حاتم الطائي.. سلطان الكرم العربي الذي خلده التاريخ ومدحه النبي
لا يعرف عيب عند العرب أشد من البخل، ولا شرف أعلى من الجود والكرم، حتى إن رسول الله ﷺ أسقط زعامة أحد السادة العرب لأن قومه يعيبون عليه شح نفسه وبخل يمينه، فقال الرسول الكريم ﷺ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟
وفي سلاسل عظماء العرب، ومراقي قيمهم الحضارية يقف الكرم على الطراز العالي والسمت الأسمى من صفات العظماء، وفي سلالم السبق إلى هذه الخصلة العظيمة كان حاتم بن عبد الله الطائي المجلي في الكرم في العصر الجاهلي، وسار ذكره من بعد ذلك مخترقا العصور والأقوام، ليكون مضرب المثل في جود لا يكدره تكرار، وإيثار نفس لا يزعها عن الجود فقر ولا يبطرها غنى، حتى قيل في المثل: أكرم من حاتم.
وفي حقائب الأيام ودفاتر التاريخ من سيرة حاتم الطائي صحائف عطرة، وغرائب من الجود لا تكون مألوفة اليوم لمجتمعات مادية إلى أقصى درجة، يعيش فيها كل فرد هم الجمع والمنع، أما حاتم فكان كما تقول سيرته وما تناقلت كتب التاريخ عنه “مؤسسة” عون مباشر، ورائد إغاثة مستديم العطاء.
“فآليتُ أن لا أمنعَ الدهرَ جائعا”.. قصة جود بدأت قبل الفطام
إلى القُنة العالية من طيئ ينتمي حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم بن أبي أحزم (واسمه هرومة) بن ربيعة بن جرول بن ثُعل بن عمرو بن الغوث بن طيئ. ولطيئ في التاريخ العربي مآثر عديدة بفرسانها الأشداء، وكرمائها الممدّحين وجبليها الحصينين أجأ وسلمى، وأرضها الفياضة المعطاء.
وقد ارتضع حاتم لبان الجود من والدته التي قيل إنها كانت سحّاء اليد لا ترد سائلا ولا تستبقي مالا، فترعرع في جو الكرم رضيعا، حتى نسبت إليه أساطير أنه كان لا يرتضع من ثدي أمه إلا إذا كان ألقمت توأمه ثديها الآخر، وتلك إن صحت غاية كرم فطري بدت مخايله قبل الفطام.
وكان مما يروى عن أم حاتم عنترة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس -وفق ما تورد المصادر التاريخية- أنها لا تمسك شيئا سخاءً وجودا، وكان إخوتها يمنعونها فتأبى، وكانت امرأة موسرة فحبسوها في بيت سنة، يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع، ثم أخرجوها بعد سنة وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخُلق، فدفعوا إليها صرمة من مالها وقالوا: استمتعي بها، فأتتها امرأة من هوازن، وكانت تغشاها، فسألتها فقالت: دونك هذه الصرمة، فقد والله مسني من الجوع ما آليت أن لا أمنع سائلا، ثم أنشأت تقول:
لعمري لَقِدمًا عَضّني الجوعُ عضةً
فآليتُ أن لا أمنعَ الدهرَ جائعا
فقولا لهذا اللائمي اليومَ أعفِني
وإن أنت لم تفعل فعضَّ الأصابعا
فماذا عَساكُم أن تقولوا لأختكم
سوى عذلِكم أو عذلِ من كان مانِعا
وماذا تَرَونَ اليومَ إلا طبيعة
فكيف بتَركي يا ابن أمي الطبائعا
وفي هذا الجو نمت خلال حاتم، وتسامق ذكره، وتسابقت مكارمه، فأثرى من حسن السيرة ونبيل الصنيع. ويظهر من قصصه أنه قد جمع إلى الكرم الفطري حبا للفخر، وسعيا إلى الذكر والشرف والمكانة، فخلد الشعر مآثره والتاريخ مكارمه، لكنه أيضا ترك بصمات شعرية خالدة يفتخر فيها بصنيعه، وبما جبل عليه من كرم، وتلك عادة سامية من عادات أهل الجاهلية، فقد كانت المنافرة والمفاخرة وعد المحامد من أهم مقومات بناء السمعة وتخليد السمعة.
وفي هذا المنحنى بالذات يفترق منهج حاتم ورؤيته للكرم عن المنهج الإسلامي، إذ تحفل النصوص الإسلامية بالحض على الكرم بالتزامن مع كريمة إخفاء الصدقة، وعلى تنفيس الكربات دون طلب لذكر ولا محمدة بين الناس، ومع ذلك فقد نال حاتم ذكرا حميدا في السيرة النبوية، فقد وصفه رسول الله ﷺ بأنه كان يحب مكارم الأخلاق، ووصفه في أخرى بأنه طلب شيئا فناله، ويعني أنه قصد ببذله الفياض خلود الذكر والسمعة عند الناس وقد كان الذي أراد، فقد عبرت سيرته الحاتمية آفاق الزمان والمكان.
