كان الوسط الموسيقي في آخر الثلاثينيات قد قطع شوطا في فترة غياب أسمهان في سوريا، وحين عادت جددت صداقاتها الجيدة، وأقامت علاقات صداقة جديدة، وتعرفت على أمينة البارودي التي قيل إنها على صلة بالسلطات الأجنبية، ولعل صلات أسمهان بما وراء عالم الغناء قد أقيمت من خلال أمينة البارودي.
في العام 1941 ظهرت أسمهان لأول مرة في فيلم “انتصار الشباب” للمخرج أحمد بدرخان، ولقي الفيلم نجاحا عزز نجوميتها، وهو الفيلم الذي قيل إنه كان سببا في طلاق أسمهان من زوجها حسن، أجبرت أسمهان زوجها حسن على طلاقها بعد أن ابتلعت حبات الأسبرين محاولة الانتحار، لكنها بقدر ما أصابتها كآبة بسبب الارتباط والعيش في جبل الدروز، كانت أسمهان في تلك الفترة تستحضر نسبها وتشير دائما إلى قربها من سلطان الأطرش عمها، وإلى والدها لتؤكد نسبها ومكانتها وتثبت قدرتها على العمل من أجل البريطانيين.
جاسوسة الحلفاء.. مطربة برتبة مخبرة للتاج البريطاني
مع بداية الأربعينيات لم تكن أسمهان قد تجاوزت 24 عاما. في ذلك الوقت كانت أطنان من القنابل تلقى هنا وهناك لحسر نفوذ النازيين وحلفائهم، في الوقت نفسه الذي ألقت فيه أسمهان بقنبلتها في وجه صديقها الصحفي المصري محمد التابعي حين أسرّت له بقبولها مهمة الجوسسة لصالح البريطانيين.
يروي التابعي في كتابه “أسمهان تروي قصتها” حديثه بالتفصيل مع صديقته، ويقول: قالت لي أسمهان إن الحلفاء على وشك الزحف على سوريا ولبنان، ويهمهم بطبيعة الحال أن يطمئنوا إلى الموقف الذي سیقفه منهم جبل الدروز.
وواصلت: لا تنس المثل المعروف “إن في السويداء رجالا”، ونحن الدروز نستطيع دائما أن نبعث إلى میدان القتال بثلاثین ألف فارس. قلت وما شأنك أنت بهذا كله؟ قالت وهي تبتسم: آدي عیبك! عمرك ما اعتقدت أنني أصلح لشيء، لكنني واثقة من أنني سأنجح. إن الإنجليز يعرفون من تقارير قلم مخابراتهم السرية أن حسن الأطرش حاكم جبل الدروز لا يزال يحبني، وعمي سلطان باشا الأطرش وعبد الغفار باشا الأطرش يحترمان رأيي، ولقد سبق لهما أن جرباني وخبرا حسن رأيي في ظروف عدة أيام كنت زوجة لحسن، فهؤلاء الثلاثة لن أجد صعوبة ما في إقناعهم بصواب الانضمام للحلفاء.
اعترفت أسمهان لصديقها محمد التابعي بأنها قد قابلت مسؤولا في السفارة البريطانية بالقاهرة في حديقة فندق الكونتينانتال، وطلب منها ملاقاته في مكتبه بالسفارة، وهناك عرفها على “لورد كليفترن” ضابط المخابرات الحربية في الشرق الأوسط، كان ذلك في منتصف العام 1941.
لم تصغ أسمهان إلى نصيحة صديقها حين نبهها إلى خطورة المهمة، فقد كان محمد التابعي يرى في أسمهان فتاة ضعيفة سريعة البكاء، ولا تحفظ سرّا، حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى هلاكها.
ذهبت أسمهان إلى السفارة البريطانية وقابلت الجنرال “جيلبرت كلايتون” رجل الاستخبارات المكلف في الشرق الأوسط، وعادت إلى محمد التابعي بحزمة جنيهات تقدر بثلاثمائة جنيه تسلمتها منه. يروي محمد التابعي أن أسمهان جلست لتعدّ ديونها البالغة مئتين وخمسين جنيها، ولم يبق لها سوى خمسين جنيها.
“لم لا أجعل هؤلاء الزعماء العرب ينتفعون بالأموال البريطانية؟”
في الخامس والعشرين من شهر مايو/أيار عام 1941، حزمت الفنانة حقائبها وتوجهت إلى محطة القطار متجهة إلى القدس، كانت مهمتها هي إقناع زعماء قبائل الدروز في سوريا للانضمام إلى جيش الحلفاء عند زحفه على سوريا التي كانت محل نزاع بين الحلفاء والفرنسيين زمن حكومة “فيشي”.
حسب محمد التابعي فإن أسمهان تروي تفاصيل وصولها إلى القدس، حيث أقامت في فندق الملك داود، هناك التقت برجل استخبارات بريطاني قالت إن اسمه “باص”، فتلقت تعليمات منه بالتزام الحذر الشديد، وأعلمها أنه عليها الاستعداد للسفر خلسة إلى سوريا عبر الحدود الشرقية مع الأردن.
