“بيرم التونسي”.. متمرد يزرع الثورة والشعر والفن بين الأوطان والمنافي
عاش الشاعر محمود بيرم التونسي (1893-1961) حياة متقلبة بين بؤس ومجد ونكران واعتراف ونفي وتكريم وعطالة وإبداع وتمرد وخنوع. وكلّ عمل يحاول أن يوثّق مسيرته الثّرية هو عمل مغامر بلا ريب.
ولكن المخرج مختار العجيمي قرّر أن يخوض التّجربة في فيلم وثائقي أنتجته الجزيرة الوثائقية، فحاول أن يقتفي أثر الشاعر، بداية من نشأته في أزقة الإسكندرية إلى حياة “السياحة” -كما يقول هو- في شوارع تونس ومرسيليا وليون الفرنسيتين حيث عاش تجربة النفي، إلى العودة للحياة القاهرية وفرض سلطانه على الساحة الثقافية المصرية، فرصد الكثير من الوجع الذي ارتبط بحياة قُلّب، تختزلها قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:
الأولـه آه والثانية آه والثالثة آه..
الأولـه مـصـر.. قالوا تونسي ونفوني
والثانية تونس.. وفيها الأهل جحدوني
والثالثة باريس.. وفي باريس جهلوني وأنا “موليير” في زماني
بيرم التونسي في حي السيالة.. عودة إلى مربع صبا الشاعر الثائر
يأخذنا الفيلم إلى حي السيالة بالإسكندرية، وهي مربع صبا الشاعر، وكان جده قد آثر الاستقرار بالمدينة لمّا مرّ بها في طريقه من الحجاز، بعد أداء فريضة الحج، بدلا من مواصلة رحلته إلى تونس.
وهناك يلتقي مع رفاق طفولته في شارع أصبح يحمل اسمه، ليجمع
من شهاداتهم تفاصيل من صباه وشبابه، فندرك أنه كان يعيش الحياة الشعبية في عمقها، فجليسه الدائم هو بائع خضراوات في شارع السيدة زينب، فهناك كان يلتقط نبض الشارع ويحوّله إلى أزجال.
وأما ملاذه حين يحتاج شيئا من المال، فركن بالمقهى فيه يؤلف شيئا من الأزجال بحسب الطّلب، لينفق من ريعها القليل، ولكنّنا ندرك أنّ الرجل سليل ذلك الحي الثقافي الثري الذي يغرس في المرء الإبداع والتّمرّد؛ ففي هذا الحي قد عاش الشاعر والزجال وخطيب الثورة عبد الله النديم، وكانت له فيها صلات بفنان الشعب سيد درويش.
بيرم التونسي.. أسرار اللهجة المصرية
تتفق شهادات المخرجين محمود علي فهمي وعمر عبد العزيز والأدباء يسري العزب ومحفوظ عبد الرحمن وجمال الغيطاني وغيرهم ممن التقتهم كاميرا مختار العجيمي؛ على أن موهبة محمود بيرم استثنائية وشخصيته فريدة، فقد استطاع أن يصنع من حياة البسطاء وتفاصيلها المبتذلة مواضيع شعرية في غاية الروعة.
وقد نفذ عبرها إلى أسرار اللهجة المصرية وغاص في طبقاتها العميقة، ولكنه لم يكن شاعرا بقدر ما كان ثائرا يخوض المعارك السياسية والاجتماعية بضراوة، وفق تقدير النّاقد بشير عيّاد، فقد كان يهدف من وراء شعره إلى دفع البسطاء المكبّلين للتحرّر من قيود الاحتلال الخارجي وحلفائه الدّاخليين.
وقد تجاوز ذلك كله، حتى أصبح صاحب مدرسة فنّية، فترك بصمته الخاصة زجلا وشعرا غنائيا وقصة ومسرحا، وجعل سمتها التناول الفني السّهل الممتنع الذي يوصل المعنى إلى الإنسان البسيط، دون أن يفقده عمقه.
