“سبايك لي”.. مخرج تحدى عنصرية هوليود وحارب الصورة النمطية للسود

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، قرر طالب أمريكي أسود إعادة تشكيل ملامح صورة السود في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال فتحة كاميرا “سوبر 8″، إذ جال بها شوارع بروكلين وحرم جامعة أتلانتا التي ارتادها. لم يكن ذلك الطالب سوى المخرج الأمريكي المناهض للتمييز العنصري ضد السود “سبياك لي”، الذي اتخذ من نفسه بطلا للسود، تماما مثل “مارتن لوثر كينغ” و”مالكوم إكس”.

“سبايك لي”.. بكر مدلل تثقل المسؤوليات عاتقه

ولد “شيلتون جاكسون لي” المعروف باسم “سبايك لي” في أتلانتا بولاية جورجيا، ويقول عن ميلاده في مذكراته التي كتبها “أفتاب كاليم”: أظن أنني ولدت في العام المناسب، العام 1957، ونشأت في الستينيات المضطربة في أمريكا، وقد حدثت لي أشياء كثيرة في حياتي، دفعني بعضها في اتجاه آخر، حيث ينبغي أن أذهب، لعب القدر دورا كبيرا في مسيرتي المهنية، لكن يجب الاعتراف أيضا بالحظ والتوقيت المناسب والعمل الشاق في خط مسيرتي.

يعترف “سبايك لي” أنه لا يزال يحتفظ بإحدى رسائل أمه إلى جدته التي اشتكته حين كان مراهقا قائلة “أتمنى أن يتعلق سبايك بشيء ما، إنه غير ناضج بتاتا”، فكانت تلك الرسالة بمثابة تعويذته التي دفعته إلى البحث عن شيء ما يتعلق به، وقادته إلى مسلكين متشابكين، السينما والدفاع عن حقوق السود في الولايات المتحدة. كانت فتحة الكاميرا لسان دفاعه عن هويته “الأفروأمريكية”، أما قصص أفلامه فكانت بمثابة قائمة اتهام لهوليود التي أقرت أن السود لا يصلحون إلا لأدوار نمطية أغلبها عنصرية.

سبايك لي كان مولعا بالتصوير والمونتاج منذ صغره

وفي سن مبكرة حصل على كنية “سبايك” عن طريق والدته التي تركت وظيفتها في التدريس لتربية أطفالها الخمسة، ويعترف بأنه لم يعش طفولة غاضبة، ولم يكن حاقدا، بل العكس، فقد عاش طفولة سعيدة، ويقول: كنت الطفل البكر، عشت سعيدا ومدللا، لكن والدتي وضعت كثيرا من المسؤولية على عاتقي.

ويرى الكاتب “أفتاب كاليم” كاتب مذكرات “سبايك لي” أن مسؤولية الطفل البكر الحامي لعائلته هي الفكرة التي زرعتها والدته في سلوكه منذ أن كان طفلا، وستكون هذه الفكرة حاسمة في تشكيل شخصيته، لتتوسع تلك المسؤولية من العائلة، وتشمل الأمريكيين الأفارقة بصفة عامة.

“مالكوم إكس”.. رياضي فاشل يصنع أعظم أفلام السود

رغم محاولة العائلة دفع “سبايك” للفن من جهة، وللدفاع عن الحقوق العرقية من جهة أخرى، لم تكن المسيرات المناهضة للحرب في فيتنام أو حركات الدفاع عن الحقوق المدنية تبدو في لائحة اهتمامه خلال صغره، حسب الكاتب “أفتاب كاليم”، فقد كان في أولوية اهتماماته الرياضة، إذ يقول: كانت الرياضة هي الشيء الوحيد الذي أمارسه، ذلك كل ما كنت أهتم به، كنت أحلم بأن أصبح لاعب كرة سلة.

درس “سبايك لي” في مدرسة عمومية، وواصل شغفه بالرياضة، ويقول أحد أصدقائه: حتى في المستوى التاسع في مدرسة “جون ديوي” كان كل شيء بالنسبة له متعلقا برياضة البيسبول وكرة السلة خاصة، والشيء المضحك أن “سبايك” لم يكن أفضل رياضي، لكنه كان دائما القائد.

