“لإنهاء كل الحروب”.. وثائق وشهادات ترسم حياة أبي القنبلة الذرية

يتزامن عرض الوثائقي الأمريكي “لإنهاء كل الحروب.. أوبنهايمر والقنبلة الذرية” (To End All War: Oppenheimer & the Atomic Bomb) مع عرض الفيلم الروائي “أوبنهايمر” (Oppenheimer) للمخرج “كريستوفر نولان”، الذي حظي بشعبية كبيرة وأثار نقاشا حول دور شخصيته الرئيسية في صنع أخطر سلاح يهدد الوجود البشري بأكمله.
اعتمد الفيلم الروائي على مراجع تاريخية كثيرة، لكنها تبقى أقل بكثير من تلك التي اعتمدها الوثائقي، وإلى جانبها عزّز متنه بتسجيلات فيلمية وشهادات شخصية ومقابلات حية مع شخصيات مهمة كانت قريبة من عالِم الفيزياء الذي لُقب “أبو القنبلة”، لاختراعه القنبلة الذرية التي أسقطتها الطائرات الأمريكية فوق اليابان، وعلى إثرها أعلنت استسلامها غير المشروط.
شخصيات الفيلم.. شهادات حول رجل غامض ملتبس
يكمن التميّز الأهم في الوثائقي في تركيز صانعه “كريستوفر كاسيل” على تحليل شخصية “أوبنهايمر”، والإحاطة الواسعة بالجوانب النفسية والاجتماعية التي أثرت على تكوينه منذ طفولته، وصولا إلى اللحظة التي شعر بها بأن اختراعه قد فتح أبواب الجحيم النووي، ولم يعد ممكنا إغلاقه، على عكس ما تصوره أثناء انكبابه خلال الحرب العالمية الثانية على صنع القنبلة التي أراد أن تكون قوتها الرهيبة رادعة ومانعة لنشوب أي حرب كونية بعدها.
يستهل الوثائقي مسيرته بآراء متفرقة لعلماء وشخصيات عرفته عن قرب، تحاول كلها الربط بين الشخصية الإشكالية التي يجمع كثيرون على أنها غامضة وملتبسة، وبين العالِم المرموق والعبقري الذي توصل إلى اختراع جهنمي.
لترتيبها في نسق سينمائي يقسمها صانع الوثائقي إلى مراحل، تتداخل مع بعضها كما في الحياة الواقعية، حيث التواريخ والأحداث تتشابك فيما بينها لدرجة يصعب فرزها بالكامل، لهذا يذهب بعد المستهل الرائع لعرض جوانب من طفولته (ولد في العام 1904 في مدينة نيويورك الأمريكية) ونشأته ومعرفة العوامل التي أثرت فيها، وستؤثر على مسيرته العلمية والسياسية لاحقا.
آثار النشأة.. طفولة قاسية معزولة في بيت يهودي
يعرض الوثائقي صورا من أرشيفه العائلي تبين الجو الذي تربى فيه، في كنف أب يهودي هاجر من ألمانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعمل في حقل صناعة النسيج التي أغدقت عليه الكثير من الأموال، فأضحى رجلا غنيا.
أما والدته فكانت فنانة تشكيلية أقامت عددا من المعارض الفنية في باريس وغيرها من العواصم، وعلى الرغم من ميلها للفن، فقد كانت محافظة وصارمة في تربيتها لولدها، ومنعت عليه الاختلاط بأقرانه، وأبقته طيلة الوقت في البيت لا يبرحه.
وقد ترك ذلك أثرا على سلوكه وسوء تعامله مع الآخرين، وظهر جليا خلال الرحلات المدرسية التي كان يواجه فيها تنمرا من بقية الطلبة لحساسيته الشديدة وارتباك سلوكه. يصف بنفسه اللحظة التي أجبره فيها الطلبة على المكوث وحيدا في ركن مظلم مهجور وقتا طويلا، وأنه تقبل الأمر من دون احتجاج، وستترك طفولته المنغلقة أثرها على سلوكه في مراحل شبابه، ودراسته الجامعية في كامبريدج عام 1925، فقد تعرض خلالها لانهيار عصبي جراء إخفاقه في تحقيق ما كان يصبو إليه بنجاح، ودفعه للتفكير بالانتحار.
وتصفه وثائق الطبيب النفسي الذي عالجه بأنه شاب انطوائي يعيش عالمه الخاص، فقد دفعته عزلته للبحث النظري، وأوصلته إلى دراسة “الفيزياء النظرية والكمية”، وهو الحقل الحيوي الذي سيذهب من أجله إلى ألمانيا، ليكون واحدا من طلبة عالِم الفيزياء النظرية “ماكس بورون”.

