“إنيو.. المايسترو”.. موسيقار منح الروح للفيلم السينمائي

“لم أعتقد يوما أن الموسيقى ستكون قدري، كنت أريد أن أصبح طبيبا، لكن أبي قال: كلا، ستدرس العزف بآلة البوق، أبي هو الذي قرر أن أصبح عازف بوق، أنا لم أقرر شيئا”.

ربما لم تعرف موسيقى الأفلام الأهمية التي أصبحت عليها اليوم، قبل أن يقتحم هذا المجال الموسيقار الإيطالي “إنيو موريكوني”، ويضع بصمته على عشرات الأفلام المرموقة داخل إيطاليا وخارجها، لتستقر في وجدان الجمهور في شتى أرجاء العالم، فقد كتب هذا الرجل الموسيقى لنحو 400 فيلم.

المايسترو.. شهادات لسيرة حياة عبقرية تعيش لأجيال

عمل موريكوني مع عدد كبير من كبار المخرجين في العالم، وأضفى لمسته الخاصة على أفلامهم، لكن الوصول لموسيقى ملائمة للفيلم لم يكن دائما أمرا سهلا، وكثيرا ما دخل في خلافات مع المخرجين وهو يقنعهم بالتخلي عن الروح التقليدية وقبول تجارب وألحان جديدة غير مألوفة. وقد أصبح هذا الرجل الذي فرض عليه والده دخول عالم الموسيقى أحد أشهر وأهم مؤلفي موسيقى الأفلام في تاريخ السينما.

ومن ضمن المخرجين الذين عمل معهم موريكوني المخرج الإيطالي الشهير “جيوسيبي تورناتوري”، فقد كتب له موسيقى فيلمه الشهير “سينما باراديزو” (Cinema Paradiso) (1989) الذي يعتبر واحدا من الأعمال الكلاسيكية الكبرى في السينما، وبعده كتب موسيقى “الأفلام السبعة” لتورناتوري أيضا.

عاش موريكوني حياة مديدة، وامتدت مسيرة عمله في موسيقى الأفلام نحو 60 عاما، وتوفي عام 2020 عن عمر ناهز 91 سنة، وأراد صديقه تورناتوري أن يُخلّد ذكراه ويمنحه ما يستحقه من احتفاء بإبداعه الفني، فأخرج فيلم “إنيو.. المايسترو” (Ennio.. The Maestro) (2022)، وهو فيلم وثائقي طويل (أكثر من ساعتين ونصف) ليس من الممكن اعتباره مجرد “تحية” إلى الموسيقار الراحل الكبير، وإنما هو أيضا عرض مُصوّر موثق بالصوت والصورة والشهادات لسيرة حياة عبقرية موسيقية سيمتد أثرها إلى الأجيال القادمة.

تلميذ وأستاذ.. علاقة مضطربة بسبب الموسيقى

إننا نرى من خلال عشرات الصور الفوتوغرافية ومقاطع الأفلام الخاصة المصورة بالأبيض والأسود مشاهد من طفولة المايسترو؛ كيف بدأ في تعلم عزف البوق وهو في الـ11 من عمره، طبقا لرغبة والده الذي كان يعزف البوق في إحدى الفرق الموسيقية العسكرية، ثم في دور السينما لمصاحبة العروض، وتخرج من المدرسة الموسيقية وهو في الـ16 من عمره، ثم أصبح يكتب موسيقى الأغاني والرقصات كي يكسب عيشه ويتمكن من الإنفاق على أسرته الفقيرة.

وعندما التحق المايسترو بمدرسة الكونسرفاتوار كان -كما يروي لنا- يشعر بالضآلة أمام زملائه من العائلات الميسورة. لكن المشكلة الأكبر التي تركت تأثيرا قويا عليه تمثلت في علاقته المضطربة بأستاذه “جيوفريدو بتراسي” الذي كان يميل للموسيقى التقليدية، فقد كان لدى موريكوني منذ وقت مبكر ميل للتجريب، لكن الشقاق الأكبر بين الأستاذ والتلميذ جاء مع اتجاه موريكوني لكتابة موسيقى الأفلام السينمائية، الأمر الذي اعتبره بـتراسي نوعا من التدني والخيانة للموسيقى.

في زمن الحرب العالمية الثانية، وأثناء الاحتلال الألماني لروما، كان موريكوني يعزف في الفنادق مقابل الحصول على وجبة طعام فقط، ويقول إن زملاءه كانوا يضعون علبة من الصفيح فوق الطبول لجمع التبرعات من الجنود، وعندما مرض والده حلّ محله في العزف في النوادي الليلية والفرق الترفيهية.