نحر الفرس في عام الشدة.. رجل يطعم الحي ويبيت جائعا
تتوارد القصص وتتآخى غرائب الجود الحاتمي، فهو على حال واحدة في الإعسار والإيسار، وفي إقبال الثراء أو تقلب الفاقة، ومن القصص الشهيرة التي ترويها كتب التاريخ عنه ما ينقله المؤرخ ابن أبي الدنيا أن أخا عدي بن حاتم لأمه قال: قيل للنوار امرأة حاتم: حدثينا عن حاتم، فقالت: كل أمره كان عجبا، أصابتنا سنة حَصَّت كل شيء، فاقشعرت لها الأرض واغبرت لها السماء، وضنت المراضع على أولادها، وراحت الإبل حدبا حدابير ما تبض بقطرة، وحلقت المال، وإنا لفي ليلة صنّبر بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغى الأصبية من الجوع: عبد الله، وعدي، وسفانة، فوالله إن وجدنا شيئا نعللهم به، فقام إلى أحد الصبيان فحمله وقمت إلى الصبية فعللتها، فوالله إن سكتا إلا بعد هدأة من الليل.
ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت وما كاد، ثم افترشنا قطيفة لنا شامية ذات خمل، فأضجعنا الصبيان عليها، ونمت أنا وهو في حجرة والصبيان بيننا، ثم أقبل علي يعللني لأنام، وعرفت ما يريد فتناومت، فقال: مالك أنمت؟ فسكتُّ. فقال: ما أراها إلا قد نامت. وما بي نوم.
فلما ادلهم الليل، وتهورت النجوم، وهدأت الأصوات، وسكنت الرجل، إذ جانب البيت قد رفع، فقال من هذا؟ فولى حتى قلت إذا قد أسحرنا أو كدنا عاد، فقال من هذا؟ قالت: جارتك فلانة يا أبا عدي، ما وجدت على أحد معولا غيرك، أتيتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع.
قال: أعجليهم عليّ. قالت النوار: فوثبت فقلت ماذا صنعت؟ اضطجع والله لقد تضاغى أصبيتك، فما وجدت ما تعللهم فكيف بهذه وبولدها؟ فقال: اسكتي، فوالله لأشبعنك إن شاء الله.
قالت: فأقبلت تحمل اثنين، وتمشي جنبتيها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ بحربته في لبته، ثم قدح زنده وأورى ناره، ثم جاء بمدية فكشط عن جلده، ثم دفع المدية إلى المرأة، ثم قال: دونك.
ثم قال: ابعثي صبيانك فبعثتهم، ثم قال: سوءة أتأكلون شيئا دون أهل الصرم، فجعل يطوف فيهم حتى هبوا وأقبلوا عليه، والتفع في ثوبه ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا، والله ما ذاق مزعة وإنه لأحوجهم إليه، فأصبحنا وما على الأرض منه إلا عظم وحافر.
رسل كسرى.. مائدة العشاء على الفرس المرغوبة
مما يروى عن كرم حاتم أيضا أنه ذبح فرسا آخر لرسل بعثهم إليه كسرى ملك الفرس ليشتروا من عنده فرسه الكريمة، فنزلوا إليه ليلا، ولم يجد ما يطعمهم، فقام إلى الفرس المرغوبة، فنحرها للضيوف، وعندما فاتحوه عند الصباح في طلبهم، أخبرهم متأسفا أنها ذبحها لهم البارحة، وأن لحمها كان مائدة عشائهم، فعادوا إلى ملكهم يثنون بما لم يعهدوا في حضارتهم ولا بين زعمائهم.
وتتضافر الروايات يشد بعضها أزر بعض، فها هو ذا حاتم يعود من سفره إلى الملك النعمان بن المنذر بمال وافر وذهب براق، فيتلقاه أعراب عشيرته يشكون إليه الفقر والفاقة، فيفسح لهم الطريق إلى ما أتى به من مال، فيتقاسمونه بينهم دون أن يتركوا لحاتم درهما ولا دينارا، ثم يرد على منتقديه بأن دراهمه لا تجتمع إلا لتنطلق مستبقات في سبل الخير ومنافذ المعروف.
“كل العرب أجود مني”.. منافسة غلام ذبح مئة شاة
كان حاتم يحس بالسباق والتنافس، فكان حريصا على أن ينال السهم الأعلى في الكرم، وتتوارد في ذلك قصص عدة، منها أنه سئل مرة: هل في العرب أجود منك؟ فقال: كل العرب أجود مني. ثم أنشأ يحدث قال: نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة، وكانت له مئة من الغنم، فذبح لي شاة منها وأتاني بها، فلما قرّب إليّ دماغها قلت: ما أطيب هذا الدماغ! قال: فذهب فلم يزل يأتيني منه حتى قلت: قد اكتفيت، فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المئة شاة وبقي لا شيء له؟ فقيل: فما صنعت به؟ فقال: ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شيء. قال: على كل حال، فقال: أعطيته مئة ناقة من خيار إبلي.
