“تفكيك الشفرة”.. امرأة تُسقط بالورقة والقلم أعتى العصابات وخلايا النازية

بالورقة والقلم حاربت مُفَككة ومحللة الشِفرات السرية “إليزابيث فريدمان” (1892-1980) أخطر عصابات المافيا الأمريكية خلال عشرينيات القرن المنصرم، كما ساهمت بدور كبير في كشف وتحليل البرقيات المُشَفرة خلال الحربين العالميتين، وكان لها الفضل الكبير في انتصار الحلفاء فيهما.

ولأن عملها كانت تحيطه السرية العالية، ويُلزم المنخرطين فيه بعدم الكشف عن نشاطهم، فقد ظلت تعمل في الظل، ومن دون أن يعرف العالم أهميتها كواحدة من أعظم مُفَككات الشِفرات السرية في التاريخ المعاصر.

الوثائقي الأمريكي “تفكيك الشِفرة” (Cracking the Code) يعرض جانبا من حياتها ودورها في القضاء على أخطر عصابات المافيا الأمريكية التي زاد نشاطها الإجرامي بداية عشرينيات القرن المنصرم، وبشكل خاص بعد إصدار الولايات المتحدة الأمريكية قرارا منعت بموجبه إنتاج المشروبات الكحولية والمُتاجرة بها، لكنه لم يحصر تناولها على الأمريكيين، الأمر الذي استغلته المافيات، وراحت توسع نشاطها في إنتاجه سرا، وبيعه على نطاق واسع بشكل غير قانوني.

منع الكحول.. قرار ينتج أخطر عصابات المافيا

بعد قرار السلطات الأمريكية منع إنتاج الكحول والمتاجرة بها، واجهت ظاهرة تفشي العنف المنفلت في شوارعها، وازدياد صراعات المافيات فيما بينها، وكانت في الغالب تأخذ طابعا دمويا، وعجزت السلطات عن وضع حد لها، لأن العصابات كانت تستخدم أساليب ملتوية، وتلجأ إلى السرية التامة للتمويه على نشاطاتها.

وكان من بين تلك الأساليب استخدامها البرقيات المُشفَرة كوسيلة للتواصل بين زعمائها والمتعاونين معهم من مهربين وزبائن يقبلون على شراء بضاعتهم الممنوعة، إلى جانب ذلك كان قادتها ينتحلون أسماء سرية غير أسمائهم الحقيقية.

كانت عصابة “آل كابوني” من بين أخطر عصابات المافيا، وقد أدارت شبكة إجرامية واسعة ومعقدة التنظيم، تمكنت خلالها من توسيع دائرة المُتاجرة غير المشروعة بالمشروبات الكحولية، وكانت تُدرّ عليهم ملايين الدولارات سنويا، أي ما يعادل المليارات في وقتنا الحالي.

خلال فترة المنع زادت جرائم القتل والصراعات الدموية بين العصابات المتنافسة، وبشكل خاص في المدن الأمريكية الكبرى، وللسيطرة على الوضع كان على الشرطة فك شفرات برقياتهم السرية، وأيضا رصد نشاطهم الذي اتخذوا البحر ساحة له، يصعب على الشرطة السيطرة عليه.

لضمان عدم كشف نشاطهم كان المهربون ينقلون الشحنات الكبيرة من السفن العائمة خارج المياه الإقليمية الأمريكية إلى قوارب صغيرة، تتولى مهمة توصيلها إلى اليابسة بعيدا عن أنظار شرطة خفر السواحل، ومن أوروبا اتخذوا مصدرا لهم يؤمنون من خلاله كميات كبيرة من المشروبات الكحولية التي كانوا يبيعونها بأسعار مضاعفة على مطاعم وحانات المدن الأمريكية سرا، وإلى جانب ذلك النشاط أسسوا مصانع للإنتاج المحلي.