شخصيات سينمائية.. شهود صعود المايسترو الإيطالي

يروي الفيلم قصة صعود موريكوني في عالم الموسيقى عموما، بل وقصة حياته وكفاحه، ثم دخوله عالم موسيقى الأفلام من خلال حوار طويل موزع على مدار الفيلم مع موريكوني نفسه، ومقاطع من مقابلات مع أكثر من 40 شخصية سينمائية ممن عملوا مع موريكوني، أو كانوا شهودا على صعوده من داخل إيطاليا وخارجها، كما تتضمن المقابلات عددا من زملائه ومعاصريه من الموسيقيين.

ومن المخرجين الإيطاليين يتحدث “داريو أرجنتو” و”برتولوتشي” و”لينا فيرتمولر” و”فيتوريو تافياني” و”جوليانو مونتالدو” و”تورناتوري” نفسه بالطبع. أما من الأمريكيين والأوروبيين عموما فيتحدث “تارانتينو” و”أوليفر ستون” و”كلينت إيستوود” و”بريان دي بالما” و”تيرنس ماليك” و”جون وليامز” و”بروس سبرنغستين” و”مايك باتون” و”رولاند جوفيه” و”ديفيد بوتنام” و”كاري وي وونغ”، وغيرهم الكثير، خصوصا من عالم الموسيقى في إيطاليا.

لقطة من فيلم “سينما باراديزو”

لا يتحدث إنيو موريكوني عن تاريخه الموسيقي فقط، بل يحرك يديه وكأنه يقود الأوركسترا، كما يدندن بصوته الكثير من النغمات المميزة من أفلامه وهو يسرد علاقته بالفيلم ومخرجه، وكيف نشأت هذه العلاقة، وكيف سارت وتطورت عبر السنين. والمدهش أنه وهو يروي كل هذه القصص والتفاصيل الصغيرة بعد أن تقدم به العمر كثيرا وتجاوز التسعين من عمره وقت تصوير المقابلة؛ نراه يتمتع بذاكرة قوية، وقدرة على الاسترجاع واستعادة الكثير من التفاصيل، والألحان العديدة التي كتبها.

اسم مستعار.. التهرب من ظهور اسمه على موسيقى الأفلام

كان أول فيلم ظهر عليه اسم موريكوني هو الفيلم الإيطالي “الفاشي” (1961) للمخرج “لوتشيانو سالسي”. يقول تورناتوري إن موريكوني كتب بعد ذلك موسيقى فيلمين من أفلام “الويسترن السباغيتي” (أي أفلام الغرب الأمريكي التي كانت تنتج في إيطاليا وإسبانيا)، وهما “نزال في تكساس” و”الرصاص لا يجادل”، وكلاهما من عام 1963.

كان موريكوني يستخدم في البداية اسما مستعارا يقول إنه استعاره من اسم زوجة صديقه “دان سافيو”، لأنه كان يخجل من كتابة الموسيقى للأفلام. ومن ذاكرته المدهشة يتذكر كيف اتصل به المخرج “سيرجيو ليوني” بعد أن شاهد الفيلمين ليعرض عليه كتابة الموسيقى لأول أفلامه من نوع “الويسترن السباغيتي” أيضا، وهو فيلم “من أجل حفنة دولارات”، وعندما دخل عليه “ليوني” في بيته تعرّف عليه على الفور، فقد كان زميلا له في المدرسة الابتدائية، لكنهما لم يرتبطا بصداقة، وهناك صورة رائعة يظهران فيها ضمن تلاميذ الفصل الدراسي.

المايسترو الإيطالي موريكوني

لولا كل هذه الصور والمعلومات، بل وقصاصات الصحف، لما جاء هذا الفيلم الشامل عن الفنان الكبير على هذا النحو من المصداقية والسحر. ويجب أن لا نغفل عشرات من مقاطع الأفلام التي كتب لها موريكوني الموسيقى، وهي متنوعة ومتعددة إلى حد مدهش، ومنها أفلام صنعت مجد السينما الإيطالية، وخصوصا تيار السينما السياسية في الستينيات والسبعينيات، ومن بينها “الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة” لـ”إليو بتري”، و”تحقيق مع مواطن فوق مستوى الشبهات” لـ”جوليانو مونتالدو”، وقد تقاسم الفيلمان الجائزة الكبرى في مهرجان كان عام 1971.

