“صفقة مع الشيطان”.. صعود مبهر وسقوطان مؤلمان لملاكمة مشاغبة

قد لا يكون فيلم “صفقة مع الشيطان” (Untold: Deal with the Devil) الذي أخرجته “لورا براونسون” (2021) عملا وثائقيا بارعا، فهو لا يكاد يسلم من عدوى صناعة المحتوى المثير القابل للتسويق على منصات الإنترنت، التي أصابت الأفلام الوثائقية في هذا الزمن السينمائي.
ومع ذلك يحفّ بحياة شخصيتيه الرئيسيتين ما يخرج المتفرّج من تحفظه، ويدفعه للتفكير عميقا في حياة الإنسان المعاصر، وفيما طرأ على قيمه التي تمنح المعنى لحياته من تحوّل، فيعرض تدرّجَ الشابة “كريستي مارتن” في عالم المجد الرياضي حتى اعتلاء قمته.
لكن بلوغ القمّة يعمي ويصمّ أحيانا، ويحرّك في داخلنا ذلك الوحش النائم الذي يغدر بإنسانيتنا. وبالفعل يأخذنا السرد الفيلمي إلى نواح من حياة البطلة، بعضها يعشي لشدة إبهاره، وآخر قاتم حالك.
“لم تفعل منذ طفولتها غير الشجار”.. الفتاة المشاغبة
كانت بطلة الفيلم “كريستي” كأنما خلقت لتكون ملاكمة، فقد كانت منذ نشأتها شديدة النشاط والحركة، تدفعها نزعتها الفطرية إلى العنف لحل إشكالاتها مع أترابها بقبضة يدها، وتشد أمها شعرها محاكية ما كانت تفعل في صباها، وتروي أنها كادت تفقد صوابها بسبب هذه الفتاة المشاغبة، بينما يقول والدها متحدثا عنها: لم تفعل منذ طفولتها غير الشجار، لكن لم تكن تعتلي الحلبة في البداية.
مارست “كريستي” في مراحل الصبا لعبة البيسبول متأثرة بوالدها، ثم جربت لعبة كرة السلة، ورغم تفوقها في الرياضتين فقد كان قَدرٌ ما يجلبها إلى الملاكمة، فقد شاءت الصدفة أن تشارك -وقد شبّت- في إحدى مباريات اللعبة، وحالما سددت الضربة لمنافستها أخذت تبحث عنها ولا تجدها، وحين نظرت إلى الأرض وجدتها بين قدميها.
هكذا يصوّر الأب انتصار ابنته بطريقة كاريكاتورية تكشف فخره العميق، فقد كان نصيبها بعد المباراة الثالثة 300 دولار، وهو المبلغ الطعم الذي سيغيّر قدر الطفلة الفقيرة على قلّته، وسيفتح أمامها مسيرة احتراف باهرة بعد أن رتّبت لها وساطة أحد المعجبين بصلابتها لقاء مع “جيم مارتن” المدرّب المحترف.
“سأجعلك أفضل ملاكمة في العالم”.. اقتحام العالم الذكوري
كانت الملاكَمة في ذلك الحين رياضة رجالية، لذلك لم يكن قبول “كريستي” على الحلبة أمرا هيّنا حينما انضمت إلى قاعة “جيم مارتن”، فقد كان المتدربون يرفضون التحدث إليها أو إرشادها بالإجابة عن أبسط أسئلتها، بل إنّ العقلية الذكورية التي تحكم المدرّب جعلته يحاول أن يتخلّص من الموضوع برمته، فيطلب من أحدهم أن يضربها بعنف ليكسر ضلوعها، وليلقي بها خارج الحلبة بعدها، فما كان يريد لنفسه “نهاية بائسة كأن يتحوّل إلى مدرب ملاكمة نسائية”. لكن وجود أمها معها منع مكيدته، وأمام إلحاح بعض رفاقه قرّر أن يمنحها فرصة.
