“ستيف ماكوري”.. مُصوّر الموناليزا الأفغانية وحروب القرن

لم يكن في خلد المصور الأمريكي “ستيف ماكوري” عندما دخل صفا في مدرسة للبنات في مخيم للاجئين الأفغان على الحدود الباكستانية، بأنه سيصور واحدة من أشهر الصور الفوتوغرافية في التاريخ، وأن صورته تلك ستكون أيقونة للدمار والخراب الذي يلف أفغانستان منذ عقود.

يروي “ماكوري” بنفسه أحداث ذاك اليوم في عام 1984، وكيف أنه صوّر بضع فتيات في الصف قبل أن يلحظ فتاة كانت شاردة في أفكارها. ولم يعرف المصور الأمريكي حينها قيمة الصورة التي التقطتها كاميرته إلا بعد أشهر من عودته إلى الولايات المتحدة وتحميض الأفلام التي صورها، عندها تبدى أن صورة الفتاة تلك ستوجز أسلوب المصور الخاص، والذي سيجعله واحدا من مصوري العالم الفوتوغرافيين المهمين.

يستعيد فيلم “ستيف ماكوري.. السعي وراء اللون” (Steve McCurry.. The pursuit of colour) حياة ماكوري التي لعبت فيها الصدف دورا محوريا، ذلك أن “ماكوري” وجد نفسه بالصدفة في أفغانستان في عام 1979، ومع بداية الحرب الأفغانية، ليلتقط صورا ستحظى باهتمام إعلامي كبير، ليحصل بعدها على مهام لتصوير حروب عديدة حول العالم.

عاشق التصوير.. من الأبيض والأسود إلى الألوان

قبل أن يصل ماكوري إلى أفغانستان عاش الشاب الأمريكي حياة تأثرت كثيرا بثورات التحرر في الستينيات، والتي كانت تحديا لكل القيم التقليدية التي سبقتها.

ترك المصور الأمريكي المدرسة المسيحية الخاصة التي أرسله لها والده، وبعد وفاة الأم قرر أن يرسم طريق حياته بنفسه، فجرب التصوير السينمائي بعد أن درس في دورة تعليمية سريعة، بيد أن التصوير الفوتوغرافي جذبه في النهاية، وخصص له حياته كلها.

عمل المصور الشاب في جريدة محلية في ولايته، وصور الكثير من المناسبات المحلية بالأسود والأبيض، مدفوعا برغبة في تسجيل وحفظ ما وراء الحدث العابر.

كان ماكوري يتقاضى راتبا زهيدا، يقول: “كنت أخجل أن أخبر أصدقائي بالمبلغ البسيط الذي كنت أتلقاه من الصحيفة”. ولم يكن الأجر وحده هو الذي دفع ماكوري لاتخاذ القرار بالسفر خارج الولايات المتحدة، إذ إنه كان يبحث عن تحد كبير يقلب حياته ويلهمه في عمله.

بحث ستيف ماكوري عن الطبيعية الإنسانية في صوره في أفغانستان

وصل المصور إلى الهند التي بهرته بعوالمها، وقرر التصوير بالألوان للمرة الأولى في حياته. يستعيد ماكوري قرار التحول إلى الألوان، وكيف أنه جاء ضمن تطور ذاتي ورغبة في البحث عن سبل تواصل جديدة مع المواضيع والناس الذين يصورهم، وهذا قاد إلى تغيير الأسلوب نفسه.

من الهند إلى باكستان.. لقاء لاجئين أفغان يغيّر حياة المصور

يعرض الفيلم الوثائقي الذي أخرجه “دينيس ديليستراك” مجموعة من الصور الفوتوغرافية الشديدة الجمال التي صورها في الهند حينها. وتتنوع مواضيع الصور، وإن كان باديا تأثر الأمريكي بالمشهديات والألوان الحارة الخاصة للحياة في الهند، إذ إن هناك العديد من الصور التي تحاول أن تقبض على مشاهد واسعة، وهنود كثر ضمن أبعادها.

ويعرض الفيلم صورا للمصور الأمريكي أثناء تلك الرحلة، والتي تظهره محاطا بحب من الهنود الذين لم يعتادوا وجود مصور أمريكي يريد أن يصورهم.

ويكشف ماكوري أن موجة حر شديدة غير مسبوقة دفعتته للسفر إلى جبال باكستان من أجل مناخ أفضل. وفي باكستان التقى لأول مرة في حياته بلاجئين أفغان كانوا من أوائل الهاربين من الحرب التي كانت قد بدأت للتو في البلد.

