الجنيد البغدادي.. إمام العارفين الذي انتهت إليه رئاسة علم التصوف

بدأ التصوف بالإمام القواريري الجنيد بن محمد البغدادي، وإليه انتهت رئاسة علم التصوف، ومنه انطلقت مشاربه إلى أنحاء الدنيا فلم يعرف له سمي ولا مقارب، وقد مدّت له المشايخ رقاب التبجيل، وأخذوا من عباراته معالم الطريق إلى الله، وارتقى في مشارق أنوار المعارف، وعرف له الفقهاء قدره، فرأوا في طريقته مثلى طرق القوم السائرين عبر مدارج السالكين بين منازل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

وما زال الجنيد بعد 11 قرنا من رحيله، يلح في القلوب ذكره، ويسوق المريدين والمتصوفة والعلماء إلى رياض الصالحين، فمن هو الجنيد وكيف ترقى في شغاف المحبين وفي أوراد المتصوفين؟

“لا أزال أبكي على قوله”.. موقف في الصبا يصنع إمام التصوف

في العشرين ونيف بعد المائتين من الهجرة النبوية، أشرق في بيت صغير من بيوتات بغداد ميلاد طفل وسيم عاش في أسرة تتكسب بالحلال وتعمل به وله، ومن والده التاجر الخزاز قبسَ الجنيد نور العلم، أما خاله فهو السريّ بن الحسن السقطي الذي يصنف في الحلقات التأسيسية لعلم التصوف ومدارسه، وقد عرف بورعه وزهده.

وعن خاله السريّ أخذ الجنيد كثيرا من معارف التصوف وقيمه ورؤاه، ومنه كان مبتدأ أمره، وإليه منتهى ورعه، حيث يروي الجنيد في صبوته قال: كنت بين يدي السري ألعب وأنا ابن سبع سنين، فتكلموا في الشكر، فقال: يا غلام، ما الشكر؟ قلت: أن لا يُعصى الله بنعمه، فقال: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك. قال الجنيد: فلا أزال أبكي على قوله.

تتلمذ الجنيد البغدادي على يد خاله “السريّ بن الحسن السقطي” مؤسس حلقات علم التصوف في بغداد

وفي آخر لقاء بين الرجلين يخرج الجنيد بوصية عظيمة، إذ يقول: كنت أعود السريّ في كل ثلاثة أيام عيادة السنة، فدخلت عليه وهو يجود بنفسه، فجلست عند رأسه، فبكيت وسقط من دموعي على خده، ففتح عينيه ونظر إلي، فقلت له: أوصني، فقال: لا تصحب الأشرار، ولا تشتغلن عن الله بمجالسة الأخيار.

ومن تلك الوصية اتقد في قلب الجنيد قبس محبة لا يخبو، وانطلق حماس إيمان لا يكبو، وقد كان للجنيد حظ كبير من علوم الفقه ومعارف الشريعة، أو ما يسميه المتصوفة علم الظاهر، فقد تفقه على العالم أبي ثور الكلبي، وجلس للإفتاء في حلقة شيخه وهو ابن عشرين، وفي ذلك ما فيه من تقدير الشيخ لعلم التلميذ ورضاه عن فهمه وورعه.

“رأيت لكم شيخا ببغداد ما رأت عيناي مثله”

عرف أهل بغداد للشيخ الجنيد علمه، وباهوا به غيرهم من مدائن الإسلام، وبالغ المؤرخون في الحديث عن علو كعبه وسمو مكانته وإحاطته بمعارف متعددة من سائد وسائر العلوم النقلية والعقلية في عصره، إذ ينقل الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي القاسم الكعبي أنه قال مرة: رأيت لكم شيخا ببغداد يقال له الجنيد، ما رأت عيناي مثله، كان الكتبة -يعني البلغاء- يحضرونه لألفاظه، والفلاسفة يحضرونه لدقة معانيه، والمتكلمون لزمام علمه، وكلامه بائن عن فهمهم وعلمهم.

الجنيد البغدادي.. شيخ العارفين وقُدْوة السّائرين وعَلَم الأولياء في زمانه

ويبارك عالم آخر وهو جعفر الخُلْدي حالة الانبهار هذه، حين يقول: لم نر في شيوخنا من اجتمع له علم وحال غير الجنيد. فقد كانت له حال خطيرة، وعلم غزير، إذا رأيت حاله رجحته على علمه، وإذا تكلم رجحت علمه على حاله.

وإلى ذلك الجانب العلمي الرفيع كان الإمام الجنيد آية في العبادة، وربما بالغ المؤرخون في ذلك، إذ ينقل بعضهم أنه كان يصلي ضحوة في دكانه 400 ركعة، وفي ذلك شغل شاغل عن البيع والشراء والتكسب.

حِكم الجنيد.. مقولات ترسم معالم طريق الصوفية

أخذ الجنيد مكانته في دائرة معارف الصوفية من خلال طريقته ومنهجه، وتعززت تلك المكانة عبر الزمن من خلال كثير من المقولات السائرة والحكم التأسيسية التي تداولها المتصوفة بالشرح والتوضيح والحواشي والتفسيرات، ومن بين تلك الحكم والمواعظ قوله:

  • أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب جل جلاله من القلب، والقلب إذا عري من الهيبة عري من الإيمان.
  • من خالفت إشارته معاملته، فهو مخادع كذاب. إن كنت تأمله فلا تأمنه (وقيل إنها كانت نقش خاتم الجنيد).
  • أُعطي أهل بغداد الشطح والعبارة، وأهل خراسان القلب والسخاء، وأهل البصرة الزهد والقناعة، وأهل الشام الحلم والسلامة، وأهل الحجاز الصبر والإنابة.
  • التصوف إفراد القديم عن الحدث، والخروج عن الوطن، وقطع المحابّ، وترك ما علم أو جهل، وأن يكون المرء زاهدا فيما عند الله، راغبا فيما لله عنده، فإذا كان كذلك حظاه إلى كشف العلوم، والعبارة عن الوجوه، وعلم السرائر، وفقه الأرواح.
  • وقال رجل رأى الجنيد بعد موته فسأله: ما فعل الله بك؟ فقال: طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار.
  • علمنا مضبوطٌ بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ الكتاب، ويكتب الحديث، ولم يتفقّه، لا يُقْتَدى به.
  • الطريق إلى الله عز وجل مسدودة على خلق الله تعالى، إلا على المقتفين آثار رسول الله ﷺ والتابعين لسنته، كما قال الله عز وجل: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
  • إنما هذا اليوم -إن عقلتَ- ضيفٌ نزل بك، وهو مرتحل عنك، فان أحسنت نزله وقِراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه شهد عليك، فلا تبع اليوم ولا تعد له بغير ثمنه، واحذر الحسرة عند نزول السكرة فإن الموت آتٍ وقد مات قبلك من مات.
  • اتق الله، وليكن سعيك في دنياك لآخرتك، فإنه ليس لك من دنياك شيء، فلا تدخرن مالك، ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك، ولكن تزوّد لبعد الشقة، واعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك، قبل أن ينزل بك قضاء الله ما هو نازل، فيحول دون الذي تريد. وصاحِب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما سلف بين يديك من العمر وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه، فإنه عن
كتب صوفية منسوبة إلى الجنيد البغدادي
  • قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزِدك إعجابُ أهلها زهدا فيها وحذرا منها، فإن الصالحين كانوا كذلك.
  • اعلم يا ابن آدم أنّ طلب الآخرة أمر عظيم لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك، فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله، وأخلص عملك، وإذا أصبحت فانتظر الموت، وإذا أمسيت فكن على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنّ أنجى الناسِ من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء.

مكتبة الجنيد.. كتب ورسائل مرشدة إلى طريق الله

إلى جانب هذه الحكم الجنيدية، تنسب إلى الجنيد كتب ورسائل صوفية ذات بعد تربوي وإرشادي منها على سبيل المثال:

  • القصد إلى الله.
  • السر في أنفاس الصوفية.
  • دواء الأرواح.
  • دواء التفريط.
  • أدب المفتقر إلى الله.
  • كتاب الفناء.
  • كتاب الميثاق

وغيرها من الرسائل والأيقونات التي أخذت موقعها قلائد في أجياد علم التصوف.

وكما أثر الجنيد في جيله ومعاصريه، وكانت حياته قبس تصوف وتربية، فقد كان لوفاته تأثير عظيم على البغداديين، وفي ذلك يروى الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي الحسين بن المنادي قوله: ذكر لي أنهم حزروا الجمع يوم جنازة الجنيد، الذين صلوا عليه نحو ستين ألفا، وما زالوا ينتابون قبره في كل يوم نحو الشهر، ودفن عند السري السقطي.

وكان ذلك في سنة 298 من الهجرة النبوية.

على مشارف الاتفاق.. قنطرة الجنيد بين الصوفية والسلفية

قبل أن تجتمع الصوفية والسلفية على قول أو مقام واحد -وقليل جدا ما يجمع بين الطوائف الإسلامية- كان الجنيد القنطرة التي ضيقت الشقة بين الطرفين، وعائد الصلة بين الخصمين المتناقضين، فإذا كان المتصوفة قد رفعوا الجنيد إلى مقامات الاستمداد والإلهام، فإن كبار شيوخ السلفية القديمة لم ينقصوا مكانته ولم يزرّوا عليه في مقامه السامي بين أعلام المسلمين، وفي ذلك يقول شيخ السلفية الإمام ابن تيمية: الجنيد من شيوخ أهل المعرفة المتبعين للكتاب والسنة. ويقول في موضع آخر من فتاواه: كان الجنيد رحمه الله سيد الطائفة، إمام هدى.

الجنيد البغدادي شيخ من شيوخ الصوفية وأهل المعرفة

وإلى جانب ابن تيمية، كان الذهبي بعد ذلك على قدم الإنصاف نفسه، حين يقول عن الجنيد: كان شيخ العارفين وقدوة السائرين وعلم الأولياء في زمانه، رحمة الله عليه.

وقد تمسك الصوفية بهذه النصوص وأمثالها في التصدي للسلفية المعاصرة، ورأوا فيها اعترافا من ابن تيمية بمكانة علماء وشيوخ التصوف، وأنه يسع أتباع ابن تيمية ما وسعه من إنصاف الصوفية والثناء على بعض أعلامهم.

كما مثّل عِلم الجنيدي ومنهجه عصا بيد رجال من السلفية يحاجون بها الصوفية، ويرون أن بعضهم انحرف عن النهج الذي أسسه الجنيد وأمثاله، وأن العودة إلى سنن الجنيد كفيل بالتطابق والتكامل بين جيران الضفتين السلفية والصوفية.

مقام الجنيد البغدادي في العراق

ويروى أنه لما حضرته الوفاة بدأ يقرأ القرآن ولا يتوقف، فقيل له: هلا رفقت بنفسك؟ فقال: ما أحدٌ أحوج إلى ذلك مني الآن، فهذا أوان طي صحيفتي. ثم أسلم الروح إلى بارئها.

غير أن صحائف ذكرى الجنيد في دفاتر التاريخ وحقائب الأيام لم تُطوَ بعد ذلك، بل ما زالت عاطرة تتوسع سطورها وهوامشها كل حين.