أبو الحسن الندوي.. عقلية ثاقبة ويراع هندي يسيل بأوجاع المسلمين

توضأ في بيته آخر يوم من سنة 1999، وفي الأيام العشر الأخيرة من رمضان سنة 1420 دخل البيت متوكئا على سنواته التي ناهزت 86، وفتح دفتي رفيق حياته (المصحف)، وبدأ يتلو منه سورة الكهف، وقد كان ذلك برنامجه اليومي منذ أن تنسمت شغاف قلبه القرآن غضا طريا، ومع نفحات القراءة الهادئة المسترسلة فاضت روح الشيخ أبي الحسن الندوي، ليموت على ما عاش له ومن أجله.
وبين رحيل نفس شغوفة بالقرآن، وميلادها ذات فجر صداح من سنة 1913، امتدت رحلة أبي الحسن لسانا عربيا مبينا، وتلاوة أخاذة، وعشقا للأدب العربي، وعملا من أجل الإسلام، خدمةً وحماية ودفاعا في عموم شبه القارة الهندية.
يتيم دهلي.. ذو ذكاء متقد يحفظ القرآن ويتقن اللغات
إلى الأرومة العالية من الشرف ينتمي الشيخ أبو الحسن الندوي، إذ ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقد كان جده الأمير الداعية قطب الدين المدني أول الواصلين إلى الهند من تلك السلالة من الشرفاء، وفي الهند عاش ردحا من عمره قبل أن يوسد ثراها في حدود 676 ه.
أما والده عبد الحي الحسني فقد كان عالم دهلي (دلهي حاليا) ومؤرخها الذي كتب عن عظمائها وعلمائها، وترجم لأعيان الهند في أكثر من ثمانية مجلدات، حملت عنوان “الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام”.
أما أمه “خير النساء” فقد كانت فقيهة شاعرة مربية، وقد اعتنت رفقة ابنها الشيخ عبد العلي بتربية صغيرهما أبي الحسن الذي فقد والده في حدود 1923، وذلك بعد تسع سنوات من ميلاده. وقد أخذ الطفل أبو الحسن طرفا كبيرا من القرآن الكريم حفظا وتجويدا، وأكمله وهو في حدود عامه الثاني عشر.
وقد توفرت للشيخ الندوي قوة الحافظة واتقاد الذكاء، ومحيط علمي يفوح -أنَّى توجَّه- بالمعارف والدراسات الإسلامية واللغوية، وقد أتقن في شبيبته لغات عدة مثل الأوردية والفارسية والإنجليزية، أما اللغة العربية فقد كانت حبيبة قلبه ونبع مداده، وكان حاله معها ينشد قول العربي القديم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
ندوة العلماء.. نشأة في جامعة عريقة تواجه ألاعيب المستعمر
لم يكمل الشيخ الندوي اثنتي عشرة سنة من عمره حتى كان ذربا فصيح اللسان باللغة العربية، مفعم الوجدان بأدبها، فكان من بين محفوظاته نوادر عدة من الشعر الجاهلي، ومن بين منثور ما يحفظ مقامات الحريري.
ومن شيوخه الذين أثروا في حياته العالم المغربي الجوالة محمد تقي الدين الهلالي، وعليه درس ديوان النابغة وشرح شذور الذهب وغيرها، كما نهل من معارف عدد من علماء جامعة دار العلوم، وكذا ندوة العلماء في مدينة لكهناو، ومنها نال لقبه الذي غلب عليه، كما غلب على غيره من خريجي هذه الجامعة العريقة التي ساهمت في مواجهة حالة الانقسام الثقافي الذي أسهم الاستعمار الإنجليزي في تعميقه وتجذيره بالهند.
دخل الندوي هذه الجامعة وهو ابن 14 عاما، فكان أصغر طلابها سنا، وفيها درس الحديث الشريف على يد الشيخ حيدر حسين خان، فأخذ عليه وعلى مشايخ آخرين صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي، كما درس الفقه الحنفي على يد المفتي شبلي الجيراجبوري الأعظم، ثم سمت به نفس مطالِعة ووجدان تربوي بحّاث إلى معارف واسعة جعلته واحدا من أعظم علماء الهند.