فيلم يوجيمبو الياباني.. موسيقى أوبرالية لفيلم ويسترن

أما عن فيلمه الأول مع “سيرجيو ليوني”، فيقول موريكوني إن ليوني أخذه معه أولا لمشاهدة فيلم ياباني هو فيلم “يوجيمبو” (Yojimbo) (1961) لـ”كيروساوا”، وفهم أن الفيلم الإيطالي سيكون مبنيا عليه، وطلب منه “ليوني” أن يسمعه نغمة موسيقية تصلح للفيلم، وكانت لديه أغنية لحنها لمغن أمريكي أعاد توزيع موسيقاها، وصنع منها لحنا جديدا تماما، أصبح هو اللحن المميز لمقدمة الفيلم وأجزائه المثيرة التي يظهر فيها البطل (الذي لا اسم له) “كلينت إيستوود”.

ما يرويه موريكوني يكمله كل من ليوني نفسه بالطبع، و”برونو باتيستي داماريو” عازف الجيتار الذي عمل معه طويلا. لذلك يعتمد مونتاج الفيلم على تلك الانتقالات السريعة التي تكمل بعضها البعض لمقاطع محددة يختارها تورناتوري بعناية فائقة.

هذا هو الطابع العام في الفيلم كله، فقد يبدأ موريكوني مثلا بالحديث عن عمله في فيلم ما، ثم لا يكمل، بل يظهر شخص آخر يكمل قصته، وهو ما أضفى حيوية بل ومصداقية على شهادة موريكوني نفسه في الفيلم.

يقول كلينت إيستوود إنه فوجئ كثيرا عند مشاهدته الفيلم، فقد كانت الموسيقى فريدة من نوعها، “ففي ذلك الوقت لم يكن أحد قد جرب موسيقى أوبرالية في فيلم ويسترن”.

عنف الموسيقى السيريالية.. امتزاج صعب الفهم

كان موريكوني قد بدأ يستخدم أصوات ضربات القوس على الجلد، وصوت قرع الأجراس، وأصوات كورال بشرية، والجيتار الكهربائي، والصافرات، وآلات النفخ الثقيلة كالأبواق، والسندان، والرياح والطبل السريع، وغير ذلك، مما جعله يُعرف فيما بعد رائدا من رواد ما يعرف بـ”الموسيقى التجريبية” غير المعتادة، ويعود أستاذه “بتراسي” الذي سبق أن نبذه للاعتراف بموهبته الكبيرة بعد مرور السنين، وبعد أن أكد موهبته الكبيرة وظهرت ملامح عبقريته الموسيقية.

لم يكن العمل مع سيرجيو ليوني رغم ذلك سهلا، فقد أراد أن يستخدم نفس موسيقى البوق الشهيرة من فيلم “ريو برافو” للمخرج الأمريكي “هوارد هوكس”، إلا أن موريكوني اعترض ورفض استكمال العمل، فقال له ليوني “أعطني إذا شيئا مثلها”. ويقول إنه فكر وعاد إلى أغنية قديمة كان قد كتبها لمغنية كونترالتو (طبقة صوتية) ذات صوت عميق، وقام بإعادة تلحينها وتوزيعها، بحيث أصبح البوق هو الآلة الرئيسية فيها، واستخدمها في الفيلم.

في أفلام سيرجيو ليوني تبدو موسيقى موريكوني وكأنها قادمة من عالم آخر، فالعنف يمتزج مع الموسيقى السيريالية التي ترفع من حدة الشعور بالصراخ والنحيب، لنلمس في طياتها صوت الأجراس، والأورغ الجنائزي الحزين والصفير الحاد، مع دوران الكاميرا من وراء ظهور الشخصيات التي تواجه قدرها وحدها في صحراء الغربة والجفاف والموت بالقرب من قرى ميتة، أو مقابر شاسعة، حيث يصبح عالم الغرب عالما سيرياليا غريبا، ليس من الممكن تفسيره أو فهمه.

“ذات مرة في الغرب”.. نغمة مميزة لكل شخصية في الفيلم

كان موريكوني يكتب أحيانا موسيقى الفيلم قبل بدء التصوير، وكان ليوني يقوم بتشغيلها عبر جهاز تشغيل الأسطوانات أثناء التصوير لضبط إيقاع الممثلين وحركة الكاميرا.