تقول أسمهان: عند الظهر دعیت للهاتف، وكلمني مجهول بلغة فرنسیة ركیكة، وفهمت منه أنني يجب أن أكون مستعدة بحقائبي بعد نصف ساعة. وفي الموعد المحدد كنت جالسة في ردهة الفندق وحقائبي القلیلة حولي، وأقبل خادم يقول إن سیارة تنتظرني أمام الفندق، ولم يكن في السیارة أحد سواه. كان السائق ضابطا، وانطلقت بنا السیارة إلى طريق الشام، وبدأ يسأل عن حالة كل منهم المالیة والاجتماعیة، وهل هو رجل طماع أو قنوع؟ وهل هو ممن يمكن الركون إليهم وإلى كلمتهم؟ بدأ الضابط يذكر أسماءهم واحدا بعد واحد، وهو يسألني: ما رأيك؟ هل تظنین أنه يقنع بخمسمئة جنیه في الشهر؟ وكنت أقول كلا، مستحیل! على الأقل ألف جنیه. بینما كنت أعلم أن فلانا هذا يفرح بخمسمائة جنيه، بل يرضى بمئتین، لكن لم لا أجعل هؤلاء الزعماء العرب ينتفعون بالأموال البريطانية التي كانت تنفق بالملايین؟
استغل البريطانيون حب حسن الأطرش لأسمهان من أجل تنفيذ مهمتها التي غنمت منها قرابة 17 ألف جنيه بين يونيو/حزيران ونوفمبر/تشرين الثاني من العام 1941.
وفي 3 يوليو/تموز من العام 1941 تزوجت أسمهان مرة ثانية بحسن الأطرش واستعادت لقب الأميرة، وتعترف قائلة: ولعل هذا الحب هو الذي سهل علي مهمتي، لأنني لم أجد صعوبة في إقناعه بصواب الانضمام إلى الحلفاء والتخلي عن تأيید حكومة “فیشي”، لكنه طلب مني أن أعود زوجة له، وأبدى استعداده لأن يطلق في الحال زوجته التي كان تزوجها بعد طلاقي منه، لم يقلها صراحة، لكنني فهمت أنه سيجعل عودتي إلیه شرطا لقبوله ما جئت من أجله، أي شرطا لنجاحي في مهمتي.
حينها صرحت أسمهان للصحافة بالقول: لقد ودعت الحياة الفنية وداعا أخيرا، لأنصرف إلى حياتي الزوجية، وإلى خدمة بلادي وعشيرتي بالاشتراك مع زوجي.
توتر العلاقة مع المخابرات البريطانية.. أسباب انقطاع الود
يقول محمد التابعي في كتابه “أسمهان تروي قصتها”: كان نفوذها لدى السلطات البريطانیة قد تقلص، وكانت العلاقات بین هذه السلطات وبين الأميرة آمال الأطرش تسير من سيئ إلى أسوأ، ويمكن تلخيص الأسباب فيما يلي:
إن السلطات البريطانية تفرض على الذين يعملون معها الكیاسة والحذر في العمل والكتمان والولاء، لكن آمال الأطرش بتصرفاتها في الشهور الأخیرة لم تتوفر فيها صفة واحدة أو شرط واحد من هذه الشروط. والثانیة إسرافها في الشراب، والثالثة أن قائدا بريطانیا برتبة جنرال -وأكتم اسمه لأنه لا يزال على قید الحیاة وأرمز إلیه بحرفي “أ. س”- أحب آمال الأطرش وترك مقر قیادته في سوريا، وراح يتبعها أشبه بظلها هنا وهناك، ثم عرض عليها أن تتطلق من زوجها وأن يطلق هو زوجته الموجودة في إنجلترا لكي يتزوجها، لكنها رفضت. وأصِل إلى السبب الرابع وهو أخطرها جميعا، وهو أنها كانت تريد السفر إلى أنقرة لتقابل الجنرال الألماني “فرنز فون بابن”.
عند سفرها إلى القدس تعرفت أسمهان على صحفي أمريكي كان يعمل جاسوسا لقوات المحور، وتوطدت علاقتها به، وكانت تدعوه الصحفي “ف”، وكان يلاحقها دائما ويعلم جميع أنشطتها. تقول أسمهان: كلما لقیني سألني بابتسامة المشفق: هل ما زلت ترين أن النصر للحلفاء؟ ولم تكن أقوال الصحفي وحدها هي السبب في أنني بدأت أشك في أن النصر للحلفاء، لأن معظم من كنت ألقاهم من ساسة وزعماء في سوريا ولبنان كانوا يبدون شكوكهم هم أيضا في مقدرة الحلفاء على انتزاع النصر من ألمانيا، بعد الذي لمسوه من قوة الجیوش الألمانیة، بل إن ما سمعته من “راندولف تشرشل” نفسه (ابن ونستون تشرشل) أثناء إحدى زياراتي للقدس لم يكن بالذي يطمئن أو يوحي بالثقة في النصر، فقد قال أمامي مرة إن “هتلر” يستطيع أن يكتسح أوروبا وآسیا وأفريقیا.
