“صائد اللقطة”.. مسيرة طويلة لمصور يلاحق ألوان الثقافات والجمال والحروب

لا يفتأ يعود من سفر حتى يشرع في سفر غيره، ولا يكاد يهبط في مطار حتى يغادره إلى آخر، فقد كُتِب عليه الترحال وهو يحبه ويطلبه، ولكنه يخشى أن تضيع الألوان والمفارقات التي يبحث عنها، في غمرة الزجاج الشفّاف والخرسانة الرمادية. يقول إنه لا يطيق العالم بلا ألوان، ويخشى أن يأتي يوم تختفي فيه الأطياف الملونة الجميلة، حينها سيكون ذلك كابوسا مخيفا أو سُكونا لا حراك بعده.

إنه “ستيف ماكوري”، مصوِّر الحروب ومناطق النزاع كما تسميه وسائل الإعلام، ومصوِّر الألوان والتناقضات، ومكتشف مواطن الجمال في تنوُّع الجنس البشري، كما يحب هو أن يصف نفسَه. عرفه الناس من خلال صورته العبقرية الخالدة “الموناليزا الأفغانية”، وعشرات الآلاف من صور المآسي والحروب، ونظرات الأمل في براءة عيون الأطفال.

“ستيف ماكوري”، مصوِّر الحروب ومناطق النزاع في الكويت 1991

ذلك الرجل الغامض الصامت، استجاب أخيرا لضغوطات الأصدقاء والمنتجين لإعداد فيلم وثائقي يتناول يومياته الإنسانية والمهنية، ويسلط الضوء على أهم محطاته وأسفاره ومناطق النزاع التي عايشها، وقناعاته وآرائه الوجدانية والفلسفية. وتعرض الجزيرة الوثائقية هذا الفيلم تحت عنوان “ماكوري.. صائد اللقطة”.

بحث عن صورة تتحدث لغة عالمية.. رحالة العدسة

يقول “ستيف ماكوري” الرجل الغامض الكتوم جدا: لا يمكن وقف عجلة التقدم، والتغيير من سنن الحياة، فلماذا لا نحتفظ ببعض الذكريات عن الماضي؟ أعيش في نيويورك منذ 35 عاما، لدي ستوديو ومنزل صغير أقيم فيه، لكنني لا أمكث هناك سوى أيام معدودات، وعندما أكون هناك ما إن أخرج في الحي حتى أشعر بالغربة، لا أعدّ تلك المدينة موطني.

بيت “ستيف ماكوري” المتواضع في نيويورك

أنا أعتبر التصوير الفوتوغرافي قائما على تقدير العالَم، وهو العثور على صورة أو موقف يتحدث لغة عالمية، فلديَّ رغبة جامحة في جمع ألبوم لجنسنا البشري، قبل أن يتغير العالم ويزول تنوُّعه.

وقد اصطحبه إلى بابوا غينيا الجديدة، واستقبله أهلها بالترحيب، ولكن على طريقتهم، بالأصوات الصاخبة والأزياء البدائية والرقصات التقليدية، هذه الحياة البدائية هي على بعد 10 دقائق من المطار والمدينة الرئيسية، إنه لموقف سريالي.

يلتقط “ماكوري” صورا للأطفال وهم يلعبون، ويلفت نظره طفل في عامه الثالث يقف جانبا. لقد مات أبوه في حادث سيارة، ولاذ الفاعل بالفرار، وتزوجت أمه رجلا آخر، وانتقلت معه إلى مدينته البعيدة، وبقي “ريكس” الصغير هنا، وحيدا مع جدته، تلك هي الحياة الحقيقية هنا.

أزياء بدائية ورقصات تقليدية في بابوا غينيا الجديدة

تقول “بوني” أخت “ستيف ماكوري” ورئيسة الأستوديو: كل صورة يلتقطها المصور تعبر عنه بطريقة ما، وتكشف شخصيته وما يحركها. وحين ولد “ستيف” كانت أمي مريضة، وشُخِّص مرضها بالتصلب اللويحي المتعدد، وعندما ماتت كانت تلك أول مصيبة عائلية نعيشها، وفي عامه الخامس تعرض للمصيبة الثانية، كان يلعب مع أختي على بسطة الدرج، وسقط في حادث غريب.