“إليزابيث فريدمان”.. بداية المرأة التي دخلت عالم فك الشفرات

يؤكد الخبراء المشاركون في الوثائقي حقيقة أن مهارة استخدام عصابات المافيا للبرقيات المُشفرة الشديدة التعقيد، كانت تفوق قدرة الشرطة على تفكيكها وكشف رموزها، وأن استخدامهم “نظام مورس” لإرسال برقياتهم السرية عبر التلغراف كان يعقد مهمة ملاحقتهم وتتبع نشاطهم الإجرامي.

صراعات دمومية للمافيات الأمريكية في شوارعها

خلال بحث السلطات عن وسيلة ناجعة لكشف رموز مراسلاتهم، برز أمامهم اسم “إليزابيث فريدمان”، المرأة التي دخلت عالم تفكيك الشفرات من خلال رجل ثري يدعى “جورج فابيان” كان على قناعة من أن مؤلفات “شكسبير” قد كتبها شخص آخر غيره، وأن فيها رموزا وشفرات سرية.

من أجل التوصل إليها دعا مجموعة من الأشخاص للعمل على تفكيكها داخل معهد “ريفربنك” للبحوث والدراسات الذي أسسه بنفسه، ولكونها خريجة أدب إنجليزي، فقد كانت فرصتها جيدة للعمل ضمن المشروع. تعترف “إليزابيث” في مقابلة صحفية أجريت معها عام 1947 أنها قبل تخرجها من الجامعة لم تكن لديها أي فكرة عن عالم الشفرات وتفكيكها، ولا تعرف شيئا عن عِلم التشفير “كريبتوغرافي”.

تفكيك الشفرات.. جنود الخفاء في الحرب العالمية الأولى

في تلك الفترة تعرفت “إليزابيث فريدمان” على أحد الباحثين العاملين في المعهد يدعى “وليام فريدمان”، وخلال الأشهر الأولى من عام 1917 أعلنا زواجهما رسميا، ولم تمض إلا أسابيع قليلة حتى أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية دخولها الحرب العالمية الأولى.

برزت خلال الحرب الحاجة لمحللي ومُفككي شفرات يعملون على كشف شفرات الرسائل الألمانية السرية، وقد استطاعت “إليزابيث” مع زوجها وبقية المجموعة المنضمة إليهما إنجاز عمل مذهل فككوا خلاله مئات البرقيات المشفرة، وبسرعة قياسية ساهمت في كسب الحلفاء الحرب.

بعد انتهائها تفرغت كليا لتربية طفليها، بينما ظل زوجها يعمل في الجيش، وخلال وجودها ربة بيت تقيم في هنتنغتون، كانت هناك حرب أخرى تجري قرب الساحل الغربي الأمريكي، بين رجال العصابات وشرطة خفر السواحل، وقد عرضت عليها الشرطة العمل في صفوفها، وأوكلت لها مهمة كشف الرؤوس الكبيرة للمافيا، وتقديمها في ذات الوقت الأدلة الكافية لإدانتهم.

اشترطت “إليزابيث” للقبول بالوظيفة أن تعمل من المنزل حتى تبقى مع أطفالها، وكان هذا النوع من الأعمال غير مألوف في ذلك الوقت، ومع ذلك فقد وافقت الشرطة على طلبها، وخلال تلك الفترة طورت المافيا مراسلاتها السرية عبر استخدام الراديو والبث على موجات قصيرة برامج ترفيهية تنقل من خلالها رسائل مشفرة للمهربين، توضح لهم الطرق والخطط التي عليهم اتباعها، من أجل تأمين تهريب بضاعتهم بعيدا عن أنظار الشرطة.

