“شيخ الجامع الأعظم”.. محنة علامة الزيتونة المثير للجدل في عصر الاستعمار

يُعد الشيخُ محمد الطاهر بن عاشور إمام جامع الزيتونة ومفتي الديار التونسية أحدَ أهم مجدّدي الفقه المالكي في القرن العشرين، فقد كان صاحبُ الفكر الثاقب عنوانا لمشروع مجتمعي يضمّ الحداثة والأصالة دون صدام أو تنازع، ويشهد بذلك خصومه قبل أتباعه، لكن للسياسة في التفريق بين أبناء الوطن الواحد شؤونا، فكلما وطئت مجالا غيّرت معاييره وباعدت بين أطرافه، وبسببها لم يكن الشيخ دائما محل إجماع بين التونسيين، فاتُّخذت منه مواقف متباينة، حتى غامت صورته الحقيقية وسط بحر الاختلاف.

وفي كتاب “شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور- حياته وآثاره” للدكتور بلقاسم الغالي، وفي فيلم “شيخ الجامع الأعظم” الذي أخرجته إيمان بن حسين وأنتجته الجزيرة الوثائقية؛ نرى انعكاسا عميقا لما رافق مسيرة الشيخ من الجدل.

هذا ما رغّبنا في تتبع صورة الشيخ من الأثرين، وفي الوقوف على ما وراءها من الخلفيات أولا، وفي إعادة تركيب المكونات الصغرى لهذه الصورة كما في لعبة المربكة، بحثا عن صورته الحقيقية أو عن الاقتراب منها على الأقل.

“القطب الذي تدور حوله حياة الأسرة”.. قصة العائلة

يتوسع الباحث بلقاسم الغالي في بسط تاريخ أسرة الشيخ، وذلك من خروج الجد الأكبر عام 1698م، فارا من حملة التنصير التي تعرّض لها الأندلسيون، بعد أن نقض الإسبان عهدهم في اتفاقية تسليم غرناطة 1491م، إلى ولادة محمد بن عاشور بمدينة سلا المغربية، ثم ولادة الفقيه محمد الطاهر بن عاشور في 1815م بتونس، وهو الجد الذي أخذ عنه الفقيه اسمه، وورث عنه انصرافه إلى العلم.

فقد ألّف هذا الجد مصنفات في الفقه، ودرّسه بجامع الزيتونة المعمور، وكان ميّالا إلى إعمال العقل عند النظر في مسائل الدين، وتقلد ابنه محمد بن عاشور عدة مناصب وظيفية، ثم كان حفيده محمد الطاهر بن عاشور العلم الأبرز في هذه العائلة، وعلى النحو نفسه يشير الفيلم إلى دور هذه الأصول في بروز الشيخ، فيرد إبداعه إلى حالتي الاستقرار والصفاء الذهني اللذين وفرتهما له العائلة الأرستقراطية الميسورة.

يستند الفيلم إلى شهادات الأحفاد، وينفذ إلى منزله ويعرض مكونات مكتبه، فيقترب أكثر من الحياة الخاصة للشيخ، ليعرفنا إلى خصائص “القطب الذي تدور حوله حياة الأسرة”، فقد كان صارما في تفاصيل حياته، ينهض فجرا لأداء الصلاة، ثم يمارس رياضة المشي في الحديقة العائلية، ويتناول فطور الصباح، ثم ينصرف إلى ركنه الصباحي المشرف على الحديقة لقراءة الجرائد، والاطلاع على الأخبار قبل أن ينصرف إلى مكتبه ليقضي عامة يومه في التأليف.

ورغم ما يفرض على نفسه من العزلة أثناء الكتابة، فإنه يحوّل مواعيد تناول الطعام إلى اجتماع أسري موسّع، وفرصة للحديث مع العائلة في مختلف صروف الحياة ومشاغلها.

مقاصد الشريعة.. إسهامات ضخمة في باب شرعي كبير

للشيخ إسهامات علمية كثيرة عرضها، خاصّة كتابُ بلقاسم الغالي ذو النزعة الأكاديمية، ولعل أهمّها اهتمامه الخاص بمقاصد الشريعة، فقد صدر عن منجز القرافي والعز بن عبد السلام اللذين تكلما فيها كلاما عابرا، فجمع القواعد المبثوثة في المصنفات المتناثرة وضمها إلى بعض، وفصّلها إلى:

كتاب “أليس الصبح بقريب” للمؤلف محمد الطاهر بن عاشور

– المقاصد العامة ومدارها على حفظ النظام وجلب المصالح ودرء المفاسد، وإقامة المساواة بين الناس، أي حفظ مصالح الناس حتى لا يفقد نظام حياة الناس توازنه بغيابها، وحتى تكون الشريعة مُهابة نافذة، والأمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال.