وفي ألمانيا وجد “أوبنهايمر” ذاته، واستعاد عافيته العاطفية وثقته بنفسه، وابتكر لنفسه شخصية “أوبي” العبثية المتأثرة بعوالم المغني الشهير “بوب ديلان”.
صناعة القنبلة.. شخصية متكتمة على رأس المشروع النووي
ارتباطا باختصاصه العلمي ينتقل الوثائقي لعرض الفترة التي دخلت فيها الولايات المتحدة طرفا في الحرب العالمية الثانية، وإعلانها -بعد مهاجمة الطائرات اليابانية لميناء “بيرل هاربر”- الوقوف إلى جانب الحلفاء ضدها وضد النازية، والعمل بأسرع وقت لصناعة قنبلة ذرية، بعد توارد معلومات تؤكد اقتراب العلماء الألمان من الوصول إلى المراحل النهائية من صناعتها.
نشأته اليهودية وخوفه من انتصار “هتلر” في الحرب، دفع عالِم الفيزياء “أوبنهايمر” للمشاركة في المشروع الأمريكي السري لصناعة القنبلة الذرية، وقبل إكمال الألمان لمشروعهم الذي كان يمهد لسيطرة “هتلر” على العالم بأسره، ويهدد بزوال الوجود البشري في حالة نجاحه.
ينقل الوثائقي كيف اختير “أوبنهايمر” لإدارة المشروع السري الذي أشرف عليه الجيش الأمريكي، وأطلق عليه اسم “منطقة مانهاتن للتصنيع”، وأوكلت مهمة الإشراف على تنفيذه للضابط “ليزلي ريتشارد غروفز”. ومن بين أعظم العقول العلمية في الجامعات الألمانية الذين التفوا حول عالم الفيزياء “ألبرت إينشتاين” والتحقوا به في الولايات المتحدة الأمريكية، يختار الضابطُ “غروفز” العالِمَ الأمريكي “أوبنهايمر” ليكون قائدا للفريق، إذ يلاحظ الضابط خصالا فيه لا تتوفر عند آخرين غيره، وبينهم من هو أكثر علما منه.

تلك الخصال الشخصية يلخصها بقدرته على شرح المفاهيم وجمع آلاف التفاصيل في نقطة واحدة، إلى جانب شخصيته الغامضة المثيرة للإعجاب، وأسلوبه السلس في كسب ود العاملين معه، على الرغم من تكتمه أمامهم عن فحوى المشروع المشاركين فيه، والاكتفاء بالإشارة إلى كونه مشروعا لو كتب له النجاح، فإنه سوف يوقف الحرب العالمية الجارية، ويمنع نشوب كل الحروب في المستقبل.
“كيتي بونينغ”.. عالِمة أحياء في منزل الرجل الغامض
لتحقيق رؤيته يختار “أوبنهايمر” منطقة لوس ألاموس في ولاية نيو مكسيكو، لتكون القاعدة السرية التي سينطلق منها مشروع صناعة القنبلة.
ينتقل “أوبنهايمر” مع زوجته “كيتي بونينغ” إلى منطقة لوس ألاموس، ويجد فيها الوثائقي فرصة لعرض جانبا من حياته العائلية، وعلاقته بزوجته عالمة الأحياء التي وقع في حبها مطلع عام 1940، ويصفها مقربون منهما بأنها كانت “صعبة” بسبب غموض شخصيته، ولإفراط الزوجة في تناول المشروبات الكحولية.
في هذا المكان السري المعزول عاش ابنه وابنته معهما أيضا، وعاش صعوبات وإخفاقات عملية قبل تحقيق النجاح، وأثيرت حوله شكوك أمنية وتشكيك بولائه لوطنه أمريكا، بسبب تاريخه السياسي الذي بدأ مع تعارفه على شابة شيوعية تدعى “جين تاتلوك”.
هوى الشيوعية.. تبرعات مالية وقصة حب مريبة
برز بعض ميول “أوبنهايمر” الشيوعية خلال تدريسه في جامعة كاليفورنيا بيركلي في ثلاثينيات القرن المنصرم، بعد اكتشافه أن بعض طلابه ينامون جياعا، وأن عوائلهم تعاني من فقر مدقع، لهذا تحمس للفكر الشيوعي، مع أنه لا يوجد ما يثبت انضمامه رسميا لصفوف الحزب، لكنه كما يعرض الوثائقي شارك بنشاط في جمع التبرعات المالية له.