يذكر الشريك “جيمي مالوني” الذي اختاره لها “جيم مارتن” ليقاسمها التدريبات أنه رفض دخول الحلبة حالما تبيّن أن منازِلته امرأة. لكن “كريستي” لم تحتج إلى وقت كبير لتثبت له جدارتها، فبعد أول تدريب معها رسمت على وجهه كدمات كثيرة جعلت شفاهه تتورّم.
ولدى “كريستي” ميزات تجعلها تنجح في اقتحام هذا العالم الرجالي، فقد كانت على قدر كبير من التصميم وقوة الإرادة والقدرة على تحمّل الضربات المؤلمة، ولهذا كله اقتنع “جيم” بها لاحقا، ثم أخذ عهدا على نفسه بأن يجعل شغفها قضيته الشخصية. فقال لها بتأكيد ستُصدقه الأيام “سأجعلك أفضل ملاكمة في العالم”.
وبعد مقابلاتها الأولى التي أجرتها بعيدا عن الأضواء أخذ نجاحها الجماهيري يتأكد، وأخذت “كريستي ابنة عامل منجم الفحم، والقادمة من قرية معزولة تجلب الأنظار.
“ستلاكمين بـ5 آلاف دولار”.. خطوة أولى على سلم النجومية
لا ينكر المدرب “جيم مارتن” أن “كريستي” أضحت شغفه، وأن تميّزها الرياضي قارب بينهما اجتماعيا، وبحكم وجودهما في الفضاء ذاته كامل اليوم، ونظرا لما وصلته علاقتهما من تقارب فقد وجدا نفسيهما زوجا وزوجة، أما هي فتنظر إلى المسألة من زاوية مغايرة، فقد أعطاها “جيم” الفرصة لتحقق أحلامها، وكان عليها أن تستغلها إلى أبعد حدّ، لذلك تزوجته رغم أنه كان بعمر والدها أو أكبر.
وقد أوصلها هذا الزواج إلى “دون كينغ” مروّج مباريات الملاكمة الساحر، والمتحكم في مسيرة كبار نجومها من محمد علي كلاي إلى “مايك تايسون” الذي كان يتسيّد المشهد حينها. ويكشف لقاؤها به دور المنظومات المهيمنة في صناعة النجوم واستثمارهم ماديا. يسألها وقد لاحظ تلكؤا حول العقد “كم ربحت في آخر مباراة”؟ وحينما تجيبه بأن الأمر يتعلق بمئات من الدولارات يقدّم لها العرض الذي لا يُناقش “ستلاكمين بـ5 آلاف دولار للمباراة الواحدة”.
ثم وضعها على لائحة برامج “مايك تايسون” لتلاكم أمام 100 ألف متفرّج في مباراة دامية جمعتها بـ”ديردري”، وانتهت بفوزها بالنقاط، رغم النزيف الكبير إثر كسر أنفها، وحينها تخطف الأضواء من الجميع، فتصفها الصحافة بأنها كانت نجمة السهرة، وتصف بالمقابلة بأنها الأكثر شراسة.
ثم أوصلها هذا الزواج إلى أن تصبح واحدة من نجوم المجتمع الأمريكي، وأن تتسابق القنوات التلفزيونية على الفوز بحديث معها، وأن تستقطب مقابلاتها نخبته، وأن تجرّب حياة الثراء والرفاهية. لكنه أخذ في الآن نفسه صلتها بمدربها وزوجها إلى وضعية جديدة، فلم يكن نجاحها بلا ضريبة يدفعها “جيم”، فتسيّدها للمشهد دفع به آليا إلى الخلفية، وتحوّل من صفة المدرّب إلى صفة زوج “كريستي”.
ولأنها كانت تكسب مالا وفيرا، فقد تخلى “جيم” عن كبرياء المدربين، وبات يقدم نفسه باعتباره تابعا من توابعها.