– المقاصد الخاصة التي تهم الأفراد دون الجماعات، ويحتاج إليها الناس للتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم، ومنها التوثيق في العقود على سبيل المثال.

وهكذا جعل منها علما يبحث في كليات فلسفة التشريع، وغاياتها البعيدة حتى تكون منوالا يعتمد لمحاصرة الاختلاف بين الفقهاء في مسائل الشريعة.

علم التفسير والحديث.. بحار علم لا يركبها إلا الراسخون

يُعد التفسير والحديث مجاليْ بحث آخرين برع فيهما الشيخ وجدّد، فقد اطلع على آراء المفسّرين قبله، فحقّق مسائله وتابع أحكامه، وانتهى إلى أفكار أصيلة اجتهادية، فكان يأخذ التطور التاريخي للمفردة القرآنية بحسبان، ويوازن بين استعمال المفردة على سبيل الحقيقة وعلى سبيل المجاز، مستندا إلى الاستدلال المنطقي في الفهم والتأويل.

واشتغل الشيخ بالحديث رواية ودراية وتحقيقا للأحاديث الشائعة باحثا في حظها من الصحة، وقد أهّله تميزه ليكون شيخ الإسلام المالكي، فكسر تقليدا اعتمدته الدولة الحسينية التي كانت تمنح المنصب للأحناف، أسوة بالخلافة العثمانية التي تعتمد المذهب الحنفي.

ومثلت الفتوى المستوى الثالث الذي جسّد نزعة الفقيه إلى التجديد، ومما يؤثر عنه أن الرئيس السابق دعاه بصفته عميد جامعة الزيتونة رفقة الشيخ جعيط مفتي الديار التونسية لإلغاء صوم رمضان بحجة جهاد تونس المستقلة حديثا ضد الفقر، وحاجتها إلى طاقات الشغّالين القصوى، والحرب توجب الإفطار كما بدا له، فرفضا معا الإذعان، وأكد الشيخ بن عاشور ذلك في خطبة يورد الفيلم بعضها فيقول “يجب الصوم على الأصحّاء أصحاب الأشغال اليدوية الشاقة المضطرين للشغل للقيام بشؤون حياتهم وحياة أهلهم، ولا يلزم الشغالين ترك العمل”.

جامع الزيتونة.. شجرة وارفة تمد أغصانها إلى العالم

إضافة إلى ما تقدّم يُعد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب مشروع إصلاحي شامل، فيركز بلقاسم الغالي على الفكري منه، وعلى أثر الشيخ محمد عبده فيه. من ذلك انتقاده لمآل علم أصول الفقه، وانصرافه إلى مباحث لا منفعة مباشرة للمسلمين فيها، ودعوته إلى تقويمه، ثم إلى استزادة أئمة جامع الزيتونة منه، وفي الآن نفسه يشير نهوضه باللغة العربية ومباحثها، فكان مجتهدا في النقد، محققا لنفائس المخطوطات الأدبية، شارحا لعيون شعرها.

صورة عامة لجامع الزيتونة في تونس، والذي كان محمد الطاهر بن عاشور فيه إماما

أما الفيلم فيعرض عبر شهادة حفيده عبد العزيز بن عاشور وزير الثقافة زمن بن علي، إلى دوره في الإصلاح التربوي الشامل زمن قيامه على إمامة الجامع الأعظم، فحاول تشخيص أسباب تأخر التعليم الزيتوني، وعمل على إصلاح مناهجه التربوية، وتبنى فيها الآراء الجريئة، فأدخل إلى برامجه تدريس العلوم الصحيحة كالكيمياء والهندسة والرياضيات، وفرضها في الزيتونة والخلدونية، وكان يرى فيها سبيلا للارتقاء بالعلوم الشرعية، وضمن مسعاه إلى إشاعة العلم، فقد حث الفتيات على التعليم، ووفر لهن أسبابه، وأحدث فروعا لجامع الزيتونة في مختلف أنحاء البلاد، وأسّس فرعين له في الجزائر.

يؤكد الدكتور محمود بوزغيبة الأستاذ بجامعة الزيتونة، والشيخ المرحوم عثمان بطيخ مفتي تونس أيام إخراج الفيلم؛ عمله على النهوض في الحياة الاجتماعية للطالب الزيتوني، فأحدث له جراية تمنح من الحُبس التي تشرف عليها جمعية الأوقاف، وواجه في سبيل ذلك سلطة البايات والشيوخ المحافظين، وثبت على المبدأ، لكنه لم يستطع منع الرئيس السابق الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال من التصدي للتعليم الزيتوني، وتعويضه بآخر مستلهم من الغربي خدمة لمجتمع الحداثة الذي كان يدعو إليه.

