“ستان لي”.. هالة أسطورية حول صانع أبطال السينما الخارقين

في الشهور الأخيرة من عام 2001 حاولت “مارفل” (شركة الإنتاج السينمائي والتلفزيوني العملاقة) مقاربة أحداث 11 سبتمبر بأبطالها وضحاياها مع الأبطال الخارقين الذين اخترعتهم الشركة، كان المعجبون يرسلون رسائل كثيرة يقولون بجدّية تامة إنه “على مارفل أن تتدخل لإنقاذ الأمر”.
آنذاك قالت الصحافية “سوزان فالودي” إن هذا السعي أيضا فشل في التحرر من القصص الأخلاقية الملازمة لأبطال “مارفل” بشكل عام، فظهر تماما كالأفلام التي تنتجها، بالإصرار على فكرة عبادة البطل في ذاته، حتى أثناء التعبير عن مأساة جماعية.
يحلل هذه الظاهرة كتاب “بناء العوالم الخيالية.. نظرية وتاريخ الابتكار الفرعي”، ويتوسّع في التعريف بعوالم الأبطال الخارقة وسياقاتها، وربما يمثّل نسبيا ما نريد الحديث حوله هنا، على الرغم من وجود عدد غير قليل من المقدمات التي كانت تصلح كبداية للحديث عن الفيلم الوثائقي “ستان لي” الذي أنتجته الشركة، إذ يمكن من خلاله فهم كيف تفكر الشركة العملاقة عموما؟ ولماذا اهتمت أن تنتج فيلما بالشكل الأسطوري الذي خرجت به صورة “ستانلي مارتن ليبر”؟ وما الذي يعنيه الكاتب بالنسبة إلى السينما العالمية وعالم القصص المصورة؟ وقبل أي شيء ما الذي يعنيه أن تتحول قصة مصوّرة إلى فيلم سينمائي يحقق مليارات الدولارات؟
“ستان لي”.. عملاق كتابة القصص المصورة
فيلم “ستان لي” (Stan Lee) الذي أنتج عام 2023، هو وثائقي مُجهد لبروَزة الكاتب الشهير بإظهار أسباب تفكيره في الأبطال الخارقين وعوالم “مارفل” الشهيرة “فانتاستيك فور”، و”سبايدرمان”، و”آيرون مان”، و”ثور”، و”بلاك بانثر”، و”إكس مان”، بعد أن تعلّم الكتابة في قصص “كابتن أمريكا” بداية الخمسينيات من القرن الماضي.
كلها أسماء سلاسل الأفلام التي يعرفها العالم كله تقريبا، والتي كانت جزءا من خيالات الرجل، صنعته الشركة مرة أخرى على طريقتها في فيلم وثائقي، كما صنعها أولا مع أبطاله الخارقين، فلم يعد يمكن فهم أحدهما دون فهم الآخر.
رحل “ستان لي” عن العالم في 2018، وقد سبقه روّاد في المجال لم يحظوا بالشهرة ذاتها، كما لم يحظ بها منافسوه على مدار تاريخ تداخل صناعة القصص المصورة مع سينما اعتمدت على تلك القصص، حيث يمكن إعادة الحديث عن الرجل بنزع هالة الأسطورية التي كانت تلازمه في أغلب مراحل ظهوره التلفزيوني، أو خلال المقابلات، لنحاول معرفة الرجل الذي ساعده الظرف التاريخي العالمي في تحقيق أحلامه، تصلح قصته أيضا أن تُقدَم مصاحبة بموسيقى أوركسترا عسكري مهيب، مماثلة للتي تصاحب أفلام الأبطال الخارقين عموما.
“ستان لي يقدم”.. نجم خارق يصنع جمهورا وفيا
حتى الآن يوجد حوالي 9 من بين 30 فيلما ضمن الأكثر ربحا في التاريخ تستخدم شخصيات منسوبة إلى “ستان لي”، ويعتبره الجمهور العالمي الرجل الذي ابتكر تلك الشخصيات، وقد حققت هذه الشخصيات هيمنة ثقافية واسعة يستحيل تجاهلها، وأصبحت أداة تأثير جيدة لمساعدة نماذج كانت مستهجنة من المجتمع، مثل الأقليات والمنطوين وغيرهم.
لم تكن الكتب المصورة تصل إلى عدد كبير من الناس في أمريكا الخمسينيات التي بدأ فيها “ستان لي” بشكل أساسي، بل كانت مخصصة للأطفال، وفيما بعد بدأت تتصدر جملةُ “ستان لي يقدم” كلَّ الصحف من خلال قصصه التي أصبحت تلفت أنظار الكبار والصغار معا، وتؤثر خيالات البطل الأوحد المنقذ للجميع، فظل الرجل مصدر إغراء لمحاولة معرفته شخصيا أكثر وأكثر.