اكتشف المصور الأمريكي جمال الألوان في الهند

يتذكر ماكوري كيف أن اللاجئين الأفغان الذين قابلهم في باكستان طلبوا منه التوجه إلى بلدهم وتغطية الفظاعات التي تجري هناك، وهو الأمر الذي غير للأبد حياة المصور الأمريكي.

سنوات أفغانستان.. صور تقطع الأنفاس لواقع مأساوي

ألهمت أفغانستان ماكوري، فصور فيها لسنوات، وتنقّل في العديد من مناطقها، ونقل صورا تقطع الأنفاس وقع حرب مدمرة على أفغان عاديين، أو مقاتلين يحملون السلاح.

ما ميز تلك الصور -وخاصة البورتريهات الفردية أو الجماعية- العلاقة الفريدة التي تنشأ بين المشاهد وشخصيات الصور، والطبيعة الإنسانية التي تغلف الصور والشخصيات فيها، رغم الموضوعات القاسية، وحمل الرجال في الصور للأسلحة.

يعترف المصور الأمريكي أن الوجود في أماكن الحروب يفقدك أحيانا شعور الصدمة الذي يأتي من مشاهدة قتلى وجرحى أو أحزان كبيرة. بيد أن المصور حفظ قوة الحرب الهائلة والمتواصلة في صوره الفوتوغرافية، رغم أن عمر الأخيرة يقترب من 40 عاما، ورغم ما صرنا نعرفه عما حدث بعدها في أفغانستان.

ستيف ماكوري أثناء تغطيته ليوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001

يعرض الفيلم صورا تتفجر بالقسوة والعنف والضعف الإنساني، وأيضا لحظات من الحب العائلي كتلك الصور التي تُظهر أمهات وآباء بجوار أبناء وبنات لهم أصيبوا في حوادث العنف. بدا الآباء والأمهات في الصور عاجزين تماما أمام ما يحدث، وبدت سحناتهم القانطة وهم ينظرون إلى أولادهم الذين يتوجعون من الآلام أقرب إلى الإصابات الجسدية.

الموناليزا الأفغانية.. صورة تختزل مأساة البلاد

زار ماكوري العديد من معسكرات لاجئين أفغان هربوا من الحروب أو تدمرت مدنهم وقراهم، وهناك قابل الفتاة التي اختزلت صورتُها مأساة البلد كله.

يحلل مختصون وأصدقاء للمصور الأمريكي الأسباب التي جعلت صورة الفتاة الأفغانية تملك كل ذلك التأثير، ويعزو أحد أصدقاء ماكوري الشهرة الواسعة للصورة بأنها ربما تعود للنظرة الغامضة للفتاة ذات العيون الخضراء الواسعة (شبهها البعض بنظرات المرأة في لوحة الموناليزا الشهيرة)، وأن الفتاة كانت تريد أن تتواصل مع الناس بشكل ما عبر تلك النظرة المبهمة، لتأتي الصورة مختلفة عن الصور الفوتوغرافية التي كانت تصل من أفغانستان.

يبتكر الفيلم الوثائقي وسيلة مؤثرة كثيرا لاستعادة قصة صورة الفتاة الأفغانية، فبدل السرد العادي لها، يعرض مشاهد للمصور الأمريكي وهو يتجول في مخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن.

صورة الفتاة الأفغانية التي صورها المصور الأمريكي ستيف ماكوري

زار ماكوري المخيم السوري قبل سنوات قليلة، وصور من هناك صورا عديدة، كما صور من داخل مدرسة للبنات في المخيم كما فعل حينها مع الفتاة الأفغانية، ووظفت تلك الزيارة بذكاء كبير ضمن الاستعادة التاريخية للحياة المهنية للمصور

حرب بعد أخرى.. مصور الحروب والكوارث

لعل السمعة الكبيرة التي اكتسبها “ماكوري” في تصوير حرب أفغانستان، هي التي جعلت صحفا ومجلات أمريكية تكلفه بتصوير حروب أخرى، فصور حرب تحرير الكويت عام 1991، وكان في لبنان والعراق بعد عام 2003.

يمر الفيلم على صور حرائق آبار النفط الكويتية من قبل القوات العراقية، وتبدو الصور تلك بضخامة ما قبضت عليه من حرائق وكأنها تصور نهاية العالم. وتلعب الصدف التاريخية دورا غريبا في تقريب ماكوري من قلب أحداث تاريخية عظيمة، فقد وصل إلى نيويورك قبل يوم فقط من الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في عام 2001.