وإذا كان الفتى الغريب قد بالغ في الكرم، فقد بالغ حاتم أيضا في المكافأة، وبتلك السمة نال السمعة التي أراد، والفخر الذي سعى إليه.
وبلغ من جود حاتم أنه استأسر وربط نفسه في قيد بعد أن استنجد به أسير عربي، فألقى نفسه إلى الأسر مكانه، وأطلق سراحه، وبقي في انتظار أن يرسل إليه قومه طيئ الفدية المطلوبة، إذ لم يكن بحوزته حينها من المال ما يكفي لفداء الأسير المستغيث.
“والله لقد أضافنا حاتم حيا وميتا”
لعل من أغرب ما يروى عن حاتم أن كرمه امتد بعد موته حتى بين القبور، وتروى في ذلك أسطورة غريبة تضافرت كتب التاريخ العربي على إيرادها وخلاصتها كما يروى أبو بكر الخرائطي قال: مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم طيئ فنزلوا قريبا منه، فقام إليه بعضهم يقال له أبو الخيبري، فجعل يركض قبره برجله، ويقول: يا أبا جعد اقرِنا. فقال له بعض أصحابه: ما تخاطب من رمة وقد بليت؟ وأجنهم الليل فناموا، فقام صاحب القول فزعا يقول: يا قوم عليكم بمطيكم، فإن حاتما أتاني في النوم وأنشدني شعرا، وقد حفظته يقول:
أبا الخيبري وأنت امرُؤٌ
ظلومُ العشيرة شتّامُها
أتيتَ بصَحبِك تَبغِي القِرى
لدَى حُفرةٍ قد صَدَت هَامُها
أتَبغي لي الذنبَ عند المبيت
وحولَكَ طَيٌّ وأنعامُها
وإنا لَنُشبِعُ أضيافَنا
وتأتي المطيُّ فنعتامُها
قال: وإذا ناقة صاحب القول تكوس عقيرا (تسقط على رأسها) فنحروها، وقاموا يشتوون ويأكلون. وقالوا: والله لقد أضافنا حاتم حيا وميتا. قال: وأصبح القوم وأردفوا صاحبهم وساروا، فإذا رجل ينوه بهم راكبا جملا، ويقود آخر. فقال: أيكم أبو الخيبري؟ قال: أنا. قال: إن حاتما أتاني في النوم فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك، وأمرني أن أحملك، وهذا بعير فخذه، ودفعه إليه.
“أأبسطُ وجهي إنه أوَّلُ القِرى”.. فخر الشاعر الجواد
تنسب كتب الأدب العربي قصائد ونتفا غير طويلة من رائق الأدب ورقراق المعاني إلى حاتم الطائي، وأغلبها في الفخر بالكرم والعفة، وإليه تنسب في ذلك مقولات سائرة، وقد اختط الرجل لنفسه منهجا يقوم على كف الأذى عن الناس، وبذل الخير إليهم، وحفظ كرامة الجار وصونه، فكان أبعد ما يكون عن التهتك الخلقي، وكان بينه وبين البخل برزخ لا يبغيان، وذلك بعد أن استقرت سجية الجود في نفسه، واستقامت خلال البذل في طبعه، وفي ذلك يقول:
أمارسُ نفسي البخلَ حتى أُعزَّها
وأتركُ نفس الجود ما أستثيرُها
ولا تشتكيني جارتي غيرَ أنَّها
إذا غاب عنها بعلُها لا أزورُها
سيَبلُغُها خَيري ويرجِعُ بعلُها
إليها، ولم تُقصَر عليها سُتورُها
ومن عيون فخره بجوده قوله:
سَلي البائِسَ المقرورَ يا أمَّ مالكٍ
إذا ما أتاني بين ناري ومجزري
أأبسطُ وجهي إنه أوَّلُ القِرى
وأبذل معروفي له دون مُنْكَري
وقد كانت فلسفة حاتم في الحياة تناقض فكرة الادخار وتعارض منهج الجمع، بل كان يؤسس لفكرة أن لكل غد رزقه، وفي ذلك يقول:
فَلا تَلتمِسْ مالًا بِعيش مُقتَّرٍ
لكل غَدٍ رزقٌ يعودُ جديدُ
ألم تَرَ أن المالَ غادٍ ورائحٌ
وأن الذي يُعطيكَ سوفَ يُعِيدُ
وعن فلسفة الجود والبذل عند حاتم تصدر تاريخه صفحات الأيام وعناوين الفضائل، وانتهى به المثل السائر في الكرم، وتركها كلمة عربية باقية في الخالدين.