“أفضل طريقة لقضاء حياتي هي السفر ومشاهدة العالم”

يقول عنه صديقه “مايكل”: حين كنا أطفالا كنا نرى “ستيف” شخصا مختلفا، هنالك جرح في منزلهم، كانت ذراعه مصابة، ومن الطبيعي أن يتعارك الأطفال بأيديهم ويلعبون. وكان عندي إحساس أن عدم تمكن “ستيف” من فعل هذا هو الذي جعله مراقِبا أكثر من كونه فاعلا، وجزء من ذكائه الاجتماعي هو عدم لفت الأنظار إليه، وكذلك صغر جسمه بالنسبة لأقرانه، وكل هذه العوامل شكّلت شخصيته.

عائلة “ستيف ماكوري” في بنسلفانيا 1950

ويتحدث “ستيف” عن إصابة يده قائلا: أصبتُ بتلف في أعصاب اليد اليمنى، وحتى اليوم لا أستطيع استخدامها إلا بشكل محدود. وتتابع أخته قائلة: أشياء كثيرة تركت ألما وحزنا كبيرا في قلبه، ولكن لو لم تكن هذه الأشياء -وخصوصا إعاقة يده- لما بلغ ما بلغ اليوم، لأن التغلب على هذه الصعوبات هو الذي جعله شديد الصلابة والقوة.

في بيت أبيه في بنسلفانيا حيث الكاميرات القديمة وشرائط التصوير

ويقول عن نفسه: أنا الوحيد الذي لديه مفتاح هذه الغرفة، ولا أحد غيري يدخلها، كل أشيائي هنا، شرائط التصوير وصور مطبوعة، وحصيلة 45 عاما موجودة هنا، وهذه أول كاميرا استخدمتها، إنها من طراز “براوني هوك آي”، وهذه “كوداك براوني”، وهذه كاميرا والدي في الخمسينيات، فقد كانت ترافقه دائما في المناسبات والإجازات.

وعندما كان عمري 12 عاما وقع بين يدي عدد من مجلة “لايف” وقرأت مقالا عن الرياح الموسمية، وحلَّق بي في عالم ساحر، وأثار لدي الفضول لزيارة الهند، وتكونت لدي فكرة أن أفضل طريقة لقضاء حياتي هي السفر ومشاهدة العالم.

عدد من مجلة “لايف” ومقال الرياح الموسمية في الهند

وبعد وفاة والدتي قرر والدي إرسالي لمدرسة داخلية مسيحية محافظة، في كارولينا الشمالية، وحين وصلت هناك شعرت أنني في عالم آخر، وكرهت كل لحظة فيه، فقد كانوا يستمتعون بإيذائنا، وهذا شكّل لي صدمة حقيقية وترك في نفسي ندوبا، وبعد سنة تمكنت من الفرار.

ثم يستعرض صورا بالأبيض والأسود، ويقول: هذه أول صور طبعتها، فقد بدأت مسيرتي المهنية في صحيفة صغيرة في فيلادلفيا، وفي مهمتي الأولى اضطررت لاستئجار الكاميرا والعدسة، وتبين لي لدى خروجي للمهمة أن العدسة غير مناسبة، فعدت في اليوم التالي لاستبدالها، وكنت أكسب 105 دولارات في الأسبوع، وهو مبلغ قليل أخجل من ذكره.

“اكتشفت أن العالم مفتوح”.. رحلة من الهند إلى آفاق المجهول

ويقول صديقه “مايكل”: كانت فترة الستينيات وأوائل السبعينيات عصيبة في أمريكا، فقد انهار كثير من القيم، كنا نقول “أمريكا عظيمة”، لكنها كانت ترتكب إبادة جماعية في فيتنام، وكنا نقول “بلد حر” وهي تمارس التمييز العنصري، وتحرص سلطات فيلادلفيا على عدم توظيف السود، وجاء يوم منعت فيه الولايات الجنوبية المواعدة بين الأجناس المختلفة.