توقظ مساعِدة ماكوري رئيسها لتخبره أن هناك حريقا بدأ في برجي التجارة العالمية، فذهب المصور الأمريكي إلى سطح البناية التي كان يقيم فيها، وصور صورا عديدة نقلت ثانية بثانية انهيار البرجين.

صورة من حرب تحرير الكويت في عام 1991

بعدها اجتاز ماكوري حواجز الشرطة الأمريكية، ووصل قريبا إلى البنايتين اللتين أصبحتا أنقاضا، وصور النيران التي ما زالت تشتعل في الأرض في صور تبدو الآن وكأنها جحيم على الأرض.

استراحة محارب.. سعادة وصلت متأخرة لأب شغلته حروب البشر

ترهق تغطيات الحروب الصحة النفسية للمصور الأمريكي، ويقرر أن يتوقف عنها قبل عشر سنوات، ليذهب في رحلة بدت أقرب إلى التأمل في منغوليا.

يصور الوثائقي تفاصيل من رحلة منغوليا التي تبين جليا الحياة المتقشفة كثيرا التي يعيش فيها المصور الشهير، وبُعده في حياته الخاصة عن أي نوع من الرفاهية، وهو الأمر الذي يؤكده أصدقاؤه وشقيقته التي تدير أعماله.

تلعب الصُدف دورا كبيرا أيضا في الحياة الخاصة للمصور الأمريكي، إذ وقع في حب امرأة كانت تساعده في جولة تصوير في مدينتها الصغيرة، وأنجب ابنته الوحيدة بعد أن تجاوز الستين من العمر.

تقول شقيقة ماكوري: “عندما يكون مع ابنته فهو في أسعد احواله”، لتعقب بأن سعادة الأبوة وصلت لأخيها متأخرة بعد أن شغلته المهنة والحروب وعذابات البشر حول العالم.

أزمة مهنية.. هل يجوز التلاعب بالصور الفوتوغرافية؟

تعجّب أصدقاء للمصور عند موافقته على المشاركة في هذا الفيلم الوثائقي وهو المتحفظ كثيرا والبعيد عن الإعلام.

ويكشف ماكوري في الفيلم أنه “لا يملك شخص غيري مفتاح هذه الغرفة”، يكشف ذلك وهو يفتح غرفة مخزنه الذي ضم أرشيفه الصوري وأشياء خاصة له.

أفغاني يحمل ابنه في صورة للمصور الأمريكي ستيف ماكوري خلال زيارته أفغانستان

لا يستسيغ ماكوري الحديث عن نفسه، ويغضب قليلا عندما يريد المخرج منه الحديث بإسهاب عن صورة الفتاة الأفغانية الشهيرة، فهو من جهة لا يريد أن تختزل حياته المهنية بصورة واحدة، كما يربكه من جهة أخرى الاهتمام الإعلامي الكبير.

يمر الفيلم على أزمة مهنية واجهت ماكوري قبل سنوات، فقد كشف أن المصور تلاعب بألوان بعض الصور التي صورها وحرر صورا أخرى، وهو أمر يُعد فضيحة في عُرف الصور الفوتوغرافية الصحفية.

كان رد ماكوري ساخرا جدا، فبعد أن اعترف في كلمة طويلة بخطئه في معالجة بعض الصور، عاد وقال إن كل ما قاله هو هراء، وأن الأهم لديه هو قوة الصورة وقدرتها على التواصل مع المتلقي لها.

وكحال العديد من الأفلام التسجيلية التي تتناول السير المهنية لمصورين فوتوغرافيين عالميين، تهيمن صور هؤلاء على الأفلام، وهي التي تؤسس العوالم النفسية والجمالية لها، وهذا هو الحال مع هذا الفيلم.

سعى الفيلم للتناغم على صعيد المناخات مع عوالم الصور الفوتوغرافية، وابتكر طرقا مؤثرة لعرض الصور، كما في مجموعة المشاهد التي تتحرك الكاميرا فيها بين ستائر بيضاء تعرض خلفها صورا شهيرة للمصور الأمريكي، ومنها الصورة المعروفة للفتاة الأفغانية.

كما غلب التأمل والبحث عن جماليات المكان في تصوير جولة ماكوري بمنغوليا التي تتميز بجمالها الفطري المتوحش، والحياة الخاصة البعيدة عن الترف الذي يعيش فيه سكانها، وخاصة في منطقة الجبال الواسعة هناك.