ميشيل خليفي.. وعي سينمائي يخلد ذاكرة الحياة الفلسطينية

وُلد المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي عام 1950، ونشأ مثل أبناء جيله والشعب الفلسطيني في ظرف غير طبيعي تاريخيا. وتأتي ذكرى الميلاد ومعها بداية الوعي بالآخر، فقبل أن يكتسب الفرد وعيه بذاته، هناك محطة الوعي بالآخر الذي يبدأ من الأهل، ومن المجتمع والأرض، ثم ينفتح الوعي على العالم.

في حالة خليفي، صاحب الميلاد فقد محطة الوعي الأولى، فذكرى النكبة في 1948 ما زالت مرارتها حيوية، ونوعية الوعي الحاضر توفر النشوء على الشتات بدلا من الجماعة، وتدبير العيش على أرض منزوعة بدلا من التعاطي مع المنشأ.

ولذلك فإن الذكرى الأولى عن مدينة الناصرة التي نشأ بها، كانت “بمثابة غيتو في قلب الجليل تحت الحكم الإسرائيلي”.

المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي

حتى رحيله إلى بلجيكا لدراسة السينما في 1970، كانت السينما الهاجس الذي منحه أسئلة معرفة عن حياته بوصفه فلسطينيا، وعن مسؤوليته تجاه مجتمعه.

يقول في مقاله المنشور في كتاب “أحلام وطن: عن السينما الفلسطينية”: كيف يمكننا إنشاء ثقافة قادرة على الحفاظ بنفسها على أصالتها وخصوصيتها، وأن تظل في الوقت نفسه عالمية؟ كيف يمكننا إنشاء سينما قادرة على أن تحمل التجربة الإنسانية الفلسطينية، عموديا تاريخيا، وأفقيا على أساس الواقع اليومي المعاش للناس؟ هل هناك حقا ثقافة للفقراء؟ وإن كانت الإجابة نعم، كيف نحميها؟

بعد انتهاء دراسته في بلجيكا، عمل خليفي مساعد مخرج مسرحي في فرنسا، وقدّم في بلجيكا عدة تحقيقات بصرية عن فلسطين والحرب في جنوب لبنان، وقد بدأ مسيرته السينمائية مخرجا بفيلم “الذاكرة الخصبة” في 1980.

سينما فلسطين.. احتجاب تحت وطأة الاحتلال

قبل القفزة الريادية والطليعية التي حققتها أفلام ميشيل خليفي، كانت السينما الفلسطينية تقوم على احتجاب تاريخي تحت وطأة الاحتلال، وحضور جغرافي غائب بسبب تزايد انتزاع القرى والأراضي الفلسطينية بالقوة.

لذلك فإن وجود سينما فلسطينية في خضم هذا التراجع الاجتماعي، بدا إشكالية تحوّل القضية الفلسطينية من واقع يحتاج تغييرا، إلى التباس يمكن أن يوقع المادة السينمائية في فخ اشتباك يقوم على الحشد العاطفي فقط، أو التغني بماض زائل كان ثريا، به مجتمع وثقافة محلية.

ملصق فيلم “الذاكرة الخصبة”

ربما لذلك السبب انحصرت السينما الفلسطينية قبل مطلع الثمانينيات في أفلام خبرية أو توثيقية، تفتقر إلى البعد الفني الذي يجعل الواقع موضوعا ملموسا ومنفتحا على بعضه، فالحاضر مادة لقراءة الماضي، وكذلك التطلع البشري إلى المستقبل.

الصورة السينمائية.. وثيقة بديلة عن الصوت المقموع

تأتي السينما في علاقتها مع التاريخ الفلسطيني وجغرافيته المحجوبة، لتفعل القدرة على قمع الغضب اليومي المعاش المهدور، ثم تحوله إلى عنف جمالي، ينتج عن إعادة تخييل التاريخ، ليحقق قراءة أكثر موضوعية للواقع الفلسطيني.