“أمريكا عظيمة” و أمريكا “بلد حر” لكنها تمارس التمييز العنصري

يقول “ستيف”: إنه جنون وسياسة حمقاء، هل يعنون أن السود والبيض مختلفون، وليسوا كلهم بشرا؟ فبعد عامين من التقاط الصور المكررة، قررت أن أخرج من هذه الدوّامة، ولو كلفني الأمر حياتي، فأخذت مبلغا يسيرا من المال و200 لفّة أفلام “كوداكروم”، وقطعت تذكرة ذهاب فقط إلى الهند، كان عالما آخر، شيء ساحر، قضيت عامين أتجول في جميع الهند وجنوب شرق آسيا، أكلت أكل الشوارع ونمت على الأرصفة.

اكتشفت أن العالم مفتوح، فمشيت بلا خطة أو تحضير، وقبل قدومي إلى الهند كنت أصور بالأبيض والأسود، وفجأة أصبحت أصور بالألوان، لقد أحببتها، وبتُّ أسعى للتنوير عبر تذوق درجاتها، وخلال عامين من إقامتي هناك، صادفت الرياح الموسمية مرتين، ورجعت بذاكرتي إلى مقال “براين بريك”، وخطر لي أن أعيد صياغته بطريقتي.

“ستيف” يأخذ مبلغا يسيرا من المال و200 لفّة أفلام “كوداكروم استعدادا للسفر إلى الهند

وفي يوم ما، كنت في مدينة فيراناسي ونصفها مغمور بالماء، والناس فيها تستخدم القوارب للتنقل، وكنت ألتقط الصور والقارب يهتز، لم يكن الوضع مناسبا فقررت النزول إلى الماء، وكان الماء قذرا جدا، تتسرب إليه الجيف ومياه المراحيض، ولكني كنت أقضي اليوم كله هكذا، وأعود إلى الفندق لأعقم قدميّ المتعفنتين، وأعاود الكرّة في الغد، فكان الحال صعبا، لكنّ المشقّة تهون في سبيل التقاط صورٍ تروي هذه القصة الإنسانية وواقع أهلها.

في مدينة فيراناسي كان ستيف يقضي اليوم كله في الماء العفن ويعود إلى الفندق ليعقم قدميه المتعفنتين

والمفارقة في الرياح الموسمية أنها تسبب دمارا واسعا، لكنها من ناحية أخرى تجدد الحياة، وتجلب الأمطار التي تحيي المحاصيل، ويفرح الناس لزوال الحر. ففي أواخر مايو/ أيار 1979 ضربت الهند موجة حر تاريخية، لم أعد أطيق 40 مئوية، فقررت العبور إلى باكستان لأجد الجو حارا كذلك، فذهبت إلى جبال هندكوش قاصدا شيترال، إنه مكان بارد في غاية الجمال.

حروب كابل والسوفيات.. صعود مفاجئ على المسرح الدولي

يتحدث “ستيف” عن بداية رحلته من شيترال إلى أفغانستان قائلا: مكثتُ في فندق بدولارين في الليلة، وكان في الغرفة المجاورة لاجئون أفغان، أخبرتهم أنني مصور، فقالوا لي إن أفغانستان خلف ذلك الجبل، وتستعر فيها الآن حرب أهلية، ونريدك أن تروي تلك القصة، فرأيت أنها فكرة مناسبة تستحق المغامرة، ومشينا حتى حلول الظلام في طرق وعرة صعودا وهبوطا، كانوا معتادين عليها، بعكسي أنا.

مخيمات اللاجئين الأفغان عل الحدود القريبة في باكستان سنة 1979

كنت متعبا جدا واشتد بي العطش، والنهر بعيد في الأسفل، ولا أقوى على النزول، فذهب أحد الأفغان وأحضر لي ماء في حذائه البلاستيكي، وصورت آخر الأفلام التي أحضرتها في هذه المرتفعات الأفغانية، وكنا نقترب أكثر فأكثر من خطوط القتال، ولم أكن أرغب أبدا أن أكون مصورا حربيا.

وكان الموقف الأكثر رعبا في حياتي، ربما أحدهم يحاول الآن قتلي، ولأول مرة أرى جثثا سقطت في معارك، فهؤلاء المجاهدون كانوا يدافعون عن واديهم وأسلوب حياتهم، وشعروا أن حكومة كابل تحاول فرض سيطرتها على واقعهم وتُعادي دينهم، فتمردوا. لقد كانت انتفاضة شعبية.

