أحمد بن عرفان.. إمام مجاهد تكالب عليه السيخ والإنجليز وقبائل الأفغان

ربما لم يدر في خلد الإمام الشيخ أحمد بن عرفان أن نهاية دولته لن تكون برماح الهنود السيخ ولا البريطانيين، بل على يد رجال أفغان أشداء يشتركون معه في النحلة والدين، قبل أن تجري بينهما سيول من الخلاف العقدي، وتهب رياح الخيانة بين الطرفين، بعد أن أوهم الإنجليز وحلفاؤهم من السيخ قبائل الأفغان بأن رماح ابن عرفان ستتجه إلى نحورهم في أقرب وقت ممكن.

وبين النهاية والبداية كانت رحلة ابن عرفان في الحياة تحت أسقف المحاريب، وبين رياض المساجد وحلقات الذكر، فقد تنسم نفحات الحياة أول مرة في حدود 1786م في قرية تكية الهندية.

“الإمام الهمام حجة الله بين الأنام”

تلا أحمد بن عرفان شوارق أنوار المعرفة في بيت جده لأم الشيخ أبي سعيد الذي انتهت إليه رئاسة زاوية الشيخ علم الله بن معظم بن أحمد بن محمود الشريف في منطقة “رائي بريلي” قرب مدينة لكْنَاوْ ذات التاريخ الإسلامي العريق.

وفي هذا الجو الديني تربى أحمد بن عرفان، فكانت دنياه كلها الدفاتر والمحابر والصلوات والأذكار ودروس العلم ومجالس الوعظ، أي أنه لم يعرف غير الصلوات والأذكار والمصاحف والمواعظ، على حد تعبير كاتب بعض سيرته الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وهو الذي ألف عنه كتابا سنعتمده أحد المراجع الرئيسية في هذه المادة.

أما الشيخ عبد الحي الحسني فيصف ابن عرفان في كتابه “نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” بقوله: السيد الإمام الهمام، حجة الله بين الأنام، موضح محجة الملة والإسلام، قامع الكفرة والمبتدعين، ونموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، مولانا الإمام المجاهد الشهيد السعيد أحمد بن عرفان بن نور الشريف الحسني البريلوي، كان من ذرية الأمير الكبير بدر الملة المنير شيخ الإسلام قطب الدين محمد بن أحمد المدني، ولد في صفر سنة 1081 ببلدة رائي بريلي في زاوية جدة السيد علم الله النقشبندي البريلوي، ونشأ في تصوف تام وتأله واقتصاد في الملبس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفا صالحا، برا تقيا، ورعا عابدا ناسكا، صواما قواما، ذاكرا لله تعالى في كل أمر، رجّاعا إليه في سائر الأحوال، وقّافا عند حدوده وأوامره ونواهيه، لا تكاد نفسه تقنع من خدمة الأرامل والأيتام، كان يذهب إلى بيوتهم ويتفحص عن حوائجهم، ويجتهد في الاستقاء والاحتطاب واجتلاب الأمتعة من السوق.

مظاهر التصوف.. نفور نفسي وهجرة في طلب العلم

أظهر الفتى ابن عرفان ولعا بالفروسية، وساعدته على ذلك قوة بدن وحدة ذكاء وعزيمة وقادة، وقد اصطدمت دراسته في بدايته بنفوره النفسي من كثير من مظاهر التصوف وقيوده المؤثرة في مجتمعه، فأثر ذلك على تعليمه، وفتح له أبواب خلاف مع بعض محيطه القريب، لكنه عوض عن ذلك بإقبال غريب على العبادة والتأله والنسك، فكان دائم الذكر والفكر غزير العَبرة مشرق الروح بمحبة إلهية عميقة.

ترجمات الشيخ أحمد عرفان الشهيد

ولما أراد أن يسلك طريقا أخرى إلى العلم استأذن والده، فأذن له بالرحيل إلى حاضرة العلماء مدينة لكناو، فسار إليها، وكان مع رفاقه السبعة يتعاقبون على فرس واحد، فتنازل لهم عن الفرس، وتحمل عنهم حمل أمتعتهم جميعا عندما رآهم قد تعبوا من حملها، وذلك لما حباه الله به من قوة في البدن وصلابة في البنيان وشدة في الساعد، ونفس نزوع إلى الخير مؤثرة للآجل على العاجل.

أقام ابن عرفان في لكناو فترة يتعرض فيها للجهاد ضد الإنكليز، ويسعى إلى أن ينال الشهادة فلم تكتب له يومها، فحزم أمتعه إلى دهلي، (دلهي حاليا).

أيام دهلي.. معارف واسعة في حضرة الشيخ الدهلوي

ورث الشيخ عبد العزيز الدهلوي سيرة والده وعلمه، فقد كان والده الشيخ أحمد الدهلوي من أكبر علماء الإسلام في الهند، ويكفي أنه صاحب كتاب “حجة الله البالغة” الذي سار مشرقا ومغربا منذ أن سوّده صاحبه، وترك سفر نور ينافح عن الإسلام وقيوميته على الأديان والأفئدة والقيم.