وشيئا فشيئا أدرك “سبايك” أن حظوظه بأن يصبح رياضيا محترفا أصبحت منعدمة.

لم يحب “سبايك لي” المدرسة، لذلك لم يكن طالبا لامعا، فقد كان يكره الرياضيات والعلوم، لكن في المقابل شغف بالأدب، فكان أفضل المواد بالنسبة إليه، ويعترف قائلا: بالنسبة لي، من أكثر الأشياء التي أثرت فيّ بصف الإنجليزية التي درستها هي سيرة “مالكوم إكس”. ومن هنا لا نستغرب حين أخرج “سبايك لي” واحدا من أهم أفلام السينما الأمريكية، وهو فيلم “مالكوم إكس” (Malcolm X) سنة 1992.

“مورهاوس”.. كلية السود التي تصنع أقدار العظماء

في منتصف السبعينيات بدأ “سبايك” الدراسة في مدرسة “مورهاوس” التي تختص بتدريس تاريخ وثقافة السود، وقد تأسست بعد عامين من الحرب الأهلية، من أجل تحضير السود لمناصب إدارية أو ليكونوا أساتذة، وهي إحدى المدارس التي ارتادها الزعيم “مارتن لوثر كينغ”.

يقول المخرج الأمريكي “مونتي روس” الذي سيكون له دور رئيسي في تطور مسيرة “سبايك” السينمائية: قابلت “سبايك” أول مرة عن طريق صديق مشترك، وتحدث إلي عن مسرحية كان لي دور فيها، وهي بعنوان “البذور السيئة”، ما أذكره أكثر عنه هو أنه كان رجلا أفريقيا في الدم، وكان يهتم بكل كلمة يسمعها، وكان يسأل دائما أسئلة كثيرة.

تشارك “مونتي روس” و”سبايك” المواقف السياسية ذاتها، مثلما تقاسما شغفهما بالأفلام، وكانا يتقاسمان أيضا انزعاجهما من طريقة تصوير الأفلام الأمريكية آنذاك للصورة النمطية للأمريكيين السود.

رسمت كلية “مورهاوس” أقدار “سبايك لي”، لكنه يعترف أن جدّته هي أشد الأيادي التي دفعته بقوة ليصل إلى ما هو عليه، فقد لعبت دورا مهما في تطور مهنته. يقول “سبايك”: كانت جدتي من جهة أمي هي التي جلبتني إلى كلية “مورهاوس” ثم إلى كلية السينما، إضافة إلى ذلك قدمت لي دعما ماليا إضافيا لأفلامي في الكلية، وخاصة فيلم “ينبغي أن تحصل عليه” (She’s Gotta Have It). لم تكن ثرية أبدا، لكنها ادخرت كل سندات تأمينها الاجتماعي وقدمتها لي أنا، حفيدها المقاوم.

بروكلين.. هجرة للبحث عن الأمان في مجتمع عنصري

سرعان ما انتقلت عائلة “سبايك لي” إلى نيويورك، وهي إحدى معاقل موسيقى الجاز الصاخبة، وكان ذلك المحيط مناسبا جدا لوالده عازف القيثارة الذي سيعزف فيما بعد مع المغني الشهير “بوب ديلان” و”مايلز ديفيس”.

يقول “سبايك” في مذكراته: “في العام 1962 عندما انتقلنا من أتلانتا إلى حي أمريكي إيطالي، كنا أول عائلة سوداء تسكن هناك”، وكان السود في ذلك الوقت ما زالوا يعيشون التمييز العنصري في المجتمع وأمام القانون وفي مقاعد الدراسة.

كان “سبايك لي” الطفل شاهدا على تحول سكان بروكلين من الأغلبية البيضاء إلى الأغلبية السوداء، حين انتقلت عائلة “سبايك لي” من أتلانتا إلى نيويورك، بدا أن العائلة كانت تبحث عن ملاذ آمن لأطفالها.