المجاهدون الأفغان يدافعون عن دينهم وعاداتهم وأرضهم

هناك، أقمت عددا من الصداقات مع الأفغان، وأرسلت الفيلم إلى الولايات المتحدة، ثم ذهبت إلى نيبال في أغسطس/ آب 1979، ومرت أسابيع دون أن يكترث أحد للفيلم، وفي 24 ديسمبر/ كانون الأول 1979 عبرت الفرق السوفياتية الأولى حدود أفغانستان غازية، بقوات بلغت 200 ألف جندي، وحينها اجتاحت القصة العالم أجمع، ونشرت نيويورك تايمز إحدى صوري، وبين عشية وضحاها اجتاحت صوري العالم كله، من مصور مغمور إلى صعود مفاجئ على المسرح الدولي، إنه تدخُّل القدر.

“لم يختر الحرب، بل هي التي اختارته”

كانت أفغانستان في حقبة الحرب أرضا منكوبة، رصاصات متطايرة، وأطفال ذوو وجوه بريئة، يحاولون أن يتعلموا أصول الحرب والقتال، ثم تراهم جثثا بعد ذلك. لقد تعلّم “ستيف” من تلك المفارقات كثيرا، وما زالت تلك من الصور الخالدة لأولئك المجاهدين. وقد كوّن صداقات مع أولئك الناس، وتواصل معهم دون أن يفهم أحدهم لغة الآخر، وأصبح واحدا منهم، وعلى استعداد للمخاطرة بحياته من أجل نقل قصصهم للعالم.

صور “ستيف ماكوري” تحتل الصفحات الأولى للصحف العالمية أثناء حرب أفغانستان

وبعد الغزو السوفياتي تقاطرت حملات المصورين والمراسلين، واكتظت الفنادق بالصحفيين الذين يودون الوصول للمناطق الساخنة، وكنتُ محظوظا عن كل هؤلاء بفضل سبقي وصداقاتي. يقول “روجرز” وهو محرر صور في “ناشونال جيوغرافيك”: كان “ستيف” يحب الناس ويتعاطف مع الذين يصورهم، ولم ينظر إليهم على أنهم أجانب يلفتون الانتباه، وفي صور الحرب كان يحكي وحشية الإنسان تجاه أخيه الإنسان.

وكم هي فظيعة طبيعة البشر، فأتذكر زيارتي لمستشفى الصليب الأحمر في كابل، تلك المشاهدُ أفظع من تصورنا للجحيم، وكانت وظيفتي أن ألتقط بعض صور التناقضات الإنسانية. ولم يختر “ستيف” الحرب، بل هي التي اختارته، ففيها رأى بطش النسان، وضعفه في أسوأ حالاته.

جلسة تصوير مميزة في مدرسة بنات.. قصة الموناليزا الأفغانية

ثمة صورة لمخيم اللاجئين الذي كنتُ فيه عام 1984، فقد كانت هنالك آلاف الخيام غيرها تنتشر على الحدود مع إيران وباكستان وطاجيكستان، وأسوأ ما في هذه المخيمات هو أن قاطنيها كانوا أصحاب بيوت ومزارع وحيوانات، وفجأة أصبحوا معدَمين، فقد فقدوا أعزاءهم وأصبحوا في الطوابير ينتظرون حصص التموين.

“موناليزا أفغانستان” تتحدث عن نفسها وصورتها بعد سنوات طويلة من الحرب”

مأساة البشر أن هذه المشاهد تتكرر يوميا، ولكنهم لا يتعلمون، وكنت أتجول وقت الظهيرة والشمس لاهبة، وكان ينبغي أن أستريح، لكنني سمعت أصواتا قادمة من خيمة، فدفعني الفضول، ودخلت لأكتشف أنها مدرسة بنات، وهناك لفتت نظري فتاة صغيرة بملامح مذهلة وعينين مدهشتين، أدركت أن هذه الصورة هي التي عليّ أن ألتقطها حالا، استأذنت المعلمة، وصورت طالبات أخريات لأشجعها بأن الأمر عادي.

ثم جاء دورها، لم ألتفت إلى ملابسها أو إلى الخلفية، كان كل التركيز في الصورة فقط، ولم أراجع الفيلم إلا بعد شهرين، عندما عدت إلى نيويورك، وهناك فهمت أن الصورة كانت مثالية، لقد كانت غامضة مثل الموناليزا، تنظر إلينا عبر العدسة، مثل السحر. فليست مجرد أيقونة تصويرية، بل هي رمز العصر الذي نعيشه. لقد ذهب “ستيف” لكي يصور الجانب المهيب من فتاة المخيمات تلك.