“المجلس البلدي”.. قصيدة بيرم التونسي الساخرة التي فتحت أبواب الشهرة
بدأت شهرة بيرم إثر نشره لقصيدة “المجلس البلدي” (1919)، وكان قد ورث عن أبيه محلاّ لبيع البقالة والمواد الغذائية، ولكن المجلس البلدي كان يهيمن عليه المحتلّ الإنجليزي، ففرض عليه ضرائب ثقيلة لا قبل له بها. فكتب في هجائه القصيدة التي مطلعها:
قد أوقع القلب في الأشجان والكمد
هوى حبيب يُسمى المجلس البلدي
أمشي وأكتم أنفاسي مخافة أن
يعدها عاملٌ للمجلس البلدي
وقد عرض فيها صورا مبتكرة تبرز وقْع المكوس الظالمة على البائسين، منها قوله:
أخشى الزواجَ إذا يومُ الزفافِ أتى
أن ينبري لعروسي المجلسُ البلدي
وربَّما وهبَ الرحمنُ لي وَلدا
في بطنها يَدَّعيه المجلس البلدي
وإن أقمتُ صلاتي قلتُ مُفتَتِحا
الله أكبر باسم المجلس البلدي
أستغفرُ الله حتى في الصلاة غدت
عبادتي نصفُها للمجلس البلدي
يا بائعَ الفجلِ بالملِّيم واحدة
كم للعيال وكم للمجلس البلدي؟
فكان لهذه القصيدة وقع في سياق سياسي متأهب للثورة والتمرّد، فرسمت الملامح الأولى لشاعر جريء ساخر سيهب قلمه وقريحته للتحريض ضدّ الظلم والاحتلال، وسيجد فيه عامة النّاس صدى لأصواتهم المكتومة.
بيرم التونسي.. نقد لاذع يمس أعراض نساء الملك
اتّخذ صراع محمود بيرم التونسي مع السلطة طابعا عنيفا، ويبدو أنه لم يكن يفصل كثيرا بين نقد السّياسات العامّة للملك فؤاد واقتحام الحياة الخاصّة لعائلته، فكتب أزجالا ماسّة بالأعراض، وطالت جرأته الأميرة فايقة أوّلا، فلمّح إلى علاقتها الغراميّة بمحافظ القاهرة في قصيدته “القرع السلطاني” التي ذهب فيها بعيدا جدا في القذف بالكناية والإيحاء، ويقول في مطلعها:
البنت ماشية من زمان تتمخطَر
والغفلة زارعَة في الديوان قرع أخضر
ثم طالت جرأته الزوجة الثانية الملكة نازلي، فلمّح إلى زواجها منه وهي حامل، وكان يستفيد من حذر الإنجليز وعدم رغبتهم في إثارة حفيظة الفرنسيين، نظرا لجنسيته التونسية وتابعيته للحامي الفرنسي، ولكن بعد أن طفح الكيل نُفي إلى تونس إثر ترتيبات مع هذا الحامي.
حاول محمود بيرم الاتصال بأسرته في تونس، ولكنها أنكرته ولم تحسن وفادته، ويبدو أنهم فعلوا ذلك خشية أن يطالب بميراث جده الذي استقرّ بالإسكندرية في طريق عودته من الحج كما أسلفنا.
أيام مصنع الخمور.. غربة ثقافية في المنفى الفرنسي
وجد محمود بيرم شظفا في العيش بتونس، بسبب أزمة اقتصادية حادة كانت تعيشها البلاد، فرحل إلى مدينة مرسيليا الفرنسية، وطاف ببعض المدن الفرنسية، ولكنه كان مكبّلا بأكثر من قيد، فمع أنه كان يستطيع أن يتحرك في التراب الفرنسي بكل حرية، فقد كان في بطاقة هويته ما يشير إلى أنه منفي، مما عسّر اندماجه في سوق الشغل.
وكان أيضا يفتقر إلى اللسان الفرنسي، مما جعله عاجزا عن الانخراط في الحياة الثقافية مجال تميّزه، فاقتصرت صلته بالثقافة في فرنسا على العمل أسابيع في حمل الكتب بمطبعة “هاشيت” (Hachette)، قبل أن يُفصل من عمله بها.
أجبر محمود بيرم التونسي في منفاه الفرنسي على العمل حمّالا وعاملا في مصنع الخمور، فعانى ألوانا من ذل الحاجة والغربة والبطالة، وممّا فاقم وضعيته أنه كان مضطرا إلى أن يرسل من دخله الشحيح ما به يعيل أسرته في الإسكندرية، ولكن هذه الحياة الصّعبة مثلت حافزا ليكتب أثره “مذكرات المنفى”، وليدوّن معاناته هناك.