فيمكن استعادة الغياب السياسي عبر الصورة السينمائية، وهي في هذه الحالة لا تكون محصورة في الصنعة الجمالية البصرية، بل تكون وثيقة اجتماعية بديلة لقمع الصوت الفلسطيني على أرض الواقع، وأداة انعكاس للذاكرة الفلسطينية، التي يتآكل حقها في الوجود يوما بعد يوم.

حين تستعاد الأسئلة الأولية التي كونت الهم السينمائي لدى خليفي وعلاقته بالشأن الفلسطيني، نجد أن فيلم “الذاكرة الخصبة” اشتمل على وعي ثقافي وفني، يتجاوز تشتت التجربة السينمائية الأولى، وقد نال جائزة النقاد العرب من مهرجان قرطاج السينمائي عام 1980.

بيانات الذاكرة الجماعية.. متنفس الناس وصندوق حكاياتهم

يراهن خليفي على المتنفس الوحيد المتاح للحكي عن فلسطين، فيبني ذاكرة محلية ملتقطة من الأفعال العادية واليومية لأناس عاديين متمسكين بها، لأنها وسيلتهم الوحيدة الباقية في العيش.

يحفل الفيلم بحوادث يومية مرتجلة، وينأى بعيدا عن الأفعال القصدية، وينفتح فضاء العيش على فضاء النضال، لكونهما وجهين لعملة واحدة.

من موقع تصوير “الذاكرة الخصبة”

عبر الأفعال العادية التي يستند إليها الوسيط السينمائي لإعادة تكوين الذاكرة، يصبح فعل الحكي المباشر والتحديق في الكاميرا ضرورةً تمنح المجال البصري حيوية، لأننا في هذه الحالة نشاهد أناسا نعرفهم من تفاصيل حياتهم.

وحين تبدأ إحداهن في الحكي، يصبح الوضع الفلسطيني حالة تجاور العادي والاستثنائي، ويبدو منطقيا –على مستوى السرد السينمائي- أن تبدأ الحكايات كلها من نقطة مشتركة، ألا وهو التاريخ الشخصي المنطلق من التفكك وفقد الأرض.

تحكي امرأة تدعى رومية أول ما تحكي عن تشتت العائلة، والنزوح بعد النكبة والتفكك، إما في القبور أو في بلاد بعيدة.

وتتجلى القدرة على ارتباط شتى الحكايات ومصائرها، حينما نرى رحلة الروائية الفلسطينية سحر خليفة، وهي تروي حياتها الشخصية، زواجها الذي فشل، ومحاولة بدء الحياة من جديد بعد الثلاثين، والإيمان بالكتابة والعمل والتحقق الذاتي.

تدور كل هذه التنويعات القائمة على الاعتراف الحر في حيز يقبل خصوصية كل تجربة، وفي نفس الوقت يشملها تحت إطار حركة واحد، وهي معنية باستنطاق ما هو إنساني داخل المكان الفلسطيني وحركة شخصياته، فعلى اختلافها، هناك ملمح جلي لما يمكن أن نسميه “بيانات الذاكرة الجماعية”.

“الذاكرة الخصبة”.. مجاز سينمائي وحس واقعي

يقدر خليفي في فيلم “الذاكرة الخصبة” قيمة الحس الواقعي للحياة اليومية، ويورط المجاز السينمائي ليتحرك في إطار تجريبي، يجعل الفيلم أقرب للمعايشة، بدلا من المشاهدة المؤطرة في البعد عن ما هو معروض على الشاشة.

ولذلك فحين توضع حكاية سحر خليفة وفرح حاطوم في مركز الفيلم، تتجلى في نسيج واحد، ينطلق من الذاتية التي تصبغ كل ما هو فلسطيني بإنسانية، وينتقل إلى اشتباك سياسي واجتماعي مباشر، واضح في محاولة رفض الاحتلال.

وتلك فكرة وجودية تنبع من تصميم المرأة رومية على رفض بيع أرضها، وتقديرها الشخصي لحياتها الصعبة، وهي تعيش عاملة مصنع لتربي أولادها، من دون أن تبيع أرضها لإسرائيل.

بهذه الكيفية تتحول الشجاعة الفردية لدى رومية في سياقها المعيشي، وكذلك شجاعة “سحر” باعتبارهما أفعالا تبدأ من المقاومة اليومية لتتحول إلى وقود تاريخي يحافظ على الذاكرة في حضورها الشامل.