تلميذات مهدن لـ”ستيف ماكوري” قبيل التقاطه صورة “موناليزا أفغانستان”

تقول صاحبة الصورة، بعد أن كبرت وأصبحت أمّا: كنت مجرد فتاة قروية، وفي البداية كرهت الصورة والاهتمام المرافق لها، أما الآن فأنا سعيدة جدا، لقد أكسبتني الصورة شهرة واحتراما، وقد ساعدت عائداتها الأرامل والمساكين والأيتام، أدعو الله أن يعم السلام بلادي، حتى لا يتجرع أحد مرارة اللجوء من جديد.

“كل الحروب التي صورتها أصبحت ماثلة أمامي في عقر داري”

يقول “ستيف”: ساهم سفري إلى أفغانستان في تشكيل طبيعة العمل الذي كنت أقوم به، وأصبحت مصورا لمناطق النزاع، وهو ما لم أخطط له أبدا، وأصبح هو العمل الذي يفترض أن أقوم به، في لبنان وفي الفلبين وفي الكويت.

جِمال سوداء تمشي أمام النيران أثناء الغزو العراقي للكويت

جسّد الغزو العراقي للكويت نهاية العالم، فثمة 600 بئر نفط تنفث النيران، وقد تجولت بين الآبار ولفتت نظري دبابة محترقة هناك، ورأيت أمامها جنديا متفحما، ويرفع يده إلى السماء، ولا أحد يعلم إلا الله لماذا يرفعها، ربما كانت له زوجة وأطفال، وها هو الآن ملقى وحيدا في الصحراء، لا يأبه له أحد. وكانت هنالك جِمال سوداء تمشي، التقطتُ لها صورا أمام النيران، فالصورة تجعلك تشتم رائحة البارود والنفط المحترق.

وهنالك ضريبة كبيرة لما يفعله “ستيف”، والغريب أنه كان يحب دفع تلك الضريبة باستمرار، كأنه يذهب إلى هناك بتكليف رباني، كأن لدى أمريكا عطشا لا ينطفئ للمزيد من للنفط والمزيد من السيارات، دون الاهتمام بحياة الناس والحيوانات، وما لم نتوقف عن ذلك فسنهلك، وتستمر الطبيعة.

أثر البترول السلبي على الحياة البرية والبحرية

فخلال العقد الماضي حاولت ترك الحرب ورائي، وحاولت البحث عن إنسانية أكثر في هذا العالم، فقضيت أواخر أغسطس/ آب وأوائل سبتمبر/ أيلول 2001 في التبت، ثم غادرتها إلى بكين ومنها إلى نيويورك، فنمت عميقا من التعب، واستيقظت على تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر، وجمعت ما لديّ من معدات التصوير وهرعت إلى سطح البناية وصوّرت البرجين المحترقين، كأنني في حلم، ولا أصدق.

من سطح شقته في نيويورك، “ستيف ماكوري” يصور اللحظات الأولى لأحداث سبتمبر/أيلول 2001

حاولت اجتياز حواجز الشرطة لكنني مُنعت، فاختبأت في مبنى قريب، وهناك أمضيت معظم يومي ألتقط الصور. فكل الحروب التي صورتها في السابق حول العالم، أصبحت اليوم ماثلة أمامي في عقر داري، وكان من الصادم أن هذه المؤامرة قد دُبّرت في أفغانستان، المكان الذي عرفته عن كثب، فأعددت الصور وراجعتها، ثم ركنتها على الرفّ ولم أعد إليها مطلقا.

“أحب أن أعيش اللحظة”.. قاصٌّ بصري يبحث عن ألوان العالم

كرست حياتي للبحث عن الألوان، وللتعبير عن جمال التنوع، فأنا لا أثق بالذين يحاولون فرض لون أحادي على الكون، بالحرب أو غيرها، أحب السلام، وهو أن أكون في المكان الذي أحب في الوقت الذي أريد، وأحب أن أخرج وأستغرق في تفاصيل الزمان والمكان، وأحب أن أعيش اللحظة وأستمتع بها، فتركيزي وانتباهي الشديدان لما حولي يضفيان على الألوان كثافة أكبر.