بيرم التونسي.. عودة في ثياب الصحافة إلى تونس
في مرحلة لاحقة من حياته الفرنسية، استطاع محمود بيرم التونسي عقد صلات ببعض المغتربين العرب، خوّل له بعضها أن يُستقدم إلى تونس سنة 1932، ليشرف على جريدة “الزمان” التي كانت تنخرط في الصراع السياسي، وكانت تمثل ذراعا إعلامية لبعض أعيان البلاد المقربين من نظام الحماية.
وبسبب لسانه السليط، لم تعمّر إدارته لها طويلا، ولكنها جعلته ينخرط في الحياة الثقافية المتوهّجة حينها، فقد تزامنت عودته إلى تونس مع نهضة أدبية وصحفية كانت تعيشها البلاد في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، فكانت الفضاء المناسب الذي سيحتضنه، وكان هو المبدع الذي سيقودها ويؤثّر فيها عميقا.
في تونس استطاع بيرم تحويل جريدة “الزّمان” التي تولى رئاسة تحريرها ما بين 1933-1935، إلى منبر مؤثر وضمن لها الانتشار الواسع، وتذكر المصادر المختلفة ما أضاف إليها من الفقرات والأبواب، وما منحها من أسلوبه السّاخر ومعرفته العميقة بعالم الصحافة.
ولكن هذه التجربة كانت محكومة بالفشل، فمحمود بيرم التونسي يحمل روحا متمرّدة رافضة للخنوع، منتصرة للحرية محرضة ضد المستعمر، أما محمد شنيق صاحب الصحيفة، فكان أميل إلى مهادنة السلطات المحلية وسلطات الحماية، لذلك سريعا ما فشل بيرم في اختبار الحياد، خاصّة أن السياق بدأ يميل إلى المواجهة الفكرية والسياسية مع المستعمر.
وبعد تركه لجريدة “الزمان” وانخراطه مع “جماعة تحت السور”، وهو مجلس أدبي في أحد المقاهي يضمّ الشعراء والمثقفين والفنانين الهامشيين، أصدر بيرم جريدة “الشباب”، وشارك في تحرير جريدتي “السرور”، و”السردوك”.
معارك السياسة.. تذكرة بيرم التونسي للرحيل إلى سوريا والسنغال
من خلال المنابر التي أتيحت له في تونس، أحدث محمود بيرم التونسي ثورة في الصحافة التونسية، فاستقطب الرّسامين ودفعهم نحو فنّ الكاريكاتور الذي لم يكن دارجا في الصّحافة التّونسية، ومنح الكثير من روحه وإبداعه لعلي الدّوعاجي، أحد أهم كتّاب الأقصوصة في الأدب العربي.
أما هو، فقد انخرط في المعارك السياسية مهاجما السلطة الاستعمارية وحلفاءها المحليين، معولا على أسلوبه الساخر المقذع، واستعاد شيئا من بيرم المتنطع الذي كان في الإسكندرية زمانا، وظهرت شخصيته الصدامية المندفعة من جديد، حتى صدر قرار إبعاده عن تونس في أبريل/ نيسان 1937، مع أنه كان يحظى بمساندة من الوطنيين، فاختار سوريا منفى له.
ومع أن المعلومات حول حياته الشامية شحيحة، فيبدو أنه أصبح يتواصل مع أصدقائه في مصر، مما أزعج السلطات المصرية، فتدخلت لدى الفرنسيين الذين يفرضون حمايتهم على سوريا، لترحيله من جديد.
ثم وجد في السنغال منفى مثاليا له، فلعلّ تبايناته الثقافية واللغوية عن الثقافة الأفريقية جنوب الصحراء أن تضم روحه الثائرة وتحول دون انخراطه في الصراع السياسي والاجتماعي، ولكن حين توقفت به الباخرة للتزود بالمؤن والوقود في ميناء بور سعيد، فر منها وتسلل إلى الأراضي المصرية بعد 18 سنة من المنفى.
بيرم التونسي: “ما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال”
في مصر عاش محمود بيرم متخفيا زمنا، فكتب في الأهرام بوساطة من كامل الشناوي خطابا يستعطف فيه الملك فاروق وريث العرش، فأُذن بتجاهل وجوده في مصر نظير مدح يكتبه فيه.