بالورقة والقلم.. تحديد هوية أكثر زعماء المافيا نشاطا

يكمن أكثر الصعوبات بمجال تفكيك الشفرات في معرفة هوية المرسل والمرسل إليه، وبالتالي يصعب إلقاء القبض عليهم وتقديمهم للمحاكم. ويوضح الوثائقي الأساليب الذكية التي مكّنت “إليزابيث فريدمان” من التوصل إلى أكثر الرموز تعقيدا، ومثابرتها في نفس الوقت على كشف هويات الأشخاص الذي يختفون تحت أسماء وهمية وأعمال تجارية تبعد عنهم شبه النشاط غير القانوني.

وقد توصلت بالورقة والقلم إلى معلومات ساعدت الشرطة كثيرا على تحديد هوية أكثر زعماء المافيا نشاطا، وفي مقدمتهم عصابة “آل كابوني” الذين لم يتورعوا عن تصفية خصومهم بأبشع الطرق في وضح النهار. وتعترف “إليزابيث” في مقابلة صحفية يثبت الوثائقي مقاطع منها أن الجهد المبذول لفك الشفرات أخذ منها وقتا وجهدا كبيرين، بسبب تعقيدها وتجاوزها لكل الطرق التقليدية المتبعة في كتابة الرسائل والبرقيات السرية.

يتوقف الوثائقي عند واحد من تحليلاتها المهمة، كشفت من خلالها الدور الذي تلعبه إحدى الشركات الكندية الكبيرة في توصيل المشروبات الكحولية المحظورة لأحد زعماء عصابة “آل كابوني” واسمه “دان هوغان”، عبر سفنها التي كانت ترسوا عادة خارج المياه الإقليمية الأمريكية، ثم تفرع البضائع المهربة منها إلى قوارب صغيرة تدخل المياه الأمريكية سرا.

إيقاف سفينة كندية في عرض البحر.. أزمة دبلوماسية

في إحدى المرات اتجهت إحدى سفن الشركة نحو السواحل الأمريكية مباشرة، وبعد نقل المعلومات التي حصلت عليها “فريدمان” قررت شرطة خفر السواحل مهاجمتها في عرض البحر.

وبعد القبض على قبطانها وتفتيشها خارج المياه الإقليمية الأمريكية أثيرت أزمة دبلوماسية بين أمريكا وكندا، ولمنع توسيعها كان على الشرطة تقديم أدلة تدين شركة “كونيكسوس” الناقلة، من خلال كشف مراسلاتها السرية معه، وتتضمن معلومات عن عمليات تهريب بضائع قيمتها ملايين الدولارات، تتولى توصيلها إليه، ليقوم هو بتهريبها عبر الساحل الغربي إلى داخل الأراضي الأمريكية.

الجهد الكبير الذي بذلته “إليزابيث” لجمع الأدلة الكافية لإقناع الطرف الكندي بصحة الخطوة الأمريكية، دلّل على قدرتها الفذة كمُفككة شفرات موهوبة وصبورة، فقد استطاعت كشف الهويات الحقيقية لكثير من زعماء المافيا الخطيرين المتورطين بجرائم خطيرة.

سبورة المحكمة.. تفكيك الرسائل السرية بين زعماء المافيا

تقود عملية القبض على “هوغان” وكشف الدور الذي لعبته الشركة الكندية إلى سلسلة من عمليات دهم واعتقال 23 زعيما لعصابات خطيرة، ولإدانتهم كان عليها تقديم شهادتها أمام المحكمة، مما يعني تعريض حياتها للخطر، ولم تتردد وقبلت بتقديم شروحات وافية عن الطرق التي فككت بها شفراتهم السرية.

خلال المحكمة التي تُعد من أكبر المحاكم في التاريخ القضائي الأمريكي، طلبت من المحكمة إحضار سبورة وطبشور، وبدأت تكتب بهدوء فوق اللوح حروفا غريبة الشكل وأرقاما، ولم يفهم أكثر الحاضرين علاقتها بالقضية التي شغلت بال الرأي العام الأمريكي وقتها. فقد شرحت لهم ما يرمز إليه كل حرف ورقم، وعندما ربطتها سوية مع بعضها ظهرت أمامهم جُمل، هي كناية عن رسائل متبادلة بين زعماء المافيا وزبائنهم، يشرحون لهم بها طرق تهريبهم للبضائع وأساليب إدخالها وبيعها سرا.

