محمد الخامس الأندلسي.. انقلابات في عصر آخر الملوك الأقوياء في غرناطة

محمد الخامس الأندلسي حاكم غرناطة (1354- 1391)

تعتبر شخصية الملك محمد الخامس من بين أكثر الشخصيات التي بصمت التاريخ الحديث للمغرب تأثيرا، إن لم تكن أكثرهم على الإطلاق، لما اضطلع به من دور خاص في العبور بالمملكة المغربية من عهد الاستعمار (الحماية الفرنسية) إلى الاستقلال، وما تفرّد به من خاصية الجمع بين موقع الحكم ودرب النضال إلى جانب القوى الوطنية من أجل التحرر، وهو ما كلّفه تجربة مريرة مع المستعمر الفرنسي للمغرب، تتجلى أساسا في إزاحته عن العرش ونفيه إلى جزيرة مدغشقر في أقصى الجنوب الأفريقي.

وإذا كان حكام وملوك آخرون حملوا اللقب نفسه، أي محمد الخامس، كما هو الحال مع السلطان الخامس والثلاثين للدولة العثمانية الذي خلف شقيقه السلطان عبد الحميد سنة 1909، أو سلطان ماليزيا السابق (تينغو محمد فارس بترا) الذي حمل اللقب نفسه؛ فإن شخصية أخرى كانت تدعى “محمد الخامس” وتحمل أكثر من قاسم مشترك واحد مع سلطان المغرب الحديث.

فعلاوة على هذا اللقب، يشترك الرجلان في كونهما معا ينحدران من أب اسمه “يوسف” وبالتالي يدعى كل منهما “محمد بن يوسف”، والأهم من ذلك، أنهما عاشا معا تجربة النفي عن العرش ثم العودة إليه، بل إن محمد الخامس -المقصود في هذا التقرير- بعدما نُفي عن عرشه في دولة غرناطة الأندلسية منتصف القرن 14 للميلاد، لم يكن منفاه المؤقت سوى المغرب، وتحديدا عاصمة الدولة المرينية فاس.

عطلة السلطان المخلوع.. فرصة لالتقاط الأنفاس في بلاط فاس

يتعلّق الأمر بالملك الذي حكم غرناطة في الوقت الذي كانت تشكّل فيه آخر كيان سياسي إسلامي في الأندلس، وقد اعتلى العرش سنة 1354 ومكث فيه إلى غاية وفاته عام 1391، باستثناء الفترة التي عزله ونفاه فيها أخوه غير الشقيق إسماعيل.

تولى محمد الغني بالله الحكم بعد وفاة والده، وكان حينها صبيا. ولم تمض سوى ساعات قلائل على مصرع السلطان يوسف أبي الحجاج في صبيحة يوم عيد الفطر سنة 755 للهجرة، حتى خلفه ولده محمد الملقب بالغني بالله، ونظرا لصغر سنه فقد استأثر بشؤون الدولة حاجبه ومولى أبيه من قبل أبو النعيم رضوان.[1]

استمر حكمه رغم ضعفه حتى العام 1359، حين خلعه أخوه إسماعيل، فلجأ إلى فاس حيث استضافه السلطان المغربي أبو سالم المريني، وقد مكث هناك إلى أن تغيرت الأوضاع السياسية في غرناطة، وقتل أخوه المنقلب عليه على يد أحد أبناء عمومته، ليتدبر محمد الخامس تحالفا جديدا مع مملكة القشتاليين مكنه من العودة إلى عرشه سنة 1361 ميلادية، وهو ما شكّل بداية لعهد جديد أكثر رسوخا وثباتا.[2]

في ضيافة الدولة المغربية، مكث السلطان المخلوع في بلاط فاس، وفيه توثقت العلاقة بينه وبين المؤرِّخ عبد الرحمن بن خلدون الذي كان حينها في خدمة السلاطين المرينيين، ومن أكابر دولتهم، كما شكّلت هذه الفترة فرصة عقدت فيها علاقة وطيدة بين ابن خلدون ونظيره في العلم والحكمة، لسان الدين بن الخطيب الذي كان ضمن مرافقي السلطان محمد الخامس في منفاه المغربي.[3]