ومع منتصف أربعينيات القرن المنصرم بدأ الوعي السياسي والفكري يغمر فؤاد الندوي، وبدأت أوضاع المسلمين تستفز وجدانه، فعمل في مجالات متعددة من أجل صيانة الهوية الإسلامية للهنود المسلمين، ومن أجل مد جسور من السلام والوئام بين المسلمين والهندوس، في وقت ارتفع فيه لهب العنصرية، واتقدت فيه نيران الانتقام الهندوسي من المسلمين في أنحاء الهند.
ومن أجل ذلك فقد أولى الإعلام العلمي والفكري اهتماما كبيرا، فأسهم في تحرير مجلات علمية متعددة، منها الضياء الصادرة باللغة العربية، و”الندوة” الأوردية الصادرة عن ندوة العلماء، كما أسس مجلة المعارف التي مثلت المسلمين في شبه القارة الهندية.
شيخ رسالة الإنسانية.. جسر المودة بين المسلمين والهندوس
أثرت الاضطرابات السياسية بالهند -في عقدي الأربعينيات والخمسينيات- على التعايش الهش بين المسلمين والهندوس، فانطلقت رماح الغضب الهندوسي إلى نحور المسلمين، قتلا وتحريقا وتشريدا، وفي هذه الأجواء كان الشيخ أبو الحسن الندوي من أهم المنادين بروح جديدة ينبغي أن تسود بين شعوب الهند.
كان الهندوس يدعون بكل صلافة ووحشية إلى خروج المسلمين من الهند تجاه باكستان أو الذوبان في المجتمع الهندوسي، وهو ما رفضه المسلمون وتصدوا له، ومن بينهم الندوي، وكان إلى جانب ذلك من أبرز الأصوات التي عملت في مجالات مختلفة، منها تعزيز هوية المسلمين، إذ أسس من أجل ذلك أكاديمية البحوث الإسلامية، والمجمع الإسلامي في لكناو، والمجلس العام للأحوال الشخصية لعموم مسلمي الهند، وكذا هيئة التعليم الديني في شمال الهند.
دوره المؤثر في تأسيس حركة رسالة الإنسانية، وخطبه المشهودة في المحافل الكبرى التي يحضرها مختلف أبناء الهند كان من أبرز عوامل تخفيف التوتر، وإنقاذ المسلمين من براثن الحقد الهندوسي، وقد جمعت خطب الندوي حوله كثيرا من عقلاء وحكماء الهند، وأثنى عليها كثير من المفكرين الهندوس، وكانت سندا للمسلمين في حماية هويتهم وعقيدتهم.
منهج الدعوة.. فكر يرفع راية الإسلام على كل راية
سافرت بالشيخ الندوي كتبه إلى المشرق الإسلامي قبل أن تطأه قدماه، وكان كتابه “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” بريده إلى قلوب المفكرين وعواطف الشعوب.
ولقد كان الشيخ الندوي واعيا تماما بمتغيرات العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة العثمانية التي عاصرها وشهد تأثر المسلمين من انهيارها، وقد عمل على زرع مفاهيم جديدة للتغيير، وكان يرى أن إنقاذ كبد الأرض (العالم العربي) هو أساس إنقاذ العالم الإسلامي وإعادته إلى جادة الصواب.
ويرتكز التغيير في فكر الندوي على تناسي الانتماءات الضيقة لصالح روح الإسلام، وهو ما عبر عنه في إحدى مقالاته بقوله: إن مسؤولية العلماء والمفكرين المسلمين في العصر الحديث، بعد مواجهتهم للتحديات المعاصرة، وإثباتهم أن الإسلام قادر على قيادتها وترشيدها والسموّ بها؛ هي أن يفضّلوا الإسلام على كل جماعة ومؤسسة ومدرسة وطائفة وحزب، وإذا رأوا أن بقاء الإسلام يتطلب أن نمحو جميع الأسماء واللافتات والشعارات والشارات والأحزاب والجماعات، فليكن ذلك موضع عنايتهم، ولا يقع تلكؤ منهم أو إحجام للحظة واحدة، ولتكن مصلحة الدين والعقيدة مفضّلة على عمل كل مصلحة حزبيّة، أو جماعيّة، وليكن واضحا أن الدين والإيمان وازدهارهما هو الهدف، سواء رجع الفضل إلينا أو لغيرنا من الإخوان في العقيدة والدين.