هل كان “ستيف ماكوري” مراسلا صحفيا أم مجرد فنان يعشق الحياة؟

وأحب أيضا أن أكون صادقا في تقديم الألوان على الحقيقة، ولا أرى غضاضة في تهدئة لون فاقع لدرجة يقبلها المشاهد، وأشكر وأقدر كل من أهدى إلي واحدا من أخطائي، لكنني لا أعتبر بعض تفاصيل الصورة أخطاء ما لم تغير تاريخا أو حقيقة، فأنا لست صحفيا ولا مصورا صحفيا، بل أحب أن يقال عني قاصٌّ بصريٌّ أو فنان، فأنا أصور لنفسي، وأحب أن تصل صوري إلى القلوب.

هذا الرجل لا يكل ولا يمل، وما دامت هنالك صورة في العالم تناديه أن يلتقطها، فسوف يذهب إليها، وهو مستعد أن يعيش على أقل القليل ولا يحب التكلّف، ولا يعبأ بالرفاهية والكماليات، بل يبحث عن الأصالة والنبل والكرامة في الجنس البشري.

في آخر حياته، التقى “ستيف ماكوري” بشريكة حياته ورزقه الله منها طفلة

وفي إحدى المهمات في أريزونا انتدبت “ناشونال جيوغرافيك” مصورة شابة لمرافقته في مهمته، فقضت معه يومين في العمل، ووصفته بأنه بسيط وتلقائي ومرح، ثم تزوجا وأنجبا طفلة ملأت عليه كل حياته، حتى لَيبدو أنه تراخى في التصوير، ولكنه شعور الأبوة التي جرّبها في سن متأخرة بعد 67 عاما، وهذا أول بيت يمتلكه، أصبح لديه أخيرا ثلاجة وتلفاز، فأجمل إحساس أن تحتضن من سيكون أنت بعد موتك.

“أصبح الآن مقبرة للعظام”.. توثيق للتنوع قبل الانقراض بفعل البشر

يقول “ستيف”: زرتُ المحيط المتجمد الشمالي، وكان من أعظم البيئات التي زرتها في حياتي، فهنالك تدرك قدر هشاشة العالم، وأن أي حدث في مكان ما يمكن أن يؤثر على مكان آخر، فالصور توقظ فينا أن الكوكب يهمنا، وأنه يتغير ويجب أن نحافظ عليه.

مقبرة لعظام لحيوانات الفظ التي قتلها الإنسان ليستفيد من شحومها وزيوتها

كان الشاطئ على مد البصر مليئا بحيوان الفظ، وأصبح الآن مقبرة للعظام، فقد قتلها الإنسان ليستفيد من شحومها وزيوتها، فشارفت على الانقراض. وأريد توثيق هذا المكان من أجل ابنتي ومن أجل الأجيال القادمة، لأنه قد يزول غدا.

تسألني هل سأَعتزِل؟ من ماذا؟ من الحياة؟ من السفر؟ من التقاط الصور؟ أنا لا أستطيع تصور أن أقضي لحظة من عمري بطريقة أخرى، وأظن أنها نعمة كبيرة أن الله منحني هذه الفرصة لرؤية العالم والاستمتاع بكل الجمال الذي فيه، فلا شيء محسوم في الحياة، وعلينا فقط أن نسير قدما، فأخطاؤنا جزء من حياتنا، وأنا فرح بإنجاز ما أنجزته ولا أريد تغيير أي شيء.

لم يكن “ستيف” قطّ وصوليا ولا متسلقا على أكتاف الآخرين، بل كان دؤوبا في عمله، ولا يرضيه ما وصل إليه من الإتقان، بل يريد الأحسن والأجود دائما.

حيوان الفظ حيوان قطبي مهدد بالانقراض لكثرة تعرضه للصيد الجائر

وكل الآخرين مثلنا، وليسوا غرباء، وعلى كل منا أن ينظر إلى الآخر بنفس الطريقة، فلا تتفاخر ببيئتك أو أصلك أو ما تملك، فكل الناس كذلك، والأرض كلها مجرد ذرة غبار في هذا الكون الواسع، فتواضع للذي خلقك، وتواضع لمن هم مثلك، فنحن شركاء على هذا الكوكب.


إعلان