عاد محمد بن يوسف الأول إلى الحكم بعد حلف عقده مع ملك قشتالة بيدرو الأول. وقد تميّز عهده بالبحث الدائم عن التوازن بين القوى الفاعلية في الإمارة الإسلامية الصامدة وفي محيطها الإقليمي القريب والبعيد، فكانت تحالفاتها وتفاهماتها تبدأ في المحيط القشتالي والمغربي، وتصل إلى مصر وباقي المجال العربي-الإسلامي.[4]

أحقاد الأم والأخ.. انقلاب في الحمراء تحت جنح الظلام

يعود نفي سلطان المغرب المعاصر محمد الخامس، إلى دخوله في حلف مع القادة الوطنيين المطالبين بالاستقلال، ومحاولة المستعمر الفرنسي فرض سيطرته بعزل السلطان الشرعي وتعيين أحد أبناء عمومته خلفا له، بينما يعود نفي محمد الخامس الأندلسي إلى ما مرت به مملكة غرناطة في الفترة ما بين 1359-1362م من أزمات سياسية واقتصادية شديدة جعلتها عرضة للانقلابات والاضطرابات، فقد شهدت الدولة المحاطة بالخصوم والطامعين ثلاثة انقلابات سياسية.[5]

يتمثل الانقلاب الأول في التحرك الذي وقع أواخر شهر رمضان 760هـ، الموافق 21 آب/أغسطس 1359م، وانتهى بخلع السلطان محمد بن يوسف بن نصر (محمد الخامس الغني بالله) ونفيه إلى المغرب وتولية أخيه أبى الوليد إسماعيل الثاني.

السطانان “محمد الخامس” الأندلسي و”محمد الخامس” المغربي يعودان من منفاهما

ويعود السبب المباشر لهذا الانقلاب إلى الحزازات الشخصية بين أعضاء الأسرة الحاكمة، فقد كان السلطان أبو الحجاج يوسف بن نصر قد تزوج من امرأتين هما بثينة ومريم، فأنجب من الأولى محمدا وعائشة، ومن الثانية إسماعيل وقيسا وعدة بنات تزوج إحداهن أمير من الأسرة، وهو الرئيس أبو عبد الله محمد المعروف بأبي سعيد “البرميخو” (كلمة إسبانية تعني اللون البرتقالي).

كان إسماعيل أصغر من أخيه محمد، لكن أمه مريم حاولت أن تستغل حب السلطان لها لتنصب ابنها وليا للعهد بدلا من أخيه الأكبر محمد، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل في حياة السلطان يوسف، وآل العرش بعد موته إلى محمد الخامس الغني بالله.[6]

وحسب بعض الروايات التاريخية، فقد حاول محمد أن يرضي إخوته وزوجة أبيه مريم بشتى الوسائل، غير أن طموح هذه المرأة وأموالها التي تركها لها زوجها السلطان يوسف، دفعاها إلى التآمر مع نسيبها “البرميخو” للإطاحة بالسلطان محمد وتولية ابنها إسماعيل مكانه، وقد كان يطمح إلى الحكم ويضمر لأخيه محمد الحقد، بسبب زواجه من ابنة عم لهما كان إسماعيل يريدها لنفسه.[7]

تسلل المتآمرون ليلا إلى قصر الحمراء في غياب الملك محمد، ونصّبوا إسماعيل سلطانا، لكنهم فشلوا في العثور على محمد وقتله، بعدما فطن للانقلاب وفرّ إلى مدينة وادي آش وتحصّن بها، ومنها سيرحل إلى مدينة فاس ليقيم في ضيافة سلطان المغرب أبى سالم إبراهيم المريني.[8]

تثبيت المعارضين.. صفقة اللجوء السياسي مع سلطان المغرب

سارع الملك محمد الخامس الغني بالله إلى مراسلة السلطان المغربي أبي سالم إبراهيم بن علي، فدعاه للجوء لديه، نظرا لما كانا قد راكماه من تواصل سياسي وتبادل لقبول اللجوء بين الطرفين، وسعيا من السلطان المريني المغربي أيضا إلى معادلة الكفة مع غرناطة التي كانت تستضيف لاجئين سياسيين من معارضيه.[9]