ويعدد د. يوسف القرضاوي رحمه الله -صديق الشيخ الندوي- جوانب من منهج الإصلاح في فكر الشيخ الهندي، فيراها عشرين أصلا من بينها: عمق الإيمان في مواجهة المادية، وحاكمية الوحي على العقل، واعتماد القرآن أساسا ودستورا للحياة، وتوثيق الصلة بالقرآن الكريم، وتوثيق الصلة بالسنة والسيرة النبويتين، وإشعال الجذور الروحية (الربانية الإيجابية)، والبناء لا الهدم، والجمع لا التفريق.
وقد كان وعي الشيخ الندوي بالوحدة الإسلامية عميقا، ولم يمنعه من الانتقاد الصريح لما يراه اختلالات أو ضعفا في المنهج.
وقد كانت الفلسفة الدعوية أعمق في فكر الشيخ الندوي من الفقه السياسي، وذلك أن الرجل قد شغف قلبه حب الدعوة، وتأثر بشيخه الداعية محمد إلياس الكاندهلوي، وكان رأسا من شيوخ جماعة الدعوة والتبليغ، ولعل واقع الهند كان مؤثرا في تصورات الرجل، فكان يرى أن إقامة الدولة الإسلامية مهمة المجتمع المسلم، لا الجماعة الإسلامية.
قصص الزهد.. روايات أعلام عرفوا الشيخ عن كثب
يجزم الشيخ القرضاوي أنه لم ير في عصره مثل زهد أبي الحسن الندوي في الدنيا، وتقلله من متاعها، ورفضه لزخارفها، واستعلائه على مغرياتها، ويورد كثيرا من القصص والمواقف التي حصلت مع الندوي تكشف زهده في الدنيا، وأنه من الذين يملكون الدنيا ولا تملكهم.

يقول القرضاوي: كان يرفض المكافآت التي تُعطى لأمثاله في مقابلة جهود يقوم بها، وهي مشروعة ويقبلها غيره من العلماء، ولكنه آلى على نفسه أن يقدِّم ما عنده من علم وجهد لله تعالى، لا لعَرَضٍ من الدنيا.
ومن بين ما أورده الشيخ القرضاوي من ذلك في كتابه “الشيخ الندوي كما عرفته” أنه:
عندما دُعي إلى سوريا أستاذا زائرا لجامعة دمشق، ولكلية الشريعة فيها خاصَّة، في عهد عميدها الداعية الفقيه الدكتور مصطفى السباعي، ألقى عددا من المحاضرات المهمة العميقة، تعب عليها، وبذل جهدا لا يُنكر في إعدادها، وكان لها تأثير عميق ووقع مشهود بين الأساتذة والطلاب، وكان موضوعها “التجديد والمجددون في تاريخ الإسلام”، وهي التي ظهرت بعد ذلك تحت عنوان: “رجال الفكر والدعوة في الإسلام”.
وعلى عادة الجامعة صُرفت له مكافأة، كما تُصرف لكل الأساتذة الزائرين، وهنا كانت المفاجأة، فقد رفض الشيخ الندوي أن يأخذ مكافأة على محاضراته. ولم يجد الإداريون والماليون في الجامعة حلا إلا أن يتبرع به للطلاب الفقراء، وغير ذلك من الأمثلة الكثير.
حين أعطي الشيخ جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام ومقدراها 300 ألف ريال سعودي في ذلك الوقت تبرع بها الشيخ كلها للفقراء المحرومين، وبعضها لفقراء الهند ومدارسها الدينية، وكذلك فعل مع كل الجوائز التي حصل عليها، مثل جائزة بروناي في التاريخ الإسلامي، وجائزة دبي للقرآن الكريم ومقدراها مليون درهم، وكل تلك المبالغ أنفقها ولم يدخل جيبه منها شيء.
