عبد العزيز العروي.. صانع الحكايات الشعبية ومبهج الأسمار التونسية

يمثل الأدب الشعبي خزّان الذاكرة الذي يحفظ تجارب الشعوب وحكمها، فهو ينقل أخبار السابقين ومغامراتهم، ويضيف إليها من فنون الخيال، ويسرب العجيب والخارق إلى أعطاف الواقعي، ويضحي تراثا غير مادي يجسّد على نحو ما شيئا من العقل الجمعي، من معيشه وقيمه وأحلامه. ويكون هذا الأدب شفويا عامة، وإبداعا جماعيا لا نعرف له مصدرا محددا، لذلك لا تفتأ الحكايات تتغير بحسب المناطق والأقاليم، فتكتسب ثراء وتعددا. ذلك شأن “ألف ليلة وليلة” و”سيرة الجازية الهلالية” و”سيرة عنترة بن شداد”.

وتعيّن هذه الحكايات غالبا أحداث زمن موغل في القدم، فتشير إليه بالعبارة “كان يا مكان في قديم الزمان”، أو نحوها، وفي هذه العبارة ميثاق يجعلنا نقبل ما يقع فيها من أحداث خارقة وعجيبة.

ولئن مثلت الحكاية الشعبية شكلا سرديا تراثيا، فإن شيئا منها لا يزال قائما حتى اليوم، بفضل مبدعين آمنوا بوظيفتها الفنية أو التربوية، ففي تونس على سبيل المثال انتبه عبد العزيز العروي إلى أهميتها، فاستلهم قصصها التي كادت تندثر، ونقّح منها وأضاف، ووجد في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التونسي سندا لبث إبداعه، مُحافظا على طابعها الشفوي المميّز، فجعل مسامراته فاكهة ليالي رمضان على امتداد سنوات، وخلّف بعد رحيله مدوّنة كبيرة أخذ النقد اليوم ينتبه إليها، خاصة بعد أن باتت متاحة على مواقع الإنترنت.

جماعة “تحت السور”.. مجلس أدباء ومفكري القرن الماضي

عبد العزيز العروي صحفي ووجه إذاعي تونسي، اشتغل في الثلث الأول من القرن العشرين بالصحافة المكتوبة، وألّف بالعربية والفرنسية، واحترف النقد الفني والمسرحي، وانتسب إلى جماعة تحت السور، وهو مجلس أدبي وفني بمقهى بالمدينة القديمة، أمّه الجيل الجديد من الأدباء والمفكرين والصحفيين والرسامين والفنانين أواخر العشرينيات ومطلع الثلاثينات من القرن الماضي، وكانت تجري فيه مطارحاتهم وأسمارهم الأدبيّة.

ومن أبرز رواده علي الدوعاجي وعبد الرزاق كرباكة والهادي العبيدي ومصطفى خريّف ومحمد العريبي ومحمود بيرم التونسي. ثم لمّا بُعثت الإذاعة التونسية سنة 1938 مثّل عبد العزيز العروي أحد أبرز وجوهها، فأشرف على برامج قسمها العربي من سنة 1949 إلى سنة 1956، وظل ينتج لها، ثم أنتج للتلفزيون بعد الاستقلال.

اشتهر عبد العزيز العروي بأسماره الأسبوعية التي عرفت بـ”حكايات العروي”، وبلغ عددها نحو 200 حكاية، جُمع أغلبها في كتاب بالعنوان نفسه، وكان يلقيها على حلقات متعاقبة في رمضان خاصة، ولم يكن يكتفي بجمع ما ابتكر المخيال الجماعي من حكايات الملوك والسلاطين وملاحم الأبطال، وإنما كان يثريها من روحه وثقافته الموسوعية، مستلهما الحكمة الشعبية والأمثال المتداولة، ثم أضحت وجهة تُقتبس منها الأعمال الدرامية الإذاعية والتلفزيونية حتى اليوم.