بعث السلطان المغربي موفده الشريف أبا القاسم التلمساني حاملا رسالة إلى السلطان الغرناطي الجديد إسماعيل بن أبي الحجاج يوسف، يطالبه فيها بإخلاء سبيل محمد الخامس الغني بالله وتمكينه من العبور لأمان نحو المغرب، وتسريح وزيره لسان الدين بن الخطيب وتخلية سبيله كي يلحق بسلطانه المخلوع. وقد جعل السلطان المغربي هذه المطالب شرطا لإقامة علاقات سلمية بين الدولتين (المرينية والغرناطية)، وهو ما لم يكن السلطان المنقلب إسماعيل، يستطيع أن يرفضه لحاجته إلى السلم والاستقرار لتثبيت حكمه.

رافق السفيرُ المغربي الشريف أبو القاسم التلمساني السلطانَ المخلوع من “وادي آش” إلى مدينة سبتة، وكان يرافقه عدد من أفراد حاشيته منهم شاعر الحمراء الشهير بلقب ابن زمرك. بينما كان المقابل الذي قدّمه السلطان المغربي هو الالتزام بمنع محمد الخامس الغني بالله من محاولة العبور مجددا إلى الأندلس لاستعادة عرشه، تماما مثلما التزم السلطان المنقلب في غرناطة بمنع معارضي السلطان المغربي اللاجئين لديه من السعي للعبور جنوبا نحو المغرب.

انقلاب البرميخو.. حركة تسفك الدماء الملكية في غرناطة

لم يصمد الاتفاق طويلا، فسرعان ما عاد السلطان المغربي ليدعم طموح محمد الخامس الغني بالله في استعادة عرشه، وذلك في سياق توافقات إقليمية جعلت مصالح الدولة المرينية تلتقي مع مساعي القشتاليين لدعم عودة محمد الخامس الذي كان يقيم علاقات ودية معهم، لتنشط محاولات إعادة الوضع إلى سابق عهده.

أما الانقلاب الثاني فسيحدث بعد أقل من عام واحد، وتحديدا في بداية شهر شعبان 761هـ، الموافق 25 يونيو/حزيران 1360م، ولم يكن قائده سوى حليفه وصهره (زوج أخته) “البرميخو”، وانتهى بقتل السلطان إسماعيل وتنصيب قاتله ملكا لغرناطة. بل إن المنقلِب قتل إلى جانب الملك إسماعيل شقيقه الأصغر قيسا ومربيه عبادا، واستأثر بملك غرناطة لنفسه.[10]

بعد هذا الانقلاب الثاني، وما طبعه من استهداف لسلالة السلطان يوسف، هاجرت أسرة السلطان المخلوع محمد الخامس لتلحق به في مدينة فاس، وكانت مكونة من زوجته وابنه وبعض الجواري، ولم يسمح لهم المنقلب الجديد أبو سعيد البرميخو، بحمل شيء من متاع الدنيا إلا الضروريات.[11]

وقد ساعدت حالة الاضطراب هذه في إنجاح محاولات محمد الخامس الغني بالله لاستعادة عرشه، وهو ما تحقق له في 20 جمادى الأول 763هـ، الموافق 16 مارس/آذار 1362م، حين عاد السلطان المخلوع إلى عرشه بعد قتل السلطان المنقلب “البرميخو”.[12]

عودة السلطان.. موكب مهيب برعاية الحلف المريني القشتالي

كان تحضير عودة محمد الخامس إلى غرناطة ناتجا عن تحالف بين المرينيين والقشتاليين، فقد حشدت الدولتان أسطولا عسكريا بحريا انطلق من السواحل المغربية، وانطلق موكب الملك المخلوع باحتفالية رسمية حضرها السلطان المغربي وممثلون للجاليات الأندلسية المقيمة في المغرب، فكان موقفا مسيلا للدموع على حد تعبير لسان الدين الخطيب.[13]

غادر محمد الخامس المغرب تاركا عائلته فيها وقد تولى الوزير المغربي عبد الرحمن بن خلدون مهمة رعايتها، بينما رافقه أفراد حاشيته ممن نُفوا معه إلى المغرب. وبعد معارك دموية عاد السلطان محمد الخامس الغني بالله إلى عرشه وقتل “البرميخو”.