يقول الكاتب “أفتاب كاليم”: قد يتخيل المرء أن نيويورك كانت ملاذا آمنا لعائلة “لي”، لأنها كانت بعيدة عن معارك حركات الحقوق المدنية التي كانت تُشن في ولاية جورجيا وعبر جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، وعن قصص قتل السود بعد مقتل أربع فتيات صغيرات في برمنغهام بألاباما في عام 1963، وعن قوانين “جيم كرو”، وعن الشرطة التي تعتدي على الأمريكيين الأفارقة، لأن جريمتهم الوحيدة هي كونهم سودا، لكن في الحقيقة، لم يبتعد الشمال عن هذه المعارك التي عاشتها برمنغهام نفسها، كانت العنصرية شرسة مغطاة بغلاف وهمي.

“لأنني كنت طفلا أسود”.. صدمة تصنع الوعي بالعنصرية

لم يكن “سبايك لي” الطفل واعيا بذلك الاختلاف في نيويورك، فكان يراها مدينة كل الأمريكيين، وأنها مدينة اليهود والسود والبيض التي تحتضن كل الأعراق، لكن عائلته كانت تحرص على إيقاظه من وهمه.

من معلقات أفلام المخرج سبايك لي

يقول “سبايك” إنه حين يجلس على طاولة العشاء في منزل عائلته، كان ذلك يعني موعدا مقدسا للتوعية بالاختلاف وبوضع الأمريكيين السود الذين يعانون من العنصرية. ويستحضر أول رجة له أيقظته من حلمه، وزرعت أول بذرة لوعيه بالعنصرية حين كان طفلا، إذ يقول: أردت الالتحاق بكشافة “كوبل هيل”، فقيل لي حينها إنه لا يمكنني ذلك لأنني لست كاثوليكيا، لكن في الحقيقة رفضوا انضمامي لأنني كنت طفلا أسود.

كان من تقاليد عائلة “لي” أن ترسل أبناءها إلى الجنوب في العطل المدرسية حتى لا تغيب عنهم قصص جذورهم التي ترويها لهم جداتهم في مسقط الرأس، وكان قضاء الوقت في شوارع مدن الجنوب مختلفا عن نيويورك، فقد حوصر “سبايك لي” بتحذيرات جدته بأن الأمر مختلف، وأن السير في شوارع بروكلين ليس كالسير في شوارع أتلانتا بالنسبة للسود.

تربى “سبايك” في محيط فني، فكان أبوه يعزف في المنزل، أما أمه فقد حرصت على أخذه لدور السينما والمسارح، ويقول أخوه “ديفيد لي” في مذكراته: كان “سبايك” مخلصا للعائلة في درجة أولى، وللأمريكيين السود بدرجة ثانية. كان لنا موعد دائم مع الإبداع في العائلة بين الأجيال، بدءا بأبي وأجدادي الذين كانوا معلمين وموسيقيين.

كاميرا “سوبر 8”.. هدية في عيد الميلاد تمهد لمسيرة السينما

يقول “سبايك لي”: قبل أن تنتهي عطلة الصيف سنة 1977، قدم لي شخص ما هدية الميلاد، وقد كانت كاميرا “سوبر 8″، لذلك قررت بدء مسيرة التصوير.

في ذات الصيف، كان “سبايك لي” يجول الشوارع في هارلم في نيويورك مسلحا بالكاميرا، صوّر المارة والراقصين على الأرصفة، وبدأ حماسه ينمو للسينما ولقضيته، حتى أنه تمكن من إقناع والده “كريس لي” بالتمثيل ليتقمص دور سارق أحذية.

سبايك لي يحمل كاميرا “سوبر 8” التي مهدت له الطريق للدخول إلى عالم السينما

في العام ذاته تفوق “سبايك” في صف الاتصال الذي يضم دراسة السينما والصحافة في كلية “كلارك” بأتلانتا، وكان أستاذه “هارب إيشيلبرغ” أكبر داعميه في الطريق الذي قرر أن يسلكه. يقول عنه: كان “سبايك” خجولا، أرى أن السينما قدمت له طريقا ليعبر عن نفسه. لم يكن أفضل من يحمل الكاميرا، لكنه أحب عملية المونتاج، وكنت أبعده عن طاولة التركيب، وقلت له إن المونتير الجيد ينبغي أن يكون مخرجا جيدا.

ومن هناك بدأ “سبايك” مستقبله في السينما المحترفة.