رسم وتعريف بالشيخ أحمد عرفات البريلوي بالقرب من ضريحه

وفي حضرة الشيخ عبد العزيز أقام الإمام أحمد بن عرفان فترة، عاد فيها إلى طلب العلم بشكل معمق ونهم نبيل، فأخذ على عبد العزيز معارف واسعة وعلما جمّا وفقها كبيرا، ثم استأذنه بعد ذلك للعودة إلى الجندية، فقد كان حلم الشهادة يرن في أذن وشغاف الرجل.

وقد أقام ابن عرفان سنوات في معسكر الأمير نواب أمير خان، وشارك معه في كثير من غزواته وحروبه، ثم غادره غير آسف إذ لم يجد عنده ما يبحث عنه من سداد رمح المجاهد ولا نبل الشهادة، فقد كان أحمد بن عرفان حريصا على قتال المحتلين الإنجليز، وكان للأمير رأي وسبيل آخر، ثم تفرقا وبدأ ابن عرفان مسارا آخر.

حرب البدعة.. سلفي بين رحاب الهندوسية وزوايا التصوف

كانت الروح السلفية تنمو في ذهن وفقه أحمد بن عرفان، وكان تصوره للسنة النبوية يتباين شيئا فشيئا مع الفهم السائد بين صفوف مشايخ ومريدي الصوفية في الهند، وكانت دهلي -أو دلهي كما سماها البريطانيون بعد ذلك- مقسمة بين هندوسية عميقة، وبين تصوف إسلامي عميق، وربما انتقلت إلى التصوف بعض الروحانيات الشرقية القادمة من أعماق الديانات والنحل الهندية غير الإسلامية.

اختطّ ابن عرفان لنفسه منهجا في الدعوة إلى التوحيد، ونبذ ما يراه أدرانا وبثورا علت وجه الشريعة الناصع، وعكرت صفو مناهجها، وقد كانت هذه الدعوة نتيجة ضمنية لتأثير شيخه عبد العزيز بن أحمد الدهلوي، وكذا ما وصلت إليه الصوفية في الهند من تماه قريب من نحل هندوسية متعددة، كما ينقل الشيخ الطنطاوي عن مسعود الندوي.

وسرعان ما انتشرت دعوة الشيخ أحمد بن عرفان، والتحق بها علماء كبار من أبناء وتلاميذ شيخه عبد العزيز الدهلوي، وكثير من طلاب العلم والمثقفين الإسلاميين وعامة الناس، وظلت في توسع مضطرد تحصد كل يوم جديدا.

ولم يكتف ابن عرفان بمدينة دلهي بل جال في مناطق كثيرة من الهند، وانتسب إلى طائفته عدد كبير من المسلمين، وأسلم على يده أيضا جمهور عريض، وجرت بينه وبين بعض شيوخ التصوف مناظرات شديدة، وكان كعبه فيها يعلو وحجته تدحض، ولسان صوابه يقصم ما يراه خطأ في التدين وبدعة في الاعتقاد أو الممارسة، ثم لاحت له شوارق أنوار البيت العتيق، وعزم على الحج، وكان ذلك منعطفا مهما في حياة الرجل.

“نحن أضياف الله”.. رحلة الدعوة ومحاربة الخمور والحج

مع سعي الإنجليز لقطع علائق المسلمين في الهند مع إخوانهم في البلدان الإسلامية الأخرى، تراجع إقبال مسلمي الهند على رحلات الحج، ونتيجة لذلك عزم الشيخ أحمد بن عرفان على الحج بداية سنة 1236 ه، فكانت رحلته إلى الحج طويلة استمرت عامين، لأنه بدأها سياحة في الهند، يرافقه من مساعديه وتلاميذه وأتباعه قرابة 750 داعية، جائلا في قرى ومدائن الهند داعية ومرشدا، يسبقه ذكره، وتتنزل الرحمات والبركات بمقدمه ومروره.

شد الشيخ أحمد عرفان الرحال نحو مكة المكرمة رفقة 750 داعية

وكان من نتائج تلك الدعوة أن أسلم على يديه عدد كبير من أتباع الديانة الهندوسية، وتاب خلق كبير من المسلمين.

ويشير الشيخ أبو الحسن الندوي -كما نقل ذلك الشيخ الطنطاوي- إلى أن من أبرز نتائج تلك الجولة كساد سوق الخمور التي كانت رائجة في الهند بين المسلمين والوثنيين، فتوقفت على سبيل المثال تجارة الخمور في كلكته (كالكوتا)، وهي كبرى مدن الهند يومها، وكان يقيم فيها يومئذ مليون مسلم من أصل خمسة ملايين من السكان، ولما كسدت سوق الخمر امتنع باعتها عن تسديد الضرائب للدولة البريطانية، وتحولت أرباح تجارها إلى خسائر، وأغلقت مئات الحانات، وأفاق ملايين السكارى من نشوة أم الخبائث.