قصر الحمراء أحد أجمل معالم غرناطة الأندلسية

وقد استقبله الغرناطيون باحتفاء يصفه لسان الدين بن الخطيب بقوله : استحضر السلطان فصعد إلى القبة، ثم نزل وقد ألبس خلعة الملك وقيدت له فرس شقراء مطهمة، حليها ذهب بحت، ونشرت حوله الألوية، وقرعت الطبول، وركب السلطان وقد التف عليه كل من جلى عن الأندلس وبلي من رقة الناس وإجهاشهم وعلو أصواتهم بالدعاء ما قدم به العهد، إذا كان مظنة ذلك سكونا وعفافا وقربا، وقد ظلّله الله برواق الرحمة، وعطف عليه وشائج المحبة إلى كونه مظلوم العهد منتزع الحق، فتبعته الخواطر، وحميت له الأنفاس، والله يعرفه عوارف عنايته، ويلحظه بعين رحمته.[14]

غرناطة.. تحالفات آخر شموع المسلمين في الأندلس

كانت غرناطة أيام الدولة الأموية قاعدة متواضعة من قواعد الأندلس الجنوبية، ورغم حالة الفتنة والانقسام التي سادت بعد سقوط دولة الأمويين في الأندلس، فإن بداية سقوط الأندلس وخروجه من يد المسلمين تعود إلى هزيمة الموحدين أمام الجيوش المسيحية المتحالفة في معركة العقاب عام 609هـ/ 1212م، إذ راحت المدن تخرج من قبضة الموحدين واحدة بعد الأخرى.

وفي خضم فترة الاضطراب والاقتتال الداخلي بعد سقوط دولة الموحدين التي عوّضت الحكم المرابطي في الغرب الإسلامي، برزت شخصية محمد بن يوسف بن نصر أو ابن الأحمر (محمد الأول) الملقب بـ”الغالب بالله”، والتف حوله الناس وبايعوه فى “أرجونة” وتوافد عليه جنود الأندلس؛ فأعلن نفسه أمير “جيان”، ومنها انتقل إلى بلاد الجنوب (الأندلس)، فوقع اختياره على غرناطة لما تتمتع به من تحصينات طبيعية، ومنها راح يوسع منطقة نفوده لتشمل ولايات غرناطة وألمرية ومالقة، وبلغت سيطرته الساحل المتوسطي حتى مضيق جبل طارق.

ورغم اضطراره إلى توقيع معاهدة مع ملك قشتالة ودفعه للجزية مقابل السلم، فإنه تمكن من ترسيخ أسس دولة غرناطة وتحصينها، وإن كانت بعض الروايات التاريخية تعيب عليه الخضوع لأوامر ملك قشتالة، لدرجة إمداده بالمقاتلين لمحاصرة إشبيلية واحتلالها.

بالمقابل يرى بعض المؤرخين أن ابن الأحمر كان يقبل هذا الوضع المؤلم إنقاذا لتراث لم يكمل الرسوخ بعد، وتنفيذا لأمنية كبيرة بعيدة المدى، ذلك أنه كان يطمح إلى جمع كلمة الأندلس تحت لوائه، وإدماج ما بقي من تراثها وأراضيها في مملكة موحّدة، تكون ملكا له ولعقبه.[15]

ابن الخطيب.. دسائس الملك تنقلب على وزير السلطان

كان محمد الخامس ووزيره لسان الدين بن الخطيب يمثلان مظهرا من مظاهر العلاقات السياسية بين الدولتين الغرناطية والمرينية، وهي علاقات تراوحت بين المتانة والتوتر، ويظهر ذلك من خلال ما حصل لهما بالمغرب من توفير للأمن والحماية لهما بعد الانقلاب عليهما في الأندلس ولجوئهما إلى المغرب، ثم ما وقع للسان الدين من سجن ثم قتل بالمغرب وتمثيل بجثته.[16]