“ابن المرأة الفقيرة”.. رحلة مضنية إلى الشرق للفوز بابنة القاضي

لا تتطرق حكايات عبد العزيز العروي إلى موضوعات الحياة الكبرى وقضايا الإنسان المصيرية كالسياسة والمعتقدات والفلسفة، وإنما تقف عند حدود مظاهر الحياة اليومية العادية، فتسرد حكايات من حاضرة تونس، تدور مواضيعها حول العادات والتقاليد والصنائع والمهن والعائلة بمختلف مشاغلها.

وحتى نقرّب عوالمه من القارئ، آثرنا أن نجعل حكاية “ابن المرأة الفقيرة” عينة من هذه الحكايات الشعبية، وأن نفكّكها بقدر يسمح بكشف بعض خصائصها الجمالية ووجه الطرافة فيها.

تدور الحكاية حول شاب يتيم معدم تسكنه فكرة الزواج من ابنة قاضي المدينة حدّ الهوس والتهوّر، فتجرأ على خطبتها منه، وتمثّل هذه الخطوة الحدث الرئيسي والحافز الذي يولّد أحداثا فرعية كثيرة، ويأخذنا إلى العوالم العجيبة، ويخلق الصعوبات والعراقيل أمام الشاب، حتى نكاد نيأس من نجاحه في مسعاه، فمن أجل رفض القاضي لهذه الخطبة بطريقة لطيفة لا تكسر قلبه، فقد اشترط أن يكون المهر إخباره بسر تاجر الجوز الذي يبيع بضاعته مقابل صفعات يتلقاها على وجهه.

يأخذ الفتى هذا الطلب مأخذ الجدّ، فيهيم على وجهه ويضرب في الأرض على غير هدى، باحثا عن التاجر الغريب الأطوار، حتى إذا ما وصل إلى مصر علم أنه يقيم في بغداد، وعندها تتحول رحلته إلى ما يشبه عدو الحواجز، فكلما تجاوز أحدها اعترضه آخر.

وبعد رحلة مضنية وبحث كثير يصل إلى هذا التاجر ويسأله عن سرّ هذا المقابل الغريب، لكن التاجر يشترط مقايضة السرّ بآخر، وهو أن يأتيه بسرّ حداد البصرة الذي يعمل لبرهة قصيرة، ثم يدخل محله، ثم يعاود الخروج وهكذا، وفي البصرة يقايض الحداد معرفة سره بسر الرجل الذي يهرس الياقوت، ويُرغم الشاب على شدّ الرحال إلى الهند.

“في التراب ولا في بطون أولاد الكلاب”.. رحلة إلى بلاد الهند

يمثل إذن كل لغز مفتاحا لحل سابقه، وتصبح حكاية صاحب الياقوت البداية لفتح جميع الأقفال، ومدارها على ابن شهبندر التاجر الذي مات والده تاركا ثروة ضخمة، ولأنه فتى غرّ فقد انصرف إلى حياة اللهو انصرافا جعله يفرّط في جميع أمواله، وجعل خلان السوء ينفضّون من حوله بعد أن استنزفوا ثروته.

وفي لحظة يأس وقد كره حياة الإفلاس، قرّر الفتى الغر الانتحار، فشد الحبل إلى حلقة في السقف، فإذا بالطبقة الظاهرة منه تنهار، وإذا بركام من الأحجار الكريمة يقع، وإذا بالفتى المفلس يصبح أثرى أثرياء البلاد من جديد، ولكي ينتقم من أصدقائه الذين تنكروا له، جعل يهرس كل يوم قطعة من الياقوت حتى يحوّلها إلى مسحوق، ثم يلقي بها، مردّدا القول المأثور “في التراب ولا في بطون أولاد الكلاب”.