“ماذا تفعلون هنا؟”.. أسودان في جامعة لا تُرحب بالسود

في العام 1978 نال “سبايك لي” منحة صيفية في أستوديوهات “كولومبيا بيكتشرز” في هوليود، ثم انتقل إلى جامعة نيويورك لدراسة السينما، كان الأمر مختلفا عن التجول في أروقة “مورهاوس”، ويتذكر أنه في جامعة نيويورك للسينما لم يعترضه سوى وجه أسود واحد في ممرات الكلية، وهو الطالب “إرنست ديكرسون”.

يقول “سبايك”: لم يكن مرحبا بي في الكلية أنا و”إرنست” ترحيبا حارا، لا إدارة الجامعة ولا الطلاب، يعلم كثيرون أن هناك نسبة مخصصة لقبول السود في تلك الجامعة، لتحصل الكلية على تمويلها الفيدرالي، وحتى نتمكن من النجاح كان علينا أن نبذل مجهودا مضاعفا بعشرات المرات أكثر من الطلاب البيض. هذا ليس عادلا، لكن هكذا كانت تسير الأمور. أعلم أن الطلاب كانوا ينظرون إلي وإلى “أرنستو” قائلين في أنفسهم، ماذا تفعلون هنا؟ لكن كنا نعلم أننا ننتمي لذلك العالم، السينما، ولا تنقصنا سوى التجهيزات.

ويروي في مذكراته أنه حين ارتاد جامعة نيويورك تذكر نصائح أستاذه “إيشلبيرغ” الذي درسه في “مورهاوس”، لذلك قرر استعمال السينما من أجل الاحتجاج على العنصرية التي لمسها في كل ما يحيط به بجامعته الجديدة، ووصل حنقه على العنصرية إلى مداه بعد حادثة التصفيق في الجامعة إثر عرض فيلم “ولادة أمة” (The Birth of a Nation)، وهو فيلم أمريكي يمجد بكل صراحة التمييز العنصري ضد السود.

وحول فيلم “ولادة أمة” يقول “سبايك”: من الجيد تدريس تقنيات السينما التي استعملها المخرج “غريفيث” في فيلم “ولادة أمة”، لكن دعنا لا ننسى أن الفيلم اتُّخذ وسيلة استقطاب لأنصار “كو كلاكس كلان”، وأنه كان مسؤولا مباشرا لشنق وإخصاء مئات السود.

“متى ستنجز فيلما قصيرا يعجبني؟”.. إرضاء الجدة

بدأ “سبايك لي” بتطبيق نصيحة أستاذه سريعا حين قرر الرد على فيلم “غريفيث” بفيلم بعنوان “الجواب” (The Answer) عام 1980، وهو فيلم يمتد على ثلاثين دقيقة، وقد هاجم فيه عنصرية “غريفيث” في فيلمه “ولادة أمة”، وعنصرية جامعة نيويورك التي احتفت به. كان فيلمه قد حدد مصيره، إما مواصلة دراسته في الجامعة أو طرده منها، وكما توقع فقد رُفض الفيلم.

وفي عامه الثاني في الجامعة، أخرج فيلمه “سارة” (Sarah) في العام 1982، ويقول: شاهدت جدتي فيلم “الجواب” وقالت: متى ستنجز فيلما قصيرا يعجبني؟ استجبت لها لأنني أعلم أن جدتي كانت السبب في دراستي في “مورهاوس” وكلية نيويورك، وأخرجتُ فيلم “سارة”، وكان آخر فيلم أصنعه من أجل شخص ما، لأنني لا أحصل على نتيجة جيدة حين أصنع فيلما لغيري، حتى وإن كانت جدتي.

إحياء التاريخ.. ثقافة مغيبة عن الأجيال اليافعة

تقول الباحثة الأمريكية “لاسانا هوتيب” في بحث بعنوان (لا أخوة على الحائط، أيقونات الرجال السود في فيلم “افعل الصواب” لـ”سبايك لي”): كان تصوير هوليود للرجال الأمريكيين من أصل أفريقي مليئا بالصور النمطية السلبية، قبل ظهور “شيلتون جاكسون لي” المعروف باسم “سبايك لي”، كواحد من أكثر صانعي الأفلام إبداعا واستفزازا في عصرنا.