فقد شغل ابن الخطيب منصب وزير كبير في دولة بني الأحمر في غرناطة، واستفاد من اللجوء السياسي في المغرب بعد الانقلاب الذي أطاح بمحمد الخامس الغني بالله. ثم استأنف بعد ذلك نشاطه العلمي متنقلا بين عواصم المغرب الكبرى من تلمسان إلى سلا، لكن بعد عودة سلطانه محمد الخامس إلى الحكم دُعي إلى الالتحاق من جديد بغرناطة وتحمل مسؤوليات سياسية كبرى، فعاد إلى الأندلس سنة 763هـ/1362م، وفاء لسلطانه، لشغل منصب الوزارة من جديد وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وخاض في سبيل ذلك حربا ضروسا ضد مظاهر الفساد المختلفة، لأنه كان يعتبر ذلك من شروط توطيد دعائم الملك، بعد الانهيارات التي مست المملكة في العمق.[17]

لسان الدين بن الخطيب.. وزير دولة بني الأحمر في غرناطة

اختيار إصلاحي جرّ على لسان الدين بن الخطيب تبعات دسائس القصور، فوجّهت إليه تهم سياسية ودينية كبرى (الولاء لجهات خارجية سياسية والزندقة دينيا)، مما اضطره إلى الفرار من غرناطة سنة 1371م، دون علم سلطانه محمد الخامس الغني بالله، ليلتحق بالسلطان المريني في تلمسان في يناير/كانون الثاني 1372م، لكونه كان على يقين أن سلطانه لن يسمح له بمغادرة الأندلس.[18]

ذو القبرين.. خنق في السجن وحرق بعد الدفن

بعد فرار ابن الخطيب عقدت له محاكمة غيابية في غرناطة، انتهت إلى مصادرة أملاكه وحرق كتبه في ساحة غرناطة، بحضور فقهاء النظام الذين طالبوا بإنزال عقوبة الإعدام عليه، ولم تتوقف مساعي خصومه عند هذا الحد، بل طالبوا بجميع السبل بترحيله من المغرب وتنفيذ حكم الإعدام فيه، بينما كان السلطان المريني عبد العزيز المريني يرد بالرفض.

الملك محمد الخامس ملك المغرب والد الملك الحسن الثاني وجد الملك محمد السادس

وبعد وفاة السلطان عبد العزيز في أكتوبر 1372م ومبايعة ابنه محمد بن عبد العزيز، وُضع بن الخطيب تحت وصاية الوزير أبي بكر بن غازي الذي سلك نفس طريق سلطانه، لكن بعد الإطاحة بالسلطان المريني ووصيّه في يونيو/حزيران 1374م، غابت الحماية عن ابن الخطيب، وقبض عليه وأودع السجن، وصودرت أمواله، وبعث الغني بالله كاتبه ووزيره محمد بن زمرك يحمل محضر الإعدام.

تعرض لسان الدين بن الخطيب للتنكيل والتعذيب قبل اغتياله داخل السجن، بإيعاز من الغني بالله، حين دخل عليه مجموعة من المرتزقة في سجنه وقتلوه خنقا في آب/أغسطس من سنة 1374م، ودفن في مقبرة باب الشريعة (باب المحروق) في فاس القديمة. وفي اليوم الموالي أخرج الحاقدون جثته وأحرقوها، وبالخصوص الرأس، ثم أعيد دفنه. من ذلك جاءت تسمية “ذو القبرين”.[19]

بيمارستان غرناطة.. عصر المنجزات العلمية والحضارية

تميّز عهد الملك محمد الخامس الغني بالله بالازدهار الحضاري والثقافي، وقد تجسّد ذلك في مخلّفات هذا العصر الذي تشتهر بها غرناطة حتى الآن، من قصر الحمراء (اعتُني بأسواره وفضاءاته بعدما شيّده الجد المؤسس للدولة) والحدائق الغناء والمنشأة الصحية الخاصة بالأمراض العقلية.

المدرسة اليوسفية حيث كان الطب يدرس في غرناطة

فقد اشتهر الغني بالله بالصرامة واختيار سبيل القوّة والحزم، وحرص على إقامة مشاريع كبرى في التشييد والعمران، كما عمل على تحصين الثغور وضمان حماية أراضي الدولة. ومن أبرز منجزات عصره الحضارية بيمارستان غرناطة الشهير، وهو عبارة عن فناء أوسط تحيط به أروقة، وغرف عدة مخصصة للمرضى، ودورات المياه والمواضئ وغيرها من أسباب الراحة وضرورات الرعاية للمرضى.