المؤتمر الأفخارستي.. صمت أمام آخر الحملات الصليبية في تونس

يؤاخذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بشدّة على موقفه من انعقاد المؤتمر الأفخارستي في تونس، وهذا المؤتمر عمل كنَسي كاثوليكي يرمي إلى تجديد الحياة المسيحية وتحصينها ضد العلمانية وحركات الإلحاد، وقد ظهر في القرن التاسع عشر، وظل يقام مرة كل سنتين بعد أن يعيّن البابا مكان انعقاده، وقُدّر أن يعقد مؤتمره لسنة 1930 في مدينة تونس، وذلك وفق تبرير معلن مداره على أن أفريقيا هي القارة الوحيدة التي لم يعقد فيها هذا المؤتمر وقرطاج بوابتها.

ووفق غايات مضمرة عُرضت في الصحف حينها، يعتبر انعقاده استئنافا للرسالة الرومانية في أفريقيا، وإعادة لقرطاج إلى الحضن المسيحي بعد أن انتزعها منها الفتح الإسلامي، وفي الآن نفسه تداركا للحملات الصليبية التي تحطمت على أسوار قرطاج سنة 1270، وذلك إثر فشل الحملة الثامنة التي قادها الملك الفرنسي لويس التاسع، فحوصرت قواته على مشارف المدينة حتى قضى بسبب وباء انتشر بين جنوده.

وبعد استعدادات ضخمة دفعت الدولة التونسية أغلب تكاليفها، حلّ بشوارع تونس نحو خمسة آلاف شاب مسيحي يرتدون أزياء خاصة بديانتهم ويجوبون شوارعها، ثم يتجهون إلى حديقة البلفيدير، ويركزون على قمتها صليبا عملاقا.

صورة تجمع الإمام الطاهر بن عاشور بالرئيس التونسي السابق بورقيبة

أما كتاب بلقاسم الغالي فصمت عن الحادثة وتجاوزها، وأما الفيلم فتوقف عندها وأشار إلى أن اسم محمد الطاهر بن عاشور كان ضمن إدارة تنظيم هذا المؤتمر الذي يجد فيه باحث الاجتماع منصف ونّاس مساسا عميقا بالهوية الوطنية العربية الإسلامية للبلاد التونسية، وعملا على تنصيرها. فهل شارك الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فعلا في التّحضير لهذا المؤتمر، هل اكتفى بالتأييد، أم أن اسمه أقحم إقحاما لصفته شيخا للإسلام وقتها؟

لا دليل على إسهامه في المؤتمر غير الاسم الوارد في الوثائق، لكن الثابت أيضا أنه تراخى عن القيام نصرة للدين في هذه المناسبة، أو تواطأ بصمته وسلبيته على الأقل، والحال أن الوطنيين عارضوا هذا المؤتمر بشدة، وأن الأهالي قاوموه، فأضرب عمال الرصيف وأغلق التجار دكاكينهم، وتحرك وطلبة جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية ومعهد” كارنو”، فكان هذا الموقف زلّة كبيرة في مسيرة الشيخ الطويلة.

محنة التجنيس.. مهادنة المستعمر وحرب الشائعات

تعرض الشيخ محمد الطاهر بن عاشور سنة 1933 لما سمي بمحنة التجنيس التي سببت له عزلة استمرت ثلاثة عقود، ويعود سببها إلى قانون التجنيس الذي أصدره المستعمر الفرنسي سنة 1910م وعدله مرارا، ويحثّ التّونسيين على التجنس بالجنسية الفرنسية وفق شروط، وقد انخرطت قلة في المخطط الذي يستهدف الهوية الوطنية.

وفي عام 1932 توفي محمد شعبان أحد هؤلاء المجنسين، فأفتى شيخ مدينة بنزرت إدريس الشريف بحرمة دفنه في مقابر المسلمين، لأنه تخلّى عن جنسيته وعن ملته، وتسبّب ذلك في مظاهرات وصدمات مع السلطة الاستعمارية، مما دفع أرملته الكاثوليكية إلى دفنه بمقبرة مسيحية مهجورة.

وللحد من اندفاع الأهالي وسحب البساط من الوطنيين الذين استغلوا الحادثة لتعبئة الرأي العام، استفتت السلطات الفرنسية شيخي الإسلام بتونس، وكان جواب الأحناف بجواز دفن المجنّس في مقابر المسلمين والصلاة عليه إذا حضر لدى القاضي الشرعي ونطق الشهادتين وأعلن أنه مسلم.