“الطنطورة”.. قصة جرح نازف يمنع الحديث عنه

في ما بين مايو/ أيار 1947 وأوائل 1949، هُجر حوالي 750 ألف فلسطيني خارج أراضيهم، وأخليت قهرا 500 قرية فلسطينية.

يقدم فيلم “الطنطورة” (2022) للمخرج الإسرائيلي “آلن شوارتز” وثيقة تاريخية عن حيثيات إخلاء القرية، عبر لقاءات مع جنود شاركوا في قتل الفلسطينيين وتعذيبهم واغتصاب نسائهم أمام عوائلهم.

في النهاية عُتم على المذبحة الجماعية، ويقبع موقعها أسفل موقف سيارات، يحوطه أفراد ومحلات وشاطئ يعرّف بأنه إسرائيلي.

تعود فكرة فيلم الطنطورة إلى حادث قديم، حينما قرر الباحث الإسرائيلي “تيدي كاتس” تقديم دراسة تاريخية عن وقائع تهجير أهل قرية الطنطورة، لكنه لم يجد أي وثائق أو مواد أرشيفية تساعده على اكتشاف “الرواية الأخرى”.

لذا لجأ إلى عمل مقابلات كثيرة مع فلسطينيين عاصروا التهجير، وجنود من الكتيبة التي هاجمت القرية، ومستوطنين ممن دخلوها مباشرة بعد تهجير الفلسطينيين.

يعد “تيدي” من جيل المؤرخين الجدد الذين ناهضوا الاحتلال، وقد نال تقدير امتياز من جامعة حيفا عن أطروحته، وما إن كُتب عنها تقرير صحفي في جريدة “معاريف” حتى انتفض الجنود وطالبوا بسحب اعترافاتهم، ثم رفعوا قضية تشهير عليه بتهمة معاداة السامية.

ملصق فيلم “الطنطورة”

لم تسمح المحكمة لـ”تيدي” بعرض شرائط التسجيل، ولم يتح له أن يتحدث، ثم خسر القضية وأُجبر على اعتذار رسمي عما كتبه، بوصفه “لاغيا قائما على سوء فهم في حق الجنود”.

كانت هذه الزيارة من دون إذن رسمي، لم يعلم بها محامي الدفاع إلا بعد حدوثها، وعبر فيلم الطنطورة نرى “تيدي كاتس” وهو يحكي قصة اغتياله معنويا ومهنيا، بسبب هذه الأطروحة.

“معلول تحتفل بدمارها”.. حكاية قرية منكوبة لن يرويها أحد

في الفيلم التسجيلي القصير “معلول تحتفل بدمارها” (1984)، يعزز المخرج ميشيل خليفي قناعته الفنية تجاه إعادة تخييل التاريخ، لإثبات أساس حقيقته.

فقد هُجّر سكان معلول خلال النكبة، وكانوا مشتغلين بزراعة الزيتون والحبوب، وعقب التهجير سويت القرية بالأرض، باستثناء المسجد والكنيسة.

يعطي الفيلم ثقة تاريخية في من عاصر الحرب، لأن لديه إرثا في ذاكرته الشخصية، وهو أمثولة لذاكرة مجتمع كامل. يقول لنا عبر الشاشة: “أنا هنا، لدي حكاية لن يقولها أحد”. وهنا نعرف أن جرح فقدِ الأرض لا يتحقق بمعرفة موتاه فقط، بل بالاستماع لمن جاوروا الموتى وما زالوا هنا.

يترك خليفي الكاميرا أمام مجموعة من سكان معلول، ووراءهم جدارية كبيرة للقرية، وتتجلى الحيوية الهائلة في علاقة المتحدثين مع المكان، كأنه صديق غائب مؤقتا.

فمن خلال الجدارية يشير الرجال والنساء بعكازاتهم إلى بيوت الجيران والأصدقاء، يسمون كل بيت باسم أهله، وعندها يتحول الاعتراف والاستدعاء المرتجل من الذاكرة، إلى مراوغة لحجب التاريخ، تستعصي مقاومتها ومحوها.