ذكر المؤرخ الأديب محمد المجذوب في كتابه “علماء ومفكرون عرفتهم” أن الشيخ الندوي رفض أن يأخذ من رابطة العالم الإسلامي ما تدفعه من مكافآت لأعضاء المجلس التأسيسي عن حضورهم جلساته كل عام.
نقل الشيخ إبراهيم السكران في كتابه “الماجريات” نقلا عن الشيخ المجذوب قوله في كتابه “علماء ومفكرون عرفتهم”: وأنا لا أذيع مجهولا من حياة الشيخ عندما أذكر أنه -وهو العضو الدائم في المجلس الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- لم يقبل أن يصرف له فلس واحد من المكافآت السخية المخصصة لمثله، ولم أعرفه نزل فندقا قط على حسابها على تعدد المرات التي حضر فيها اجتماعات هذا المجلس.
“لقد وجدنا في رسائل الشيخ الندوي لغة جديدة”
أخذ الأدب بلب الشيخ الندوي، ورفد ضفافه بحران يأخذ كل ما قذفا، محبةً فطرية للأدب واللغة العربية، ووعيا عميقا بدوره في التأثير، وقد كان تأثير شاعر الإسلام محمد إقبال على الندوي كبيرا، وكان أبو الحسن مستاءً من شهرة شاعر الهندوس الكبير طاغور عند العرب، بينما تغيب عنهم روح الإبداع الإسلامي التي تفجرت في مداد إقبال، وقد أذن إقبال للندوي بترجمة شعره وتعريبه، فكان رسوله إلى نفوس وعواطف أجيال إسلامية عظيمة تغنت به من المحيط إلى الخليج.
وقد كانت الروح الشاعرة متوهجة في فكر وكتابات الندوي حتى وصفه الشيخ محمد الغزالي بقوله: هذا الإسلام لا تخدمه إلا نفس شاعرة محلِّقَة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظَّ لها فيه. لقد وجدنا في رسائل الشيخ الندوي لغة جديدة، وروحا جديدة، والتفاتا إلى أشياء لم نكن نلتفت إليها.
وفي سبيل ذلك كان الشيخ الندوي مؤسسا ورئيسا لرابطة الأدب الإسلامي التي عقدت مؤتمرها الأول سنة 1989 في إسطنبول وظل رئيسا لها إلى وفاته سنة 1999.
مكتبة الشيخ.. مؤلفات تبحر في قضايا المسلمين
كان قلم الشيخ الندوي، فياضا فترك مكتبة عامرة، جالت بين المسلمين وتركت أثرا عظيما في ثقافتهم ومعارفهم، فقد ألّف في مجالات متعددة. ومن أبرز كتبه:
العرب والإسلام. الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية. النبوة والأنبياء. مذكرات سائح في الشرق العربي. الإسلام والحياة. المسلمون وقضية فلسطين. المسلمون في الهند. روائع إقبال. رجال الفكر والدعوة في الإسلام. التفسير السياسي للإسلام.
بيد أن أشهر مؤلفاته هو كتاب “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟” الذي مثل بواكير كتبه، وبداية رحلته مع التأليف. ولهذا الكتاب قصة مشهورة رواها الشيخ الندوي في كتابه “قصة كتاب يحكيها مؤلفه”، ونقلها الشيخ القرضاوي أيضا في كتابه “الشيخ أبو الحسن الندوي كما عرفته”.
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
كان الشيخ يشعر برغبة غامضة ملحة لم يستطع مغالبتها في تأليف هذا الكتاب، وكان من إرهاصات تأليفه أنه طالع بشكل مستفيض -تقريبا- تاريخ أوروبا سياسة واجتماعا، وديانة وخلقا، وحضارة وثقافة، بنهامة وفي توسع وعمق.