استخدم “سبايك لي” أفلامه للقيام بتصحيح تاريخ صورة الرجال السود، وذلك من خلال الإشارة إلى أيقونات الرجال الأمريكيين من أصل أفريقي في أعماله السردية، وتضيف الباحثة “لاسانا هوتيب” إن “سبايك لي” قدّم شخصياته وأفلامه ردا على عدم الدقة التاريخية حول السود، فقد كان “يرى أن جيلا من الشباب لا يحصلون على معلومات دقيقة عن الماضي، وذلك يؤثر على اهتمامهم بتاريخ السود”.

سبايك لي في كواليس تصوير فيلم “افعل الصواب” (Do the right thing)

يقول “سبايك لي”: لا أرى أنه يمكن أن تتعلم الكثير من التاريخ. اليوم يبدو أن الشباب على وجه الخصوص لا يتعلمون ما يكفي منه، ولا يهتمون بالأشياء التي حدثت قبل ولادتهم.

صوّر “سبايك لي” شخصيات أفلامه غالبا بشيء من ملامح أبطال من الأمريكيين السود، مثل “مارتن لوثر كينغ” و”مالكوم إكس”، وتقول الباحثة “لاسانا هوتيب”: بصفته كاتبا ومخرجا ومنتجا للأفلام، فقد أعطى “سبايك” غالبا أسماء شخصيات خيالية لشخصيات تاريخية، وممثلين يلبسون قمصان الرياضيين السود في حقبة ماضية، وله شخصيات مقتبسة، أو تشير إلى شخصيات تاريخية من أيقونات السود، وملأ أيضا الشاشة من صور رجال أمريكيين مشهورين من أصل أفريقي.

“افعل الأمر الصواب”.. أفلام تتحدى صورة هوليود النمطية

تقول أيضا الباحثة “لاسانا هوتيب”: نشر “سبايك” إستراتيجيته للتاريخ التصحيحي خلال ثمانينيات القرن الماضي، لإعادة تقديم الأبطال إلى الشباب السود، في محاولة لتصحيح الصورة الإعلامية للرجل الأسود كمجرم وجانح.

وقد تحدى السرد السائد في أفلام هوليود تجاه السود، خاصة في فيلم “صرخة حرية” (Cry Freedom) للمخرج “ريتشارد أتنبورو” (1987)، و”احتراق المسيسيبي” (Mississippi burning) للمخرج “ألان باركر”.

بذل “سبايك” جهدا كبيرا لتغيير الصورة النمطية للسود بشكل جذري في فيلم “افعل الأمر الصواب” (Do the Right Thing) رغم الانتقادات، وقد أعاد تقديم شخصيات مثل “مارتن لوثر كينغ” و”مالكوم إكس” و”جاكي روبنسون”. وتقول الباحثة “هوتيب” إنه قبل صعود نجم “سبايك لي” كانت هوليود تصور الأمريكيين السود في خمس صور نمطية، وهي العبد والمهرج والمتهم والمحقق والمجرم.

يعترف “سبايك لي” في كتاب “سبايك لي، هذه قصتي وأنا متمسك بها” للكاتب “أفتاب كاليم” بمصادر إلهامه ويقول: يرى كثيرون أحيانا أن مصدر إلهامي هم صانعو الأفلام فحسب، لكن ملهميّ هم رياضيون وموسيقيون وأشخاص كثيرون مثل “مالكوم إكس” ود. “مارتن لوثر كينغ” و”ويلي ميس” ومحمد علي كلاي و”والت فرايزر” و”جون كولتران” و”مايلز ديفيس” و”جو لويس” و”جاكي روبنسون”.

ويصفهم بأنهم: رجال أمريكيون من أصل أفريقي أقوياء جدا وحالمون، في وقت يمكن أن تتعرض بسهولة للهجوم، بسبب موقفك.