يغادر الشاب بلاد الهند وفي جرابه ثلاثة صيعان من الياقوت هدية من ابن التاجر، ومفتاح حلّ لغز حداد  البصرة الذي يستقبله ويسمع منه سر الياقوت المهروس، ثم يسرد له قصّته، فقد طارت به حمامة يوما إلى بلاد عجيبة لينصبه أهلها ملكا عليهم، وليزوجوه من أرملة ملكهم الرّاحل، فالعرف عندهم أن ينصّبوا عليهم أول غريب يجدونه عند أبواب مدينتهم عند موت ملكهم، لكن الحدّاد الملك تاق إلى الزواج من ابنة الوزير الشابة الجميلة بعد أن استطاب حياة الدعة، فإذا بالحمامة تغضب من طمعه، فتطير به وتعيده إلى ورشته تاركا عرشه وأبناءه، ولذلك ظل يعمل ويطلّ في كل حين على النافذة التي دخلت منها الحمامة، عساها تغفر له زلته وتعيده إلى عرشه.

“لا داعي للحكاية، زوجتك ابنتي”

يحمل الشاب سر الحدّاد إلى بغداد، وبه يفك شفرة لغز بائع الجوز بمقابل صفعات من الشاري، فيعلم أن هذا البائع كان قد فرّط في ميراثه أيضا، وأن أصدقاء السوء تنكروا له، شأنهم شأن أصدقاء ابن شهبندر التجار، ولما يعمل فأسه في شجرة من الغابة ليحتطب ويحصل بعض الرزق، يخرج له جني أسود من مهوى الفأس، فيسعفه ببوق يدفع بالقطع الذهبية كلّما نفخ فيه المرء، ويبوح الرجل بالسر لأخيه فيسرقه منه، ولجبر ضرره يناوله الجني أنبوبا تتدفق منه أنهار من الجوز، فيبيعه ويعيش من ريعه، لكن سريعا ما تكسد تجارته لكثرة المعروض منها وعزوف مستهلكيها عنها، فيقرر صاحبها التفريط فيها مقابل صفعات يجدها عقابه العادل لتهاونه في الحفاظ على ثروته.

يعود الشاب الحالم إلى تونس وقد بات ثريا بفضل ياقوت ابن شهبندر التجار، ويقصد منزل القاضي محملا بالهدايا الكثيرة، ويهمّ بكشف سرّ بائع الجوز، لكن القاضي يقول وقد شهد ثراءه “لا داعي للحكاية، زوجتك ابنتي”.

“غناك بمصر فاذهب إليها”.. بغدادي يشد الرحال إلى مصر

لا يقتصر دور عبد العزيز العروي على جمع الحكايات الشعبية من مظانها المختلفة، فقد وسّع مغامراتها، وجعل أحداثها الفرعية تتوالد وتتشابك وتنفتح على العوالم الغريبة أو العجيبة، فيتداخل الواقع والحلم، وتجمع شخصياتها بين البشر والجن والحيوانات.

وفي حكاية “ابن المرأة الفقيرة” يجعل السفر بحثا عن الأسرار سبيلا للحصول على الثروة، فيكشف إفادته من السرد التراثي العربي الذي يجمع بين الخيالي والواقعي، ففي أثر “الفرج بعد الشدة” لأبي الفرج التنوخي أن زائرا كان يزور بغداديا في منامه كل ليلة، فيقول له “غناك بمصر فاذهب إليها”.

ولمّا ألحّ الزائر على ذلك في كلّ حلم سافر البغدادي إلى مصر، وألقى العسس (الشرطة) القبض عليه ليلا وهو يتسول بعد أن نفذت مؤنته وخاب ظنّه، فيعلمهم بخبره، وإذا بأحدهم يسخر منه قائلا، كيف تصدّق هذا أيها الأحمق؟ ويذكر له حلما مشابها يراه هو ولا يحمله محمل الجدّ، ويتفطّن البغدادي إلى أن مكان الكنز في حلم المصريّ هو ناحية من منزله. وهكذا كان عليه أن يسافر ليلتقي المصري، ويعلم منه موضع الكنز.

ولفتنة هذه الحكاية اقتبسها الأرجنتيني “خورخي لويس بورخيس” والبرازيلي “باولو كويلو” الذي نسج منها الهيكل الرئيسي لروايته الشهيرة “الخيميائي”. ومنها استلهم الشاعر منصف الوهايبي “مخطوط تمبكتو”، واقتبسها مسرح عشتار بمدينة رام الله، وحوّلها إلى عمل مسرحي، أما في حكاية “ابن المرأة الفقيرة” فقد اقتبس منها العروي فكرة السفر الذي يدرّ الثروة.