وقد أقنعت شهادتها هيئة المحلفين، ووفرت للقضاة الأدلة الكافية لتجريم المتهمين. إذن هل انتهى النشاط الإجرامي بعد المحكمة؟ يجيب أحد المحللين بالنفي، لكنه يعتبرها واحدة من أهم الخطوات القانونية التي حجمت نشاط المافيا، وأنقذت في ذات الوقت أرواح آلاف من المواطنين الأبرياء، كما أثبتت أن العصابات ليست فوق القانون، مهما بلغت خطورتها.

كشف التجسس.. عودة إلى الخدمة خلال الحرب العالمية الثانية

بعد مرور 8 سنوات على عملها مع شرطة خفر السواحل، احتاجت البلاد لخدماتها ثانية، بعد إعلان الولايات المتحدة الوقوف إلى جانب الحلفاء في حربها ضد النازية الألمانية، فاستدعيت للعمل كمُفككة شفرات في الجيش الأمريكي خلال السنوات (1940-1945)، وأوكلت إليها مهمة كشف النشاط التجسسي للعملاء الألمان المكلفين بكشف تحركات الجيش الأمريكي، وبشكل خاص أسطوله البحري الذي كان يرفد الحلفاء الأوربيين بالأسلحة والمعدات الضرورية عبر الأطلسي.

إحباط المخططات النازية في أمريكا الجنوبية

كانت مهمة الخلية الألمانية في أمريكا بقيادة الضابط “يوهانس بيكر” الذي انتحل اسم “سارغو”، هي توصيل المعلومات الدقيقة عن حركة السفن الأمريكية ومواقعها إلى مركز القيادة في برلين، حتى تتمكن غواصاتها بعد ذلك من مهاجمتها في عرض البحر.

أما “إليزابيث” والفريق الذي كان معها، فقد نجحوا في فك شفرات الخلية، وبالتالي أفشلوا عملية رصد السفن الأمريكية، وبفضلها أُلقي القبض على أفراد الخلية، وحكم عليهم سوية 300 سنة بالسجن.

هزيمة الألمان.. انتصار لم تقطف صانعته الثمار

لم ينتهِ عمل العملاء الألمان رغم هزيمتهم في الحرب، فحاولوا إيجاد موقع لهم في أمريكا الجنوبية، يمكنهم من خلاله مهاجمة قناة بنما، أو حتى توجيه ضربات إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وقد انحصرت مهمة “إليزابيث فريدمان” الجديدة في تفكيك شفرات الألمان المرسلة من الأرجنتين، وبفضل نجاحها في مهمتها فشل المخطط الألماني بالكامل.

والغريب أن القيادة العسكرية الأمريكية وأجهزة مخابراتها لم تثمن دورها الكبير والمهم، بل نسب كل الفضل في كشف مخططات العدو لمكتب التحقيق الفيدرالي “أف بي آي”. وبعد نهاية الحرب عادت إلى بيتها، ولم تدلِ بأي تصريح عن دورها حتى يوم وفاتها، التزاما منها بسرية عملها الذي يفرض عليها كتمان كل ما يتعلق بنشاطها.

وبحلول عام 1999 تغيّر الموقف الرسمي منها، فقررت القيادة العسكرية وضع صورتها على جدار الشرف الذي يضم صور أهم الشخصيات التي خدمت وطنها بإخلاص وتفان. ولأهمية ما قدمته لشرطة خفر السواحل قررت قيادتها تسمية إحدى السفن باسمها، الأمر الذي اعتبرته إحدى الخبيرات المشاركات في الوثائقي، تثمينا وتقديرا لكل النساء الشجاعات اللواتي فضلن خدمة بلدهن على أرواحهن.


إعلان