وفي فيلم “ذات مرة في الغرب” (Once Upon a Time in the West) كتب موريكوني نغمة مميزة لكل شخصية من شخصيات الفيلم الرئيسية، حيث النغمة الرومانسية تصاحب شخصية “جيل” (قام بالدور كلاوديا كاردينالي)، وهي المتطلعة لبدء حياة جديدة، كما أنها رمز للجديد القادم المختلف، ثم اللحن الإيقاعي الذي يصاحب شخصية “شايان” التراجيدية الذي تختلط فيه نغمة الجيتار الرتيبة مع إيقاع الطبلة والصفير، وهو لحن يوحي بالخطر، ثم اللحن المصاحب لشخصية “فرانك” (قام بالدور هنري فوندا)، وهو أكثر عنفا وصخبا من غيره، ثم دقات البيانو السريعة التي تصاحب مشهد موت “مورتون” الرأسمالي الجشع، ثم لحن الهارمونيكا الخاص بشخصية الرجل الذي يطلقون عليه “هارمونيكا” في الفيلم، ويقوم بدوره “تشارلز برونسون”.

“الطيب والشرس والقبيح”.. ابتكار موسيقى جديدة

إلا أن موريكوني استخدم أيضا نغمات كلاسيكية بآلات الكمان والتشيللو من النوع الذي عرفت به أفلام الغرب الأمريكية، وقد استخدمها بوجه خاص في مشاهد تشييد معالم البلدة الجديدة ومحطة السكك الحديدية، وكان طبيعيا أن تطغى هذه النغمة الموسيقية على مشهد الختام بعد أن اكتمل بناء البلدة، حيث ترتفع الكاميرا لتكشف المنظر العام بعد أن تغير.

يقول موريكوني إنه لم يحب موسيقى فيلميه الأولين مع سيرجيو ليوني، فابتكر طريقة جديدة في الفيلم الثالث “الطيب والشرس والقبيح”، فقد اقتبس صوت عواء الذئاب وأدخله على إحدى نغماته المميزة، وأعجبت النغمة الجديدة ليوني كثيرا، وشاعت فيما بعد.

وفي الفيلم مقاطع كثيرة من الحفلات الموسيقية التي أقيمت في عدد من المدن العالمية لموسيقى موريكوني، وكان بنفسه يقود الأوركسترا حتى بعد أن تقدّم كثيرا في العمر، وكان يجلس على مقعد أمام لوحة تحمل النوتة الموسيقية.

“التوراة”.. مقطوعة مستمدة من التراتيل التوراتية

ولعل من أجمل مقاطع فيلم “إنيو” ما يرويه موريكوني عن تجربة العمل في فيلم “التوارة” (The Bible) الذي كان إنتاجا مشتركا بين أمريكا وإيطاليا، وكان مخرجه “جون هيستون” قد استعان أولا بـبتراسي أستاذ موريكوني الذي كتب موسيقى للفيلم، لكنها لم ترق لـ”هيستون”، فاستدعى منتج الفيلم “دينو دي لورانتس” المايسترو موريكوني، وأسند إليه وضع موسيقى الفيلم، فكتب مقطوعة مستمدة من التراتيل التوراتية.

جُربت هذه الموسيقى على مشاهد نادرة من الفيلم التاريخي الكبير، وقد أُعجب بها المخرج “هيستون” والمنتج “دي لورانتس”، لكن موريكوني كان مرتبطا وقتها بعقد مع شركة “آر سي إيه”، ولا يمكنه العمل بشكل منفرد مع “دي لورانتس”، وعندما ذهب للحصول على تصريح رفض مدير الشركة السماح له بالعمل في الفيلم، فتراجع موريكوني وفقد هذه الفرصة الكبيرة.

“البرتقالة الآلية”.. ندم المايسترو على ضياع الفرصة

ومن الفرص الأخرى الكبيرة التي يبدي موريكوني ندمه كثيرا على ضياعها هي فرصة العمل على موسيقى فيلم “البرتقالة الآلية” (Clockwork Orange) لـ”ستانلي كوبريك”. يقول موريكوني: إن المشكلة حدثت “عندما اتصل كوبريك بسيرجيو ليوني يطلب أن أتعاون معه، فقال له ليوني إنني مشغول في العمل على موسيقى فيلمه “حفنة ديناميت”، والحقيقة أنني كنت قد انتهيت من موسيقى الفيلم الذي كان قد دخل مرحلة المكساج”. وضاعت الفرصة.

من بين ما يُكشف عنه أنه كان يكتب بعض المقطوعات الموسيقية ثم يضعها في الدرج، ويأتي وقت يتذكرها ويستعيدها ويعرضها على المخرجين الذين يريدون أن يعمل معهم، وهذا على سبيل المثال ما حدث مع الموسيقى التي كتبها لفيلم “التوراة” التي عاد فاستخدمها في فيلم “عودة رينجو”، ثم مسلسل “أسرار الصحراء” التلفزيوني.