يعرض الفيلم الظروف السياسية الدولية في تلك المرحلة التي قدمت فيها الشيوعية السوفياتية نفسها حاملةً للواء المساواة والعدالة الاجتماعية، كما أنها كانت حليفا للمناهضين للنازية خلال الحرب العالمية الثانية، لهذا لم يجد “أوبنهايمر” أي خطأ في التعاطف مع الأفكار الشيوعية وقتها، كما أنه كان يجهل مراقبة مكتب التحقيقات الفيدرالية لكل تحركاته خلال إشرافه على المشروع، وتتبعهم له خلال زيارته لمنزل عشيقته “جين”.
بعد أيام من آخر زيارة لها يصله خبر انتحارها بطريقة مريبة تثير شكوكا حول تورط المخابرات الأمريكية بقتلها، خوفا من حصولها على معلومات عن المشروع منه، ومن احتمال توصيلها إلى المخابرات السوفيتية.
ناغازاكي وهيروشيما.. سُحب ذرية تدمر مدائن اليابان
بانتحار “هتلر” وهزيمة النازية يخف خطر احتمال توصل الألمان إلى صنع قنبلة ذرية، لكن الخوف من استمرار الحرب في اليابان، وموت آلاف الجنود الأمريكيين في المعارك الدائرة في جزرها المتناثرة؛ يدفع الرئيس الأمريكي “هاري ترومان” الذي تولى الحكم بعد وفاة الرئيس “روزفلت” إلى تسريع عملية صنع القنبلة وتجريبها عمليا ضد اليابانيين، لأنه لم يرد هزيمتهم فحسب، بل أراد أن يستسلموا له بالكامل ومن دون شروط.
لقد أراد التأكد من حصوله على القنبلة قبل قمة “بوتسدام” التي تجمعه في ألمانيا مع الزعيم البريطاني “تشرتشل” والسوفياتي “ستالين”. ويكرس الوثائقي وقتا طويلا لشرح عمليات تصنيع القنبلة والتجارب المتواصلة عليها، وكيف اتُّخذ قرار إسقاطها على مدينتي ناغازاكي وهيروشيما.
بعدما رؤية الصور المنقولة عن الانفجار الهائل والدمار البشري الذي لحق بالمدنيين اليابانيين جراءه يصاب “أوبنهايمر” بصدمة قوية، ويُلازمه إحساس قوي بالذنب، لأنه رفض الخيارات البديلة التي قدمها علماء آخرون عارضوا تطبيقها على المدن المأهولة، لكنه أصر على موقفه، وحدّد بنفسه المناطق التي يُراد إسقاط قنبلته فوقها، منطلقا من قناعة أن الدمار الهائل والفعلي وحده قادر على ردع كل من يفكر بشن حرب أخرى في المستقبل.
يقظة الضمير.. إحساس بالذنب بعد فوات الأوان
يتوقف كثير من المشاركين عند تلك اللحظة التي بدا فيها التناقض واضحا بين الإنسان الوديع الذي كان عليه، وبين طموحه في أن يقترن النصر النووي باسمه. ندمه الشديد على الضحايا لن يغفر له حماسته لتجربتها على الأبرياء، ولا لمنجزه العلمي الذي فتح بابا نوويا مخيفا لن يُغلق أبدا.
لقد تغيّر العالم ولم يعد بعد القنبلة كما كان عليه من قبل، ومساعيه الأخلاقية التي شرع بنشرها بعد الانفجار، وتحوّله إلى شخص حزين يغمره الإحساس بالذنب لم تساعده كثيرا، بل زادت من تعقيدات حياته، وأضفت عليها بُعدا تراجيديا، فالسياسة والأخلاق لا يجتمعان عند الإدارة الأمريكية، بل إنها أخذت تفكر بتوسيع نجاحاتها العسكرية، لصنع قنابل أكثر فتكا من القنبلة الذرية نفسها.

يتحمس الرئيس “ترومان” لمشروع صنع القنبلة الهيدروجينية، وأُوكلت مهمة إنجازها لعالِم ناصب العداء لـ”أوبنهايمر”، وأراد تصفية خلافاته معه، مستغلا موجة المكارثية (نسبة إلى النائب جوزيف مكارثي) التي وضعت هدفا مركزيا لها يتمثل في تصفية كل ما له صلة بالشيوعية، وبأبشع الأساليب.
دعوات السلام.. بداية الجلسات التي أدانت أبا القنبلة النووية
راح “أوبنهايمر” يدعو إلى تعاون البشرية من أجل وقف سباق التسلح النووي، لكن المخابرات الأمريكية والبيت الأبيض لم ترق لهما دعواته، فقررا تنحيته من عمله وسحب الحماية الأمنية منه. لقد خيّروه بين القبول بالقرار أو حضور جلسات الاستماع الأمنية، فاختار المواجهة وحضور الجلسات، ولم يأخذ بنصيحه صديقه “أينشتاين” له بترك الأمر، لأن المواجهة ستنتهي بخسارته.
تنتهي جلسات الاستماع بإدانته بتهمة العمل في فترة شبابه مع الحزب الشيوعي، والانحياز إلى المواقف السوفياتية وقتها، وهي تُهم لم تثبت صحتها، ومع ذلك فإنه وجد نفسه بعدها معزولا خائفا، لا يقوى على الإفصاح عن آرائه السياسية.
دام هذا الحال حتى وفاته عام 1967 بمرض السرطان، لكن في العام 2020 أُعيد بعض الاعتبار إليه، من خلال قرار اتخذته وزارة الطاقة الأمريكية، ألغت بموجبه كل قرارات جلسات الاستماع الأمنية التي أدانته في زمن شاعت فيه ممارسات المكارثية الأمريكية بأبشع الصور.