يطرح خليفي عبر ثقته في الحكاية الفلسطينية المرتجلة على ألسنة المعاصرين آليةً نوعية، تجعل كل من يحمل حكاية يستطيع روايتها ممثلا لأرض بديلة، تجاور الأرض الحقيقية المحتلة.

“عرس الجليل”.. قرية تنتزع بهجتها من أشداق الاحتلال

كان فيلم “عرس الجليل” (1987) أول أفلام خليفي الروائية، ومع ذلك فقد كان ذا أرضية سينمائية قائمة على حس فني شديد الثراء في الأفلام الأولى، التي لا يمكن أن نطلق عليها اسما نوعيا، لأن كل تجربة سينمائية له حملت قطبي التناول التاريخي؛ العمودي القائم على التوثيق، والأفقي المنطلق من الحياة اليومية المعاشة، لذلك حفلت بتنوع يترك الحكاية لتفرض لغتها الفيلمية.

في فيلم “الذاكرة الخصبة” يتجلى المكان الفلسطيني مؤطرا في حضور جمالي، يقوم على استنطاق يرتكز على محبة شخصية لدى خليفي، فهو لا يرفض الانفصال الموضوعي عن مادته الفنية، ويورط نفسه وشعوره الشخصي فيها، وبذلك يتولد الخيال السينمائي من ارتباط طفولي، يجعل الحكاية مفعمة بطاقة شعرية ضخمة.

ملصق فيلم “عرس الجليل”

ولا ترتكز الأفلام على باب الخيال السهل ذا النزعة الهروبية من الواقع، بل تحمل حضورا استثنائيا، يجعلها متداخلة بين ما هو واقعي ومحتضن لحركة الشخصيات ومعبر واضح عن الروح المحلية، وبين ما هو خيالي وقادر على الحضور المجازي الذي يحتاجه المكان السينمائي، المردود بالضرورة إلى صبغ الواقع بتعريفات جديدة أكثر سعة، وأكثر قدرة على تخليق تعريفات مفقودة في هذا الواقع المحجوب.

تراجعت آلية تضفير البنية الروائية والوثائقية في فيلم “معلول تحتفل بدمارها”، لصالح مادة توثيقية تحتاج إلى صوت واقعي صرف، لكنها عادت في “عرس الجليل” ببنية جديدة، تستدعي الحياة الفلسطينية في بدايات الاحتلال، عبر وضع ثنائيات متعددة في حكاية تقوم على إصرار رجل فلسطيني على أن يحتفل بعرس ابنه، رغم أنف الشرطة الإسرائيلية، التي تفرض حظرا على القرية، لما تثيره من شغب.

فاز “عرس الجليل” بالجائزة الكبرى للنقد في مهرجان كان عام 1987، وهو يقوم على تقديم مكان شديد الخصوصية، مفعم بثراء فلكلوري وتراث شفهي، يخلق علاقة تواصلية وممتدة مع الماضي.

فحين نرى تفاصيل العرس، منذ بداية تحضير النسوة أطعمة الفرح، وأغانيهن ومواويل الرجال في فناء البيت، تنفتح هذه الممارسات زمنيا كأنها احتفالات أبدية، وتحظى القرية الفلسطينية بحق أصيل في الفرح، الذي يبدو في أحد أشكاله صورة من صور الرفض.

يحتفل الأهل والجيران، وبينهم تجلس الشرطة الإسرائيلية أمام زخم انطلاق الفلسطينيين، تصحبهم القدرة على البهجة.

مشهد من فيلم “عرس الجليل”

لا يلجأ ميشيل إلى القدرة على الاحتفال والإصرار عليه، في زمن فات أمام حاضر أكثر صعوبة ووحشية، لأجل أن يتباكى على الماضي، لكنه يسائل الزمن بصريا عبر التعاطي مع الفن وتطويعه لإثبات الوجود، فربما يكون الخيال صوتا بديلا وفاعلا، لخلق قراءة حقيقية قادرة على تعريف الماضي.