واهتم أكثر بموضوع الصراع بين الديانة والعلم، والبلاط والكنيسة، فدرسه دراسة اختصاصية، وتاريخ الأخلاق في أوروبا وتطورها، والعوامل التي صاغتها صياغة خاصة انتهت بها إلى هذا المصير المادي الذي أثر في مسيرة الشعوب الغربية والشرقية واتجاهاتها، تأثيرا عاما وحاسما.

هذا عدا تاريخ الأقطار الشرقية والإسلامية، ودياناتها وحركاتها وفلسفاتها، وتاريخ الإسلام والمسلمين، وتاريخ العرب في الجاهلية والإسلام، من خلال الكتب المختصة بهذا الموضوع، ومن خلال الشعر والأدب.
لاحظ الشيخ في رحلته تلك مع المصادر المتوفرة باللغات الأربع التي يتقنها (العربية والإنجليزية والأردية والفارسية) أن السؤال عن خسائر المسلمين هو المهيمن في سياق النقاش عن العلاقة مع الغرب وتقدمه في مختلف المجالات، وحين تعمق في البحث قرر أن يقلب الصفحة ويطرح السؤال بشكل معاكس. وما خسر الآخرون بتراجع وتقهقر المسلمين؟
وقد انتهى من تأليف الكتاب وهو في مطلع الثلاثين من عمره، ومع أنه كان يرى أن موضوع الكتاب “أضخم من أن يتناوله من هو في مثل هذه السن المبكرة، وفي بلد بعيد عن مركز اللغة العربية وآدابها وثقافتها”، وكان يرى أنه من الجسارة أن يتناول هذا الموضوع “الذي كان جديرا بقلم أكبر من قلمي، وبعقل أوسع من عقلي، وبتجربة أطول وأوسع من تجربتي كمؤلف”، فإنه مع ذلك مضى في تأليفه ونشره، تدفعه إلى ذلك رغبة عارمة وغامضة جعلته يحجم عن استشارة العقلاء والعلماء والمؤلفين.
رحلة الحج.. كتاب بكر يتلقى قبولا حسنا في العالم العربي
حين انتهى الشيخ من تأليف الكتاب راسل لجنة التأليف والترجمة والنشر في مصر، بشأن طباعته ونشره، فرد عليه رئيسها الدكتور أحمد أمين بك -وهو أيضا رئيس الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية- يطلب منه نموذجا من الكتاب، ثم سأل لاحقا هل رجع المؤلف إلى مراجع أجنبية، فرد عليه الشيخ بقائمة المصادر الأجنبية التي اعتمد عليها، وحينئذ بعث له أمين بك بالموافقة على نشر الكتاب.
ومضت شهور والشيخ الندوي لا يعرف شيئا عن مصير الكتاب، وفي سنة 1950 سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وذات يوم جمعه مجلس مع سفير سوريا جواد المرابط القادم لتوه من مصر، ومعه نسخة من الكتاب حصل عليها في القاهرة، وكان يتحدث عن “إعجابه بعمق فكر علماء الهند وأصالته، مستشهدا بهذا الكتاب، الذي وقع إلى يده في زيارته القريبة لمصر، وهو لا يعرف أنه يتحدث إلى مؤلفه”.
وفي تلك اللحظات كانت مشاعر الفرح العارم تغمر قلب الشيخ الندوي وهو يرى بواكير إنتاجه المعرفي تجد طريقها إلى النشر مع قبول حسن، ويعلق على ذلك بالقول: “من السهل الميسور تقدير فرح المؤلف الشاب المغمور الذي يفاجأ بأثره العلمي التأليفي الأول الصادر من أكبر دور النشر”، فاستعاره من سعادة السفير ليرده إليه بعد مطالعته.
وبإشراقة الروح ونفحات الوجدان الإيماني ناهزت مؤلفات الشيخ الندوي سبعين كتابا، وكان بعضها من عدة أجزاء، وظلت الروح الإيمانية متوقدة في قسماته سارية في مداده، حتى مالت شمسه للمغيب ذات جمعة في آخر يوم من سنة 1999، وفي العشر الأواخر من رمضان، مودعا بذلك القرن الذي عاش فيه داعية وإماما ومصلحا، ومجيبا على سؤال الإنسانية المركزي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