وأشيع أن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أفتى بجواز التجنيس استجابة لضغط الحكومة على المجلس الشرعي، ولا شك أن لمخلفات المؤتمر الإفخارستي دور في سريان الإشاعة، وواجه جراء ذلك العزلة بصمت، بعد أن هجر طلبتُه درسَه والمصلون إمامته.

أما الدكتور بلقاسم الغالي المنتسب إلى جامعة الزيتونة، فقد انبرى يدافع عن الشيخ مؤكدا أنه أضاف إلى الفتوى الحنفية شرط حضور المجنس لدى القاضي لإعلان إسلامه، والتصريح في الوقت نفسه بأنه يتخلى عن الجنسية الفرنسية، وهو ما لم تنقله السلطات الاستعمارية بأمانة لتعارضه مع مصالحها. فـ”ليس من الغرابة أن تصدر الشائعات لتعمل عملها وتثير البلبلة حول رجال العلم، وقد كان من أهداف الاستعمار الفرنسي جعل الهوّة تتسع بين الأمّة وعلمائها، فلا بد من إطفاء شعاعهم”.

الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة

أما الفيلم فبدا أقرب إلى الحياد، فعرض مثل هذا الموقف عبر شهادتي الدكتور محمود بوزغيبة والشيخ عثمان بطيخ، وعرض الرأي المخالف الذي يتهم الشيخ بمهادنة المستعمر.

تجاذبات السياسة.. تهمة سوداء ينفيها أرشيف المستعمر

يباهي التونسيون اليوم كثيرا بشخصية الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ففيها عند ممثّلي التيار الديني شهادةٌ بأن الإسلام السياسي قادر على التفاعل الإيجابي مع قضايا الواقع، وعلى تقديم الحلول الفاعلة لتحديات العصر، وفيها عند ممثلي الحداثة دعوة للمحافظين للتحرر من سلطة النقل والتفاعل مع الواقع، من منطلق المواءمة بين حاجات العصر ومقاصد الشريعة العليا.

ومع ذلك تظل صورته غائمة هشّة كلما داخلتها التجاذبات الفكرية، فالتيار المحافظ، وقد مثله كتاب بلقاسم الغالي أو الزيتنيون المستجوبون في الفيلم؛ كان يبرئ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من تهمة التواطؤ في قضية التجنيس، ولم يكن محايدا تماما. فالتزم بالصمت في مواجهة زلة المؤتمر الأفخارستي، لأنه لا يملك لها تبريرا مقنعا.

أما التيار الحداثي، وقد مثّله السّاسة والمؤرخون، فلم يشر إلى تبرئة الوقائع للشيخ من تهمة مناصرة التجنيس، وظل يتخذ مما عد هناتٍ للرجل حقا وباطلا مطيةً لمهاجمة التصور المحافظ للمجتمع، وإجمالا لم تكن صورة الشيخ في الأثرين مقصودة بذاتها، بقدر ما كانت وسيلة تُتّخذ للدّفاع عن الموقف، وإبطال حجج الخصوم في ساحة سياسية فكرية متحركة تفصل بين طرفيها هوّة عميقة تأبى أن تطمر. كيف السبيل إلى تحديد الصورة الأمينة للشيخ إذن؟

لا شك أن كتابات الرجل تنبئ عن عظيم علمه وجليل قدره وعميق خدمته للفكر الإسلامي في عصر الركود والقعود عن الاجتهاد، ولا شك أن ظلما كبيرا لحقه في محنة التجنيس على الأقل، فقد أثبت تقرير فرنسي قديم رفعت عنه السرية براءة الرجل مما رُمي به، فهو لم يشر إلى إجازته للتجنيس، وإنما طلب مثول المجنّس أمام القاضي، وإعلانه الشهادة أمامه، والتخلي عن الجنسية الفرنسية ليدفن في مقابر المسلمين، غير أن الوطنيين عندها كانوا يريدون منه فتوى سياسية بلباس ديني، فيستعملونها لإبطال القانون الفرنسي.

بالمقابل لم يكن الشيخ ذلك المناضل الميداني الصلب الذي يخوض المعارك بشراسة دفاعا عن المواقف السياسية، فكان يحاول تغيير المنكر بالقلم والقلب، أو باللسان إن استطاع إليه سبيلا لا باليد، ولا شك أن لنشأة الرجل اللصيقة برفاهة العيش المنعم دور في جعل شخصيته رخوة غير قادرة على خوص الصدامات العنيفة، ومن تبعاتها السجون والتعذيب والنفي وشظف كما نعلم.

هذا فضلا عن خسارة المصالح المادية والرّتب الوظيفية.