راهنت الشركة في كل مرة على الجمهور ومدى تعلقه بشخصيات كرتونية معينة، لذلك كان تعلق الجمهور بالشخصيات هو الدافع وراء الاستثمار، أكثر من كونه إيمانا بالأفكار التي تقدمها كجزء من النظرة الرأسمالية للصناعة بشكل علني وخفي.
تعتمد الشركة في النهاية على تحقيق تلك المعادلة في كل مرة، وهي إنتاج أعمال شديدة التكلفة بسبب صناعتها في الأستديوهات المتخصصة، من أجل الحصول على مليارات الأرباح بعد عرضها للجمهور، تستثمر بشكل مباشر في أفكار عدد قليل من الرجال، بينما يبدو آلاف الموظفين داخل عملية ميكانيكية للإنتاج لا يمثل وجودهم من عدمه أهمية كبيرة فيها، فالإنتاج السينمائي في “ديزني” وعمالقة شركات الإنتاج المماثلة يأخذ تلك التراتبية التي تختلف جذريًا مع إنتاج النماذج المعتادة من السينما.
إله القصص المصورة.. رهان الشركات على الحصان الرابح
بدا “ستان لي” بخلاف سابقيه في كل مرحلة من شهرته يؤسس لاعتباره بطلا خارقا مثل هؤلاء الأبطال، أحيانا تصل إلى أن يصفه بعض متابعي عوالم القصص المصورة المخلصين بأنه “إله”، ساعده الظهور المتكرر والنجومية الطاغية، فيما يبدو في ترسيخ تلك الصورة عن المؤلف النجم المعروف بنظارته الشهيرة وابتسامته الدائمة بشكل ما أعادت شخصياته النوع الأدبي الذي كاد يندثر، جعلت عالم القصص المصورة ينهض مرة أخرى، وربما لذلك لا يخلو أي إعادة للتعريف بعوالم القصص المصورة دون التوقف أمام النماذج التي قدمها ستان لي في قصص مصورة اعتمدت عليها السينما فيما بعد.

أصبح الرجل الحصان الرابح دائما في رهانات الشركة، كما يعتبر السبب في استمرارها، بسبب المليارات التي حققتها الأفلام، بعد أن اعتمدت على شخصيات خلقها من وحي خياله، ليقدم من خلالها سينما موازية للسينما المعتادة بدرجة متطرفة جعلت البعض حتى الآن لا يعتبرها سينما من الأساس، بينما يعتبرها آخرون اللون الأنسب للإنتاج والترفيه على الإطلاق الذي يمكن أن يجني المليارات، حتى لو كانت النسبة الفنية في داخله قليلة جدا.
يسير فيلم “ستان لي” على خطين متوازيين من الأحداث، الأول حول السيرة الشخصية للرجل دون أي إضافة جديدة تذكر لأي متابع قديم، بالتوازي مع مراحل إنتاج قصص الأفلام الأشهر على الإطلاق، مع ظهور سريع لبعض نجومها، ويبدو أن هذا الخط أحيانًا لا يهتم بتقديم جديد عن السيرة الذاتية قدر إضفاء بعض المغامرة على الطريقة التي صعدت بها الشركة وصعد معها الأبطال الخارقون الأشهر من كل من سبقهم.
صناعة القصة المصورة.. إغراء يلاطف خيالات الطفولة
يحاول الكاتب “سكوت مكلاود” في كتابه “فهم الكوميكس” أن يشرح كيف يمكن صنع القصص المصورة، كخطوة مؤسسة لفهم عملية تحويلها إلى فيلم سينمائي معتمد عليها، وجعل نماذج شرحه مبنية على الكوميكس ذاتها؛ أي أنه شرح الكوميكس بكوميكس بسيط عمليًا يمكنه توصيل الفكرة، وربما كانت تلك المعادلة من أكثر النماذج نضجا في محاولة فهم كيف نصنع قصة مصوّرة من تلك القصص التي تعتمد عليها “ديزني” في صناعة أفلامها.
يعتمد الكاتب في كل قصة على نموذج بطل بعينه، تتتبّع القصة رحلته دون غيره، لتخلق تعلّقا مباشرا بهذا البطل الأسطوري، ثمة نقطة مفصلية في كل قصة تعتمد على ربط كل نماذج القصة بهذا البطل دون غيره، يتحرك كثيرا، قليل الكلام، تحرك الصور خيالات كل متلقٍّ وتسهّل العملية تماما، هكذا يتورط القارئ/ المشاهد في متابعة البطل الذي يملك قوة غير بشرية وحياة يمكن التعاطف معها بقدر بسيط من الصور التي تشحذ الخيال.