“الثنائي المنسجم المذهل”.. درس قاس يعمّق الهوة الفاصلة
لم تطل مسيرة النجاح الباهر لـ”الثنائي المنسجم المذهل”، فقد ظهرت اختلافات عميقة بينهما تهدّد بتقويض كل ما أسساه معا، أما “كريستي” فكانت ترى أن وقوفها على الحلبة ليس لممارسة للرياضة أو حصدا للجوائز والأموال فحسب، فالأمر يتعلّق بتجربة وجودية بأتم معنى الكلمة، تشعر خلالها أنها تستجيب لنداء عميق بداخلها، وتعطي دلالة لحياتها، فالملاكمة بما تهذّب من نوازعها الداخلية العنيفة، تمثّل طريقها للنجاة من مصير قاتم كاقتحام عالم الإجرام مثلا.
لذلك فهي تريد أن تذهب في نجاحها إلى أبعد نقطة ممكنة، وباتت ترى الآن أن “جيم مارتن” مدرب مغمور لن يذهب بأحلامها إلى حيث تريد، فأخذت تبحث عن مدرّب جديد. أما “جيم” فيرى أن ما تفعله “كريستي” جحود ونكران، فهي تنسى ما فعله من أجلها، وتتغافل عن كونه يعدّ من بين أفضل خمسة مدربين في العالم.
في هذه الأثناء بُرمجت لها مباراة ضد “ليلى محمد علي”، وكان النّزال ظالما، فـ”كريستي” كانت محبطة لتشنج علاقتها بمدربها، أما “ليلى” ففضلا عن جسدها الضّخم، فكانت تتمتع بحافز قوي، فهي في حاجة لأن تثبت للعالم أنها لا تقف على الحلبة لأنها ابنة “محمد علي”، بل لأنها ملاكمة مجيدة، وانتصارها على “كريستي” سيكون خير برهان، خاصة أنها هي من جرّتها إلى عالم الملاكمة، بعد أن شاهدت حسن بلائها ضد “ديردري” في تلك المنازلة الشرسة.
ولمّا كانت “كريستي” تواجه لكماتها العنيفة التي تكاد تذهب بحياتها، لم يرم “جيم مارتن” المنديل، ولم يفعل شيئا لينقذها، وفهمت “كريستي” الرسالة وتعمّقت الهوة التي أضحت تفصلها عن زوجها، فقد تركها تواجه قدرها ليكسر إرادتها، وليشعرها بأنها لا تساوي شيئا في عالم الملاكمة بدونه.
عنف النهاية.. مصير الأساطير القديمة يقتحم عالم الملاكمة
بات “جيم مارتن” أسير اعتقاده بأن “كريستي” صنيعته، فهو من علّمها أبجديات الملاكمة، ونصّبها على بطولة العالم، ولا يعقل أن يأخذ غيره منه دجاجته بعد أن أصبحت تبيض ذهبا.
هذا التناقض بين التصوّر والواقع حوّله على نحو ما إلى أسطورة “بجماليون” الإغريقية، ذلك النحّات الذي يصنع تمثالا من العاج لامرأة جميلة يضحي أسيرا لحبها، وكان المنعرج يحدث في تاريخ الملاكمة النسائية، فقد نزلت “كريستي” عن عرشها، وأخلت السبيل لتحلّ “ليلى محمد علي” محلها.
وكانت تطمح على الأقل أن تحقق فوزها الخمسين بحثا عن تعويض رمزي، وفي الثواني الأخيرة من تلك المباراة كُسرت قبضتها. ولم يبق للبطلة المحبطة إلا أن تترك اللعبة، لكن “بجماليون” يتحوّل فجأة إلى “شمشون” الذي يدمر المعبد على رؤوس الجميع، بعد أن خدعته حبيبته “دليلة”، فقد كان يحفّز فيها نزعاتها المثلية القديمة التي أسرت له بها، ويلتقط لها صورا فاضحة، ويدفعها إلى استهلاك الكوكايين الذي يجلبه لها، ثم اتخذ كل ذلك سلاحا ليدمرها، ثم استدرجها إلى المنزل بعد أن حاولت هجره، فطعنها بسلاح أبيض أولا، ثم أصابها برصاص من مسدسها بعد أن انتزعه منها، ثم غادر وهو يظن أنه أجهز عليها.