شخصيات لم تعرضها السينما من قبل.. رؤية فريدة لمخرج ثوري

لمع نجم “سبايك لي” في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1986 في فيلم أخرجه بعنوان “ينبغي أن تحصل عليه” (She’s Gotta Have It)، وقدّم شخصيات أمريكية من أصول أفريقية معقدة لم تعرضها هوليود من قبل، وأصبح مخرجا وصانع أفلام جريئة ووفية لتاريخ السود غير المروي في هوليود، وأسس شركة مستقلة باسم “40 فدانا وبغلا”، وهو اسم مستمد من وعد لم تلتزم به الحكومة الأمريكية تجاه السود آنذاك، خلال عهد إعادة الإعمار في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر.

لقد استخدم “سبايك لي” رؤية فريدة من نوعها في صناعة أفلامه، حتى أصبح مخرجا ثوريا في هوليود. وفي العام 1989 لقي فيلمه “افعل الأمر الصواب” نجاحا كبيرا، وكان يعج بشخصيات متنوعة من الأمريكيين السود، ويقول الناقد السينمائي “جين سيسكل” في هذا الصدد: لقد قدم لنا “سبايك لي” صورا حقيقية ومتنوعة للسود أكثر من 20 عاما من الأفلام الأمريكية مجتمعة.

يقول “سبايك لي” في كتاب “لماذا نصنع أفلاما؟ المخرجون السود يتحدثون عن السينما الساحرة” للكاتب “جورج ألكسندر”: كل ما أردت فعله هو صنع أفلام لإظهار جوانب مختلفة من تجربة الأفارقة الأمريكيين، كنت أعرف ما أريد أن أراه على الشاشة وهي تجربة لم أشاهدها، وعرفت أن هناك أشخاصا آخرين مثلي يريدون نفس الشيء.

في العام 1990 أخرج “سبايك لي” فيلم “أفضل بلوز لي” (Mo’ Better Blues) وحاز الفيلم عند عرضه في مهرجان كان سنة 1991 على نجاح باهر، وكان له الفضل في تقديم الممثل “صامويل جاكسون” أحد أبطال الفيلم، وقد أصبح فيما بعد أحد أشهر ممثلي هوليود.

“مالكوم إكس”.. فيلم يرشح للأوسكار ويصنع التاريخ

في العام 1992 أخرج “سبايك لي” فيلمه “مالكوم إكس” (Malcolm X) الذي تناول سيرة ذلك الزعيم الأمريكي، وتقمص دوره الممثل “دانزيل واشنطن”، غير أن الفيلم لم يلق الاستحسان بسبب مناهضته لما يعرف بـ”البيض الأنجلوساكسون البروتستانت”، ورغم ذلك فقد رُشح عام 1993 لجائزة الأوسكار عن فئتي أفضل ممثل وأفضل تصميم أزياء، كما رشح لجائزة “الغولدن غلوب” عن فئة أفضل ممثل، وفاز بطله “دانزيل واشنطن” بجائزة أفضل ممثل في مهرجان برلين السينمائي، كما شارك “واشنطن” في بطولة فيلم “رجل من الداخل” (Inside Man) الذي أخرجه “سبايك لي” في العام 2006.

سبايك لي مع الممثل الكبير “دانزيل واشنطون” في كواليس تصوير فيلم “رجل من الداخل”

بعد مئة عام كاملة استطاع “سبايك” أن يكتب معادلة سينمائية متوازنة للسود وتاريخهم عبر الكاميرا، وواصل تاريخ العنصرية التي عاشها السود في الولايات المتحدة إلهام “لي”، وكان فيلم “أَسْود كو كلاكس كلان” (Blackkklansman) الذي أخرجه في العام 2018 بمثابة رد على فيلم “ولادة أمة” العنصري، فلطالما حلم بدحضه منذ دراسته في الجامعة، وقد فاز الفيلم بجائزة السعفة الذهبية لمهرجان “كان” في العام ذاته، وتلقى إشادة كبيرة من النقاد.

طيلة أكثر من ثلاثين عاما، لم تساعد أفلام “سبايك لي” الرائدة في تغيير وجه السينما الأمريكية في أواخر القرن العشرين فحسب، بل قدمت أيضا رؤى فريدة حول التعقيدات الاجتماعية للأمة الأمريكية السوداء والبيضاء، وأصبح “سبايك لي” أيقونة لا تقل قيمة عن “مارتن لوثر كينغ” و”مالكوم إكس” وغيرهم من أيقونات الأمريكيين الأفارقة.