وقبل تأسيس البيمارستان كان الطب يدرس في غرناطة بالمدرسة اليوسفية، فقد أشار ابن الخطيب إلى ذلك في ما خلفه من كتابات، وهو ما يعني أن أسباب بناء بيمارستان غرناطة إنما جاء تتويجا للتطور الذي حصل في المملكة فترة السلطان محمد الخامس.[20]

حدائق الحمراء.. جنة تعكس ازدهار الزراعة الغرناطية

تعتبر حدائق الحمراء من أهم مخلفات محمد الخامس الغني بالله، إذ تعكس الحديقة العربية رؤية المسلمين واشتياقهم لجنة الفردوس. ذلك أن حياة الإنسان المسلم مرتبطة بفكرة الجنة التي يمكن تخيلها على شكل حديقة، وهي المكان الجميل الذي يجد فيه الإنسان كل المتع ويجد فيه إشباعا لكل رغباته.[21]

وتعتبر جنة العريف أو حديقة المعماري، المبنى الأكثر أهمية من بين كل ضواحي غرناطة، وكان شاعر غرناطة في عهد محمد الخامس ابن زمرك، يطلق عليها عرش الحمراء، بينما تظهر أولى الإشارات التاريخية إلى جنة العريف في كتاب “الإحاطة بتاريخ غرناطة” للسان الدين بن الخطيب، فقد اعتبرها واحدة من بين سبعة عشر بستانا تنتمي للتراث الملكي، وأشار إلى تميزها بكثافة أشجارها التي تحجب أشعة الشمس، كما أشاد بسحر وعذوبة مياهها ونقاء هوائها.[22]

حدائق الحمراء معالم غرناطية خلفها محمد الخامس الغني بالله

وقد بدأ هذا التراث الإسلامي الأندلسي في قرطبة منتصف القرن الثامن، وتواصل في عهد الدولة الغرناطية. ولأن اقتصاد العالم الإسلامي في تلك العصور كان يقوم أساسا على الزراعة، فقد كان للتنوع الزراعي أثر عميق في الأندلس. وقد تُرجم كل هذا إلى نوع جديد من المناظر الطبيعية، انعكس في تشعبات فروع الأشجار وتصميمات الحدائق.

ابن خلدون.. سفير السلطان القوي إلى بلاط قشتالة

نظرا لتجربته الكبيرة وحنكته السياسية، امتاز محمد الخامس في فترة إمارته الثانية ببعد النظر، وأقام خلالها علاقات طيبة مع دول المغرب الإسلامي، ومع دولة المماليك بالمشرق الإسلامي، ولما توفي سنة 1391 ميلادية، ترك إمارة غرناطة تنعم في نوع من الاستقرار والازدهار.[23]

كما توطّدت في عصره أواصر الصداقة مع بلاط القاهرة، واتصلت بينهما السفارات والمكاتبة، وعقد بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن صديقه أبي فارس عبد العزيز سلطان المغرب معاهدة وصداقة مع بيدرو الرابع ملك أراغون، لمدة ثلاثة أعوام من تاريخ عقدها في آذار/مارس 1367م، ويتعهد فيها الفريقان بامتناع رعاياهما عن الإضرار بالفريق الآخر في البرِ والبحر، في السر أو الجهر، وأن يكون لرعايا كل فريق حق التجول والمتاجرة بأرض الفريق الآخر، والمرور في البحر والبر، دون اعتراض أو مغارم غير عادية.[24]

ويعتبر عهده آخر فترة استقرار عاشتها غرناطة قبل سقوطها، فقد اتسم أغلب خلفائه بالضعف رغم محاولة بعضهم الدفاع عن حدود المملكة بكل ما أوتوا من قوة وفي حدود الإمكانات المتاحة[25].