ويبدو أنّ روح المتمرّد فيه قد خبت، وأنّ المنفي تعب من السياسة ومن السياحة وذل الترحال وقد جاوز الأربعينمن العمر، فاستغل فرصة عيد ميلاد الملك ليعوّض له عن هجائه لوالده، وليعوّض لابنته عن إساءته لنساء الأسرة، فمدحه بزجل من أربعة أبيات، ثم كتب أغنية لابنته الأميرة فريال فاروق بعنوان “ورد فريال”، وغنتها نجاة الصغيرة وكانت حينها ما تزال طفلة. وكأنه يقول على لسان أحمد شوقي:
مـا أقـصر العمر حتى
نـضـيـعـه فـي النـضال
لقد مثّل رضوخه سقطة سيذكرها أعداؤه طويلا، أما هو فسينخرط في الحياة الثقافية والفنية بلهفة، وسيكون من أبرز الخائضين فيها، حتى إنّ أم كلثوم سألت بنفسها عن “صاحب القرع السلطاني”، ليمنح طربها نبضا جديدا.
نجم الحياة الثقافية.. قصائد تحول مسار الأغنية الشعبية
استطاع محمود بيرم التونسي أن يحول كلمات أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب من القصائد الكلاسيكية التي تستقطب الطبقة الأرستقراطية والنّخب، إلى الزجل وصخب الحياة العفوية وتلقائيتها مثل أغنية “ما أحلاها عيشة الفلاح”، التي تزاوج الأغنية بين الروح الشّعبية التونسية والمصرية، ويقول فيها:
ما أحلاها عيشة الفلاح
متطمن قلبو مرتاح
يتمرغ على أرض براح
والخيمة الزرقا ساتراه
وسيكتب المسرحية والسيناريو والأوبرا، وسيصبح عنوانا للنجومية المطلقة، حتى أنّ اسمه سيدَوّن مباشرة بعد اسم أم كلثوم في فيلم “سلامة” (1945)، لجذب المتفرّجين إلى شباك التذاكر.
ومثلما انضم بيرم في تونس إلى “جماعة تحت السور”، سينضم في مصر إلى مجلس “أهل الهوى” الذي يشترط أن يعاني روّاده من عشق مّا، عشق امرأة أو وطن أو قضية، وكانت مصر عشق محمود بيرم التونسي، وستجود عليه بوصلها أخيرا حين تمنحه جنسيتها سنة 1954، بعد ثورة “الضباط الأحرار” التي باركها وكتب الأزجال مرحّبا بها.
وبسبب ذلك، أصبح بيرم واحدا من الأعلام الذين صنعوا التقاطعات الكثيرة بين الثّقافة التونسية والثقافة المصرية، مثل العلامة عبد الرحمن بن خلدون الذي وُلد في تونس وتعلّم فيها، ثم ارتحل إلى مصر في كهولته، ولا تزال الثقافتان تتنازعان انتسابهما وانتساب محمود بيرم التونسي إلى اليوم.
“القلب يعشق كل جميل”.. تكريم ووفاء لبيرم التونسي
حاول فيلمنا الوثائقي أن يثري خطابه البصري برسومات عدة تحاكي حياة محمود بيرم التونسي في فرنسا، بسبب انعدام الصور الفوتوغرافية التي توثق لهذه المرحلة، كما عرض مواد أرشيفية لمشاهد من الإسكندرية وتونس وفرنسا، لتقديم الفضاء الذي عاش فيه محمود بيرم التونسي، فكانت قيمتها مضاعفة، إذ كشفت لنا في المستوى الثاني واقع هذه المدن في بداية القرن الماضي.
فضلا عن ذلك، اعتمد المخرج مشاهد تمثيلية لتجسيد مراحل من حياة بطله، وكانت غالبا عميقة البعد التعبيري.
وفي 1961، توفي محمود بيرم التونسي وقد بلغ 64 عاما، مخلّفا رصيدا فنّيا هائلا وتأثيرا بالغا، وبعد عشر سنوات من وفاته كرّمته أم كلثوم بالأغنية الرّوحية “القلب يعشق كل جميل” عام 1971، فكانت آخر ما غنّت من شعره، فكان ذلك الجميل الذي عشقته القلوب، أو كان “فنان الغلابة” الذي يعيش متمنّيا حبة عنب، وعند موته يُهدى العناقيد الكثيرة، كما يقول تلميذه علي الدّوعاجي.