يبدو نموذج القصة المصوّرة الأكثر إغراءً لملاطفة خيالات الطفولة لدى الجميع، صورة غير بشرية تساعد على تقبل الأشياء غير المنطقية بشريا، تبدو القصص المكتوبة فأر تجارب أكثر أمانًا وأقل تكلفة للتجريب، لمعرفة مدى تعلّق الجمهور بالشخصية أو مدى نبذها.
كما أن تلك التجربة تجعل الاستثمار سينمائيا يحمل وجاهة نسبية، معتمدة على جماهيرية البطل التي اختُبرت في القصة المصورة، أغلب القصص العالمية التي اعتمدت على القصص المصورة كانت تعتمد على تلك النظرة في البداية.
قصص الخارقين.. عوالم من إلهام الأساطير الإغريقية
بدأت قصص الأبطال الخارقين من وحي إلهام الأساطير القديمة في مختلف العالم، فاعتمدت على الأسطورة الإغريقية في إعادة خلق قصص لشخصيات أسطورية يمكن أن يتقبل القارئ امتلاكها لقوة خارقة غير بشرية، ومع الوقت ظهرت أصوات أكثر عمقا في التعامل مع القصص المصورة، واستطاعوا صُنع عوالمهم الشخصية داخل تلك الأساطير.
فعلى سبيل المثال قدم “فرانك ميلر” عوالم ظلامية تماما بأبطال يحيطهم الفساد والشر الخارجي، أما “آلان مور” فقد قدم أبطالا لا يحملون في داخلهم سوى الفساد والشر بشكل مطلق، وبشكل عام ظهرت مساحات مختلفة قديمة وحديثة لإضفاء اختلافات على هذا النموذج الخارق غير البشري.
أما تجربة “ستان لي” فقد بدت مثالا حيا على التجريب، وسياقا تاريخيا لتطور شخصيات الرسوم المتحركة التي كانت موجودة قبله، وتعبيرا ممتازا عن الانتقال التاريخي في النظرة البشرية إلى عوالم الأبطال الخارقين، جمع فيها بين تقديم البطل الخارق القوي الذي لديه في الوقت ذاته الضعف البشري، وهو ما يجعله أكثر إنسانية وأقل عنفا، ويجعل التعلق به أكثر طمأنينة.
بدا ذلك مثاليا ومرغوبا في لحظة عنيفة من التاريخ البشري، فظهر البطل الخارق إنسانا قويا لديه مشاكله التي يتحملها، كما يساعد الآخرين على حل مشكلاتهم دون شكوى. طرح “ستان لي” هذه الأفكار في قصصه بعد الحرب العالمية الثانية، وكان الظرف التاريخي مناسبا تماما للاعتراف بالضعف البشري العام للمنتصر والمهزوم، ومحاولة إيجاد معنى للأشياء عموما بالبعد عن العنف قدر الإمكان.
لكن في السبعينيات وما تلاها قرر “ستان لي” وقف تطور الشخصيات التي ابتكرها، وكان ذلك قراره الأكثر وجاهة في تاريخه، فأصبحت القصص تعتمد على التعمق إنسانيا أكثر، وصناعة بطل لديه مشكلاته الإنسانية التي يمكن التعاطف معها.
فيلم ديزني يدرك جيدًا اللحظة التي ساعدت على انتشار أفكار ستان لي، لذلك لم تغفلها، بدا فقط أنها جاءت معتمدة على أفكار عامة تجاهلت خلالها التعمق أكثر في حياة الرجل الشخصية وثبّتت البوصلة على شخصياته وأسطوريته التي تدعم التعاطف مع تلك الشخصيات.
“صعود وسقوط ستان لي”.. كتاب يكشف المستور
كتب أشخاص كثيرون حول سيرة “ستان لي” الذاتية من وجهات نظر مختلفة، أحدها جاء تحت عنوان (Excelsior) أو “غير القابل للمقارنة”، ذلك الوصف الذي كان يحبه كثيرا، لم يقدم الكتاب المليء بالصور أي شيء خفي عن الرجل، شأنه شأن هذا الفيلم الوثائقي الحديث الذي أنتجته “ديزني”، بل كلاهما مساحة تجميلية كبيرة تضع الرجل في شكل أسطورة خارقة من الذكاء والهدوء والحكمة، وتنفي عنه أي مزاعم أو تكهنات بالاحتيال والسرقة الأدبية التي اتهمه بها آخرون، ولم تخرج منها أحكام واضحة.