ومن غرائب عمل الرجل في رحلته إلى الحج أن تصدق هو ورفاقه بكل ما كان لديهم من مال، ونسبت إليه مقولة: “نحن أضياف الله، نخرج على الفتح، فلا نحتاج إلى زاد من درهم ولا دينار”.

ثم انطلق موكب الحج الهندي وقد توسع وزاد على الآلاف حتى وصل الحجاز وأقام شعائر الحج وارتمى بالأشواق على العرصات والمشاعر المقدسة، وعاد ضيوف الله أكثر تصميما على المضي قدما في طريق المقاومة والجهاد.

دولة ابن عرفان.. معركة حطمت أسطورة وحوش البنجاب

حركت المذابح التي نفذها السيخ في قرى المسلمين وتجمعاتهم غضب الشيخ أحمد بن عرفان، فاستنفر أنصاره وتلاميذه، ودعا الناس إلى رص الصفوف للجهاد، وبدأ الاحتكاك يتصاعد بين جيشه وقوات من السيخ.

وتصاعدت انتصارات ابن عرفان، وقويت شوكة جيشه خصوصا بعد أن هزم جيوش ملك البنجاب “رانجيت سينغ”، محطما أسطورة وحوش البنجاب الذين أوتوا بسطة في الجسم والبطش والقوة، وقد تأتت تلك السمعة للملك “رانجيت سينغ”، بعد أن نجح في توحيد السيخ تحت سلطته وتأسيس أول إمبراطورية سيخية، وهو ما مكّنه من السيطرة على مناطق واسعة في البنجاب وكشمير وبيشاور.

الشيخ أحمد عرفان يشكل جيشا يقاتل فيه السيخ المعروفين بوحوش البنجاب ويتغلب عليهم

وقد كانت هزيمة هذا الإمبراطور بوابة واسعة دخلت منها هيبة الشيخ ابن عرفان إلى قلوب قطاعات واسعة من الهنود، وخصوصا في منطقة البنجاب (شمال غرب شبه القارة الهندية) وفي أفغانستان أيضا، إذ استطاع فتح بيشاور، وأقام فيها عاصمة دولته، ونصب القضاة والحكام في مختلف القرى الهندية، وبسط ألوية العدالة على السكان، فأمنوا بعد خوف، وعاش معه الناس قرابة أربع سنين زاهرة من العدل العرفاني، قبل أن تلتهب أطراف إمارته من جديد، مع تمرد القبائل الأفغانية التي قتلت بعض قضاة ونواب ابن عرفان.

سرعان ما انكسرت قوة ابن عرفان أمام زحف أفغاني ضخم، عززته فتاوى أصدرها بعض العلماء الهنود والأفغان بتشجيع من الإنجليز، بأن ابن عرفان وجنوده وهابيون يقتلون المسلمين، وينبغي أن يرد عليهم المسلمون بالقتال، وهكذا أعملت رماح المسلمين في نحور المسلمين، ولم يجد ابن عرفان سبيلا غير الانسحاب من بيشاور والبنجاب باتجاه كشمير.

معركة بلاكوت.. جندي خائن يكتب نهاية دامية

في القرية الجبلية بلاكوت وقعت آخر معارك الشيخ ابن عرفان عندما حاصره وأتباعَه جيشٌ عرمرم من أتباع زعيم البنجاب “رانجيت سينغ”، وبعد ليلة دامعة من الدعاء والتبتل توجه الرجل إلى ملتقى الأسنة، حتى قُتل رفقة صديقه الشيخ إسماعيل الدهلوي والمئات من أنصارهما يوم الجمعة 24 من ذي القعدة عام 1246 ه، وذلك بعد خيانة من بعض جنود ابن عرفان، حين فتحوا الطريق للجنود السيخ، فانقضّوا على الجيش العرفاني ذبحا وإبادة، وكان بريق الدراهم على ما يبدو أقوى في نفس ذلك الجندي الخائن وجماعته من مواعظ وإشراقات الشيخ ابن عرفان.

قبر الشيخ الشهيد أحمد عرفان في مدينة بلاكوت

وإذا كان ابن عرفان قد قضى شهيدا رفقة أنصاره في تلك الجمعة الدامية، فإن دعوته ونهجه قد سرى في الهند سريان الحياة في الأجسام، والنسيم في الأرواح، وكانت دعوته واستشهاده روحا جديدة للبعث الإسلامي في شبه الجزيرة الهندية بشكل عام.

ومن دماء ابن عرفان وصديقه إسماعيل الدهلوي نما وترعرع وعي ثوري إسلامي في الهند، وما زال وهج ذكراه عاطرا في قلوب الهنود والأفغان.