تغيرت إذن حياة “كريستي” كليا، فبعد أن كانت انتصاراتها رهينة قدرتها على إسقاط منافساتها على الأرض ليعجزن على النهوض ومواصلة المباراة، باتت حياتها بأسرها رهينة قدرتها على رفع جسدها المضمّخ بالدماء من الأرض، وطلب الإسعاف في الطريق العام، وينتهي “جيم” سجينا محكوما بـ25 سنة سجنا بتهمة الشروع في القتل.
ملاحقة الفضائح.. انحرافات الفن النبيل في عالم مادي
تنعت الملاكمة بالفنّ النبيل، فتشبه ضمنا بمبارزة النبلاء التي يبحث فيها الخصم عن شرف المبارزة لا الانتصار المزيف، ولذلك تُقيّد بقوانين صارمة تكفل المنازلة المتكافئة. ويشترط فيها اعتماد السلاح نفسه والخضوع للظروف نفسها. ومن وجوه الشرف في اللعبتين مراهنة المرء بجسده، بحثا عن النّصر وتحقيقا لكسب معنوي. فيكشفان عن صلة ما بالملاحم الإغريقية التي يراهن فيها الفرد بحياته من أجل المجموعة. ولكن إلى أي حدّ حافظت الملاكمة على صفاء قيمها اليوم؟
مع الأسف ظل الفيلم يبحث عن مواطن الإثارة في حكاية شخصيتين شهيرتين وملاحقة الفضائح في سيرتيهما، محاولا تغذية عناصر الصدام بينهما لخلق المؤثرات الدرامية التي ينشدها الفيلم النمطي، حتى تكون الحكاية أكثر تشويقا وأكثر تسلية بالنتيجة.
وقد جعله هاجسه هذا يفرّط في العنصر الذي يرفع قيمته السينمائية، ففي سيرة “كريستي” قصتا نجاح مذهلتان، تتعلّق أولاهما بانتصارها على ظروفها، وتحديها لفقرها وتهميش أسلافها في بلدة إيتمان المعزولة من فيرجينيا الغربية، لتتحوّل إلى الملاكمة الأولى في العالم، فتفرض على “تايسون” مثلا الاعتراف بموهبتها، ويصبح من متابعي مبارياتها، وتتمثل القصة الثانية في تحديها للعقلية الذكورية، وإقحام المرأة لرياضة أراد الرجال احتكارها والاستئثار ببعدها الرمزي، لذلك كانت تواجه بعدائية تصور اعتلاءها لحلبة الملاكمة على أنه اعتداء على جلالة هذا الفنّ.
إن غفلة الزوجين وعدم مبالاتهما بكل هذا الثراء القيمي جعلهما يختزلان مسيرتها في التحصيل المادي، فيجسّدان نموذجا للإنسان المعاصر الذي اختزل كل قيمه في المادة، وفي الآن نفسه غفل المخرج عن كون هذا الانحراف في معنى الملاكمة وفقدان نبلها هو جزء من هذا الانحراف الذي تشهده الإنسانية جمعاء بسبب هيمنة الفردانية والبحث عن الخلاص المادي الفردي.
لذلك فاته سقوط النجمين إلى الحضيض، فـ”جيم” يقدم شهادته من داخل قاعة في السجن، و”كريستي” تقدم شهاداتها من أمام حلبة الملاكمة، لكن وجع الماضي ومشاعر الحقد تجاه زوجها تحفزان فيها نوازعها المثلية من جديد، بعد أن خاب ظنّها بقيم الرجولة التي بحثت عنها في “جيم، فكلاهما سجين ذاته وضحية للعصر بعد أن حلّ الجشع محلّ النبل.