تغيير الولاء.. فشل الرحلة إلى أنقرة وانتقال إلى المعسكر الفرنسي
حاول الصحفي الأمريكي تجنيد أسمهان، واعترفت أنها بدأت بمراجعة نفسها، وتساءلت عن ما إذا كانت أحسنت صنعا بعشيرتها بالتحالف مع الحلفاء.
طلب الصحفي “ف” من أسمهان إقناع الدروز بلزوم ولائهم لحكومة “فيشي”، وأن تنقذ عشيرتها من الموقف في حال انتصار المحور، ووعدها بالدفع لها بسخاء إذا قبلت الذهاب إلى أنقرة لمقابلة سفير ألمانيا هناك. لكنها فشلت في مهمتها بعد أن علم البريطانيون بذلك، وأنزلها ضباط من القطار المتجه من حلب إلى تركيا.
خسرت أسمهان نفوذها بعد أن كانت لها الكلمة العليا لدى البريطانيين ولدى عشيرتها، وأصبح زوجها صاحب السطوة بدلا عنها، بعد أن كان جميع زعماء الدروز يزورونها لتتوسط لهم لدى القادة البريطانيين، غير أن الأميرة لم تيأس، واستغلت فرصة تقاربها مع الفرنسيين المتوجسين من النفوذ البريطاني في سوريا.
استأجر لها الفرنسيون شقة في أفخم أحياء بيروت، وكانت أسمهان سعيدة باحتفاظها بشيء من مظاهر الترف التي عاشتها، رغم أن الفرنسيين لم يغدقوا ما أغدقه البريطانيون عليها مقابل خدماتها.
عاصمة الفن.. عقد عمل وزواج مصلحة ورصاصة غيرة
توترت علاقة أسمهان بزوجها من جديد، وعاودها الحنين إلى مصر مرة أخرى، لكن زوجها حسن الأطرش حاصرها فقررت الانتحار، وهو ما دفع بزوجها إلى قبول الطلاق مرة ثانية.
عادت أسمهان إلى القاهرة في بداية العام 1942، لكن بطلاقها من الأمير فقدت حصانتها لدى السلطات المصرية، حتى أنه تقرر طردها، بيد أنها وجدت ضالتها في أحمد سالم حبيب تحية كاريوكا الذي التقت به القدس أثناء زيارتهما إليها هناك، فتزوجته حتى تستطيع العودة إلى مصر.
ومما سهّل عودتها أيضا لقاؤها بإسكندر وهبي أحد المسؤولين الكبار في وزارة الخارجية المصرية، فقد أعجب بصوتها وساعدها في الحصول على عقد عمل مع شركة “مصر للسينما والتمثيل”، ونص العقد على أن أسمهان ستحصل على أجر بقيمة 13 ألف جنيه مقابل أول فيلم لها.
عادت أسمهان إلى القاهرة بعقد عمل وزواج مصلحة من حبيب تحية كاريوكا، لكن عودتها كانت تنذر بقرب نهايتها، خاصة أن علاقتها بأحمد حسنين باشا رئيس ديوان الملك فاروق كانت وطيدة، وأثارت غيرة زوجها أحمد سالم، وغضب الملكة نازلي وجنون أخيها فؤاد.
في يوليو/تموز 1944 نجت من رصاصة وجهها لها زوجها أحمد سالم بسبب شكوكه تجاه علاقتها بحسنين باشا، وتسبب ذلك في سجنه.
“غرام وانتقام”.. آخر دور لأسمهان يجسد النهاية الغامضة
عادت أسمهان إلى السينما، وفي العام 1944 كانت تقوم بدور في فيلمها “غرام وانتقام” الذي أخرجه يوسف وهبي، وهو ضمن العقد الذي أمضته مع أستوديو مصر بوساطة من المسؤول في الخارجية إسكندر وهبي، وكان عنوان ذلك الفيلم خاتمة حياتها الصاخبة، فبعد التصوير طلبت من مخرج الفيلم السفر إلى رأس البر في محافظة دمياط لإمضاء فترة هناك، وتوجهت صحبة صديقتها المقربة أمينة البارودي.
قاد السائق السيارة نحو رأس البر يوم الرابع عشر من يوليو/تموز عام 1944، وفي أول الطريق بين طلخا ودمياط وقعت السيارة في ترعة وتوفيت أسمهان وصديقتها، ولم يُحسم سبب وفاتها الحقيقي. هل هو طليقها الأمير حسن، أم الاستخبارات البريطانية أم الفرنسية؟ أم شقيقها فؤاد الذي لم يغفر لها كرهها لتقاليد الدروز، أم القصر الملكي بسبب علاقتها بحسنين باشا؟ أم؟ أم؟ أم؟