أما كتاب “مؤمن حقيقي.. صعود وسقوط ستان لي”، فيتساءل مؤلفه “أبراهام ريسمان”: هل ابتكر “لي” بالفعل الشخصيات التي اكتسب شهرة في إنشائها؟ وهل كان متواطئا في عمليات احتيال بملايين الدولارات في حياته بعد مارفل؟
شكك المؤلف بأسئلته في الأسطورة التي حرّكت عجلة الإنتاج غير المنتهي في “ديزني” منذ عشرات السنوات، قصتان يوميا في الكتب المصورة، وفيلم أو أكثر سنويا دون حبكة تذكر، تنتجه الشركة اعتمادا على شهرة الشخصيات، مجرد تغيرات طفيفة تعتمد عليها في كل مرة لإنتاج أرباح أكثر، عملية ميكانيكية محضة لا تلتفت للعوامل الفنية أو الدرامية، قدر التفاتها للإبهار والإثارة في ذاتها.
تنقل صحيفة نيويوركر أن مؤلف الكتاب “أبراهام ريسمان” أجرى أكثر من 150 مقابلة، وحقق في آلاف الصفحات من الوثائق الخاصة، وكشف خلال ذلك أشياء لم تُنشر من قبل عن حياة “لي” وعمله، وكانت أكثر قربا من الرجل وسيرته والسياق التاريخي الذي ساعد على تنجيمه.
ينقل الكتاب تفاصيل أكثر عن أشياء يمر عليها الفيلم سريعا، منها أن أغلب شركاء “ستان لي” الذين كانت لهم أهمية مماثلة في صعود قصصه وشهرتها “كتبوا استقالتهم”، ربما نتيجة تجاهل مجهودهم في مقابل تنجيمه. القصة المصورة في نهاية المطاف تحتاج إلى فكرة الكاتب كما تحتاج إلى رسام، وإلى سيناريوهات مختلفة للقصص، ولو كُتب لها تحويلها سينمائيا فإنها تُحسب لهؤلاء، لا إلى “ستان” الذي قدم الفكرة الأولى فقط، لكن “ستان” يرى عكس ذلك، ويكرر في الفيلم أكثر من مرة أن الفكرة الأولى للشخصية هي الأهم.
“ستان لي”.. فيلم يرسم أسطورة أقرب إلى الخيال
وُلد “ستان لي” في أول العشرينيات لمهاجرين يهود رومانيين في مانهاتن، وكان والده عاطلا عن العمل أغلب الوقت، ووالدته بائعة في أحد المتاجر، وكان طموحه الأكبر أن يحصل على وظيفة ثابتة يتفادى بها مصير أبيه التعس، فعمل ساعيا بسيطا في شركة “تايملي” التي سميت “ديزني” لاحقا، وكان يعمل فيها عمه.
لم يزل “ستان لي” كذلك إلى أن جاءته الفرصة لكتابة قصة “كابتن أمريكا يحبط انتقام الخائن” (Captain America Foils the Traitor’s Revenge)، وهي أول قصة تحمل اسمه، وقد ظل موظفا أو متعاقدا مع الشركة بشكل ما لبقية حياته، متجاهلا مصير أبيه فعلا ومعتبرا ذلك عمل خارق.
وقد أصبح من خلال مسيرته أحد أشهر الفنانين المحبوبين الذين ظهروا في القرن العشرين، وشغل منصب رئيس تحرير “مارفل كوميكس” لمدة ثلاثة عقود، وساعدت براعته التسويقية الكرنفالية في إنقاذ صناعة الكتاب الهزلي وخيال الأبطال الخارقين.
صنعت “ديزني” في الفيلم أسطورة أقرب للخيال من الواقع، فعززت السحر والهالة حوله، ولم تقترب من أي شيء يمكن أن يسيء إليه/ إليها، بل صممت عالما جميلا سيستمر في قصص مختلفة بعد رحيله، وربما إلى الأبد.
أفلام الأبطال الخارقين على مر التاريخ كانت تهويدة حالمة للخيال، لا تلتفت إلى التفاصيل الدرامية كثيرا، بل يشغلها الشكل العام الذي تدعمه الإثارة والحركة في ذاتها، سرد يعيد ذاته إلى الأبد لصناعة جمهور حالم تماما، مثل هؤلاء الذين طلبوا أن تنقذهم شخصيات “مارفل” الأقرب للإنسان من أعداء أمريكا.