وبعدما استعاد محمد الخامس حكم غرناطة، وفد عليه المؤرِّخ ابن خلدون، فاحتفى به وأرسله سفيرا عنه إلى ملك قشتالة (بيدرو)، ليوثق أواصر الصداقة بينهما، فقصد ابن خلدون بلاط إشبيلية ومعه هدية فخمة، وأدّى سفارته بنجاح وحظي بعطف ملك قشتالة وإعجابه. ولما اعتزم ابن خلدون العودة إلى غرناطة قدم له ملك قشتالة هدية ثمينة، فسر السلطان محمد لنجاحه، وأقطعه قرية إلبيرة بمرج غرناطة.[26]

المصادر

[1] محمد شيت خطاب، قادة فتح الأندلس، المجلد الثاني، مؤسسة علوم القرآن بيروت ومنار للنشر والتوزيع دمشق، الطبعة الأولى 2003

[2] بوحسون عبد القادر، الأندلس في عهد بني الأحمر دراسة تاريخية وثقافية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة، جامعة أبي بكر بلقايد، تلمسان، الجزائر، 2012/2013.

[3] محمد شيت خطاب، قادة فتح الأندلس، المجلد الثاني، مؤسسة علوم القرآن بيروت ومنار للنشر والتوزيع دمشق، الطبعة الأولى 2003

[4] https://www.ecured.cu/Mohamed_V

[5] https://andalushistory.com/إنقلابات-فى-غرناطة/

[6] https://andalushistory.com/إنقلابات-فى-غرناطة/

[7] https://andalushistory.com/إنقلابات-فى-غرناطة/

[8] https://andalushistory.com/إنقلابات-فى-غرناطة/

[9] عبد حمزة محسن الربيعي، اللجوء السياسي وتأثيره في العلاقات السياسية بين مملكة غرناطة العربية الاسلامية ودول المغرب العربي في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، مجلة أهل البيت عليهم السلام العدد 8، جامعة أنهل البيت، العراق، يونيو/حزيران 2009.

[10] https://andalushistory.com/إنقلابات-فى-غرناطة/

[11] https://andalushistory.com/إنقلابات-فى-غرناطة/

[12] https://andalushistory.com/إنقلابات-فى-غرناطة/

[13] عبد حمزة محسن الربيعي، اللجوء السياسي وتأثيره في العلاقات السياسية بين مملكة غرناطة العربية الاسلامية ودول المغرب العربي في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، مجلة أهل البيت عليهم السلام العدد 8، جامعة أنهل البيت، العراق، يونيو/حزيران 2009.

 

[14] https://andalushistory.com/إنقلابات-فى-غرناطة/

[15] محمد شيت خطاب، قادة فتح الأندلس، المجلد الثاني، مؤسسة علوم القرآن بيروت ومنار للنشر والتوزيع دمشق، الطبعة الأولى 2003

[16] بوحسون عبد القادر، الأندلس في عهد بني الأحمر دراسة تاريخية وثقافية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة، جامعة أبي بكر بلقايد، تلمسان، الجزائر، 2012/2013.

[17] https://www.alquds.co.uk/حياة-وموت-لسان-الدين-بن-الخطيب/

[18] https://www.alquds.co.uk/حياة-وموت-لسان-الدين-بن-الخطيب/

[19] https://www.alquds.co.uk/حياة-وموت-لسان-الدين-بن-الخطيب/

[20] غرناطة – بيمارستان مدينة غرناطة – عصور العدد 37 أكتوبر – ديسمبر 2017

[21] https://www.alhambradegranada.org/ar/info/laalhambraafondo.asp

[22] https://www.alhambradegranada.org/ar/info/laalhambraafondo.asp

[23] بوحسون عبد القادر، الأندلس في عهد بني الأحمر دراسة تاريخية وثقافية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة، جامعة أبي بكر بلقايد، تلمسان، الجزائر، 2012/2013.

[24] محمد شيت خطاب، قادة فتح الأندلس، المجلد الثاني، مؤسسة علوم القرآن بيروت ومنار للنشر والتوزيع دمشق، الطبعة الأولى 2003

[25] بوحسون عبد القادر، الأندلس في عهد بني الأحمر دراسة تاريخية وثقافية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة، جامعة أبي بكر بلقايد، تلمسان، الجزائر، 2012/2013.

[26] محمد شيت خطاب، قادة فتح الأندلس، المجلد الثاني، مؤسسة علوم القرآن بيروت ومنار للنشر والتوزيع دمشق، الطبعة الأولى 2003