يقول موريكوني إنه كان قد كتب موسيقى لحن لأغنية في فيلم كان المخرج “فرانكو زيفيريلي” يصوره في أمريكا، لكن عندما أخبره زيفيريلي أنه سيستعين بأغنية لموسيقار آخر في الفيلم رفض أن يتعاون معه وانسحب، وفيما بعد عاد إلى هذا اللحن واستخدمه بعد إعادة توزيعه، وأصبح هو اللحن المميز في فيلم “ذات مرة في أمريكا”، وهو آخر أفلام سيرجيو ليوني.

“أتريدني أن أصنع ما يشبه موسيقى أفلام التحريك؟”

ومن أشهر الأفلام التي كتب لها الموسيقى إلى جانب أفلام سيرجيو ليوني فيلم “معركة الجزائر” للمخرج “جيلو بونتيكورفو”، و”1900″ لـ”برناردو برتولوتشي”، و”طيور صغيرة وطيور كبيرة” و”ألف ليلة وليلة” لبازوليني، و”أيام السماء” لـ”تيرنس ماليك”، و”غير القابلين للرشوة” لـ”بريان دي بالما”، وغيرها.

ومن ضمن ما يرويه المخرج “أوليفر ستون” في الفيلم أنه طلب أن يكتب له موريكوني موسيقى فيلم “يوتيرن” (Uturn) واقترح عليه أن تبدو الموسيقى شبيهة بما في أفلام سيرجيو ليوني، ثم عرض عليه فيلما من أفلام “توم وجيري” (أي أفلام التحريك)، حيث يضربان بعضهما البعض وتصدر عنهما أصوات جلبة، فصُدم وسأله: أتريدني أن أصنع ما يشبه موسيقى أفلام التحريك؟ فأجابه: نعم، شيء من هذا القبيل، فغضب موريكوني وقال إنه لا يستطيع أن يكتب مثل هذا الهراء، وانسحب وعاد إلى إيطاليا.

أوسكار أفضل موسيقى.. نجاح بعد الترشح خمس مرات

رشح موريكوني خمس مرات لجائزة الأوسكار لكنه لم يفز بها، ثم كتب لحنا خاصا تكريما لضحايا تفجير البرجين في نيويورك، ومنحته الأكاديمية الأمريكية لعلوم وفنون السينما جائزة الأوسكار الشرفية عن مجمل أعماله عام 2007، وأهدى الجائزة إلى زوجته ورفيقة حياته لأكثر من 40 سنة، ثم فاز أخيرا في المرة السادسة بجائزة الأوسكار لأفضل موسيقى عن فيلم “الحاقدون الثمانية” لـ”تارانتينو” عام 2016.

كتب موريكوني أكثر من 100 قطعة من الموسيقى الكلاسيكية، كما كتب الكونشرتو (تأليف موسيقى غربي كلاسيكي) والسيمفونية، لكنه ظل مرتبطا في ذاكرة الجمهور في العالم بموسيقى الأفلام التي كان يعتبرها أبناء جيله من الموسيقيين أدنى أنواع الموسيقى. وهو يقول لتورناتوري إنه كان كل عشر سنوات يقول لزوجته باستمرار إنه سيتوقف عن كتابة موسيقى الأفلام، لكنه لم يفعل قط، وذلك لحسن حظنا بكل تأكيد.

وفي عام 1969 كتب موريكوني الموسيقى لـ21 فيلما، وهو ما أثار حسد معاصريه، وكما يقول الصحفي السينمائي “إنزو أوكوني” لتورناتوري إنهم لم يغاروا منه فقط بل قلدوه، ثم بدأت حملة التشهير به واتهامه بأنه لا يستطيع تأليف موسيقى لكل هذا العدد من الأفلام، ولا بد بالتالي أن يكون قد استعان بجهود آخرين غيره، ولم يكن أحد يعرف أن موريكوني يكتب الموسيقى بسرعة كأنه يكتب الرسائل.

يقول “برتولوتشي” في الفيلم إن موريكوني الذي وضع موسيقى فيلمه الملحمي الكبير “1900” بدا كما لو كان قد صنع فيلما موازيا بالموسيقى، وأن التقاء الفيلم والموسيقى شبيه بالتقاء الأرواح.

أخيرا، إن من يشاهد فيلم “إنيو.. المايسترو” لا بد أنه سيشعر بأن الصدق مع النفس والإخلاص للفن والعمل المتواصل وصقل الموهبة والتركيز في الإبداع فقط مع البعد عن المشاكل؛ كلها عوامل كفيلة بتحقيق النجاح، وقد بلغ موريكوني أعلى درجات النجاح.