تراث الحكاية الشعبية.. أسلوب فكاهي يحمي القيم الحميدة

كان لأسلوب عبد العزيز العروي في الإلقاء دور في منح  أن يسافرلميّ غلى الواقعيّ رمضانعبيةدرّ الثروة.ب معهمن الهدايا لمهرجانات التي تنظم لهذا الصنف من الحكي خير دليل على ذلك.الحكايات الشعبية روحا مميزة، فقد اختص بحضور مسرحي باهر موقّر من خلال بدلته الكلاسيكية وطربوشه الأسطواني، وسنّ لنفسه طقوسا خاصة في الإلقاء، فكان يستهل سرد حكاياته بالطَّرق على طبقه النحاسي الكبير، ثم يبدأ بالقول بلهجة تونسية “يحكيوْ على..”، معلنا انطلاق القصّ كقاض يضرب بمطرقته ليعلن افتتاح الجلسة القضائية، ثم يأخذ في السرد مطوّعا صوته الرخيم، فتتناغم أجراسه مع أطوار الحكاية، وتحاكي نبراته إيقاعها، وتجسّد ما يكتنفها من المشاعر كالخوف والتّعجب والإصرار والاحتجاج.

ولا تخلو الحكاية من بعض الفكاهة التي لا تذهب برصانة الحاكي، وإنما تجعل المتلقي ينغمر فيها، فيعيشها أكثر مما يسمعها، فكان عبد العزيز العروي ذلك المبدع الذي أمّن حفظ تراث شفوي غير مادي، بإنقاذه لقصصه من الاندثار، وإثرائه له بخياله العميق، وباقتباسه من الثقافات العالمية، وجعله سبيله للدفاع عن القيم الأصيلة، وفي العينة التي أوردنا، كان يحثّ على حسن التّعامل مع المال، وجعله وسيلة للعيش الكريم لا غاية في ذاته، فكان يقاوم سياقا حضاريا تغلب عليه النزعات المادية، وتدفع بالقيم الأخلاقية إلى الخلف.

فن الحكواتي.. بهجة المجالس ومنطلق المسارح العربية

تظل التجارب التي استلهمت فن الحكواتي كثيرة، فقد طوّر بعضها من تقنياته لتؤسس تجارب رائدة، شأن مسرح التسييس للسوري سعد الله ونوس، خاصة في مسرحيته “رأس المملوك جابر”، أو شأن تجارب المسرح الوطني الفلسطيني “الحكواتي” لراضي شحادة، أو تجارب مسارح الحلقة المختلفة في المغرب الكبير.

لكن هذا المنجز على أهميته، يأخذ الحكاية الشعبية إلى فن المسرح بالأساس، أما عمل عبد العزيز العروي فقد اشتغل على الحكاية الشعبية ذاتها، ذلك الشكل الأصلي وما يصاحبه من ظروف خاصة للتلقي، فحاول الحفاظ على قيمه الفنية والجمالية ومعانيه الإنسانية النبيلة، ذلك أن ظروف تلقي الحكاية الشعبية تعزّز الروابط الاجتماعية، سواء ضاق مجالها فكانت جلسة استماع عائلي تؤمنها الجدة، أو اتسع ليشمل مجلسا عاما يقصّ فيه حاكٍ محترف.

ورغم تطور أشكال القص اليوم بين أفلام ومسلسلات ومسارح وروايات، ورغم تطور الوسائط، فإنها ظلت تدعم حالة العزلة التي يعيشها المرء بشكل متصاعد، ولم تستطع أن تملأ الفراغ الذي تركته الحكاية الشعبية بما لها من دور اجتماعي يكفل التواصل بين الأفراد فكريا وعاطفيا، ولعل المحاولات الكثيرة لإحياء دور الحكواتي في كثير من المنابر والمهرجانات التي تنظم لهذا الصنف من القصّ خير دليل على ذلك.


إعلان