تطرف في محاكاة الواقع الفلسطيني

في ظل المنتج الفلسطيني الخالص، الذي يشمل المادة الفيلمية بكامل تفاصيلها، نجد أن الجودة التقنية في فيلم “عرس الجليل” تولدت من التطرف المستحق في محاكاة الواقع الفلسطيني.

ويظهر ذلك في التعبير عن المكان الطبيعي بأفقه الواسع، حيث مواقع التصوير الخالية من الإضافات، وكذلك ملابس النسوة والرجال، وحيوية الاحتفال والفرح والأغنيات.

من جهة أخرى، تتحرك حكاية الفيلم إلى تناول ريادي، يتطلع إلى المستقبل، عبر نقد السلطة الأبوية والاجتماعية في المجتمع الفلسطيني.

فعند هذا الخط الدرامي في الحكاية، تولد صورة للمجتمع أكثر ثباتا، عبر التعامل معه بحدة ورغبة في توسيع مساحة الحرية، وهي تظهر في الفيلم مطلبا وجوديا، وغاية تؤمن بالحق في السعي تجاه التحرر من الاحتلال، ومن القيود الداخلية للمجتمع.

غوص في جوهر القضية.. سينما تقرأ الواقع

تتضافر أفلام ميشيل خليفي في إطار مشروعي، يحمل وحدة أسلوبية في المجاورة بين الواقعي والمتخيل داخل المادة السينمائية، المحكومة بمعنى أكبر من التفاصيل السردية، وهي التعامل مع الزمن خارج أطره الثابتة.

فالماضي ليس محصورا فيما سبق بل هو أداة لقراءة الواقع، والمستقبل أيضا لا ينبغي أن يُرى مماثلا للواقع، بما فيه من مآسٍ ووحشية.

يعمل خليفي وفق رؤية متأملة، ومؤمنة بالإرادة في النضال عبر الفن، من دون تفريغه من خصوصيته وجمالياته، وقد عززت تلك الرؤية الاتحاد الخبري مع الواقع الفلسطيني المعاش، فعملت الأفلام على توقع أحداث كبرى، وكشف ما وراء الظاهر الخبري لهذه الأحداث.

كان الوصول إلى “الجوهر” في الوجود الفلسطيني أمرا شغل خليفي منذ بداية عمله في السينما، فلم يكن يرضى بالمعالجات المقولبة للفلسطيني الملثم، أمثولة الإرهاب في ذهنية العالم الغربي.

كما أنه رأى أن المعالجات الخبرية في التلفزيون ولّدت تصورات سطحية عن أحداث تحتاج إلى معايشة ونظرة عن قرب من الداخل، بدلا من لافتات خبرية تقوم على الإحصاء والتعاطف المجاني.

نرى أثر القراءة شديدة الحساسية للواقع الفلسطيني في نهاية فيلم “عرس الجليل”، حين ينتفض أهالي القرية على الشرطة الإسرائيلية في العرس، ويخرج الجميع للاحتجاج.

بعد عرض فيلم “عرس الجليل” بستة أشهر، بدأت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993).

“نشيد الحجر”.. انتفاضة مطعّمة بخصوصية فنية

في فيلمه الأكثر تجريبا “نشيد الحجر” (1991)، يلاحق ميشيل خليفي حدث الانتفاضة بالتوثيق المطعّم بخصوصية فنية، وهي حالة ليست يسيرة؛ أن ترتكز على حدث راهن لم يأخذ تطوراته النهائية، تحيله إلى مادة فيلمية.

يحدق “نشيد الحجر” فيما وراء الظاهر الخبري للانتفاضة، فيخلق بعدا تقريريا عن الحرب، حيث الأشياء تنبت على السطح من داخل الحياة والمعاناة، من المستشفيات إلى المنازل المهدمة، والعائلات التي شردت في الشارع.

ملصق فيلم “نشيد الحجر”

هناك تعايش مع أحداث داخلية لا تصل إليها كاميرا التغطية الإعلامية، ولا يريد خليفي أن ينوب عن هذه الكاميرا، بقدر ما يحاول أن يضعنا في قلب الحدث، عبر التأسيس الإنساني المثمن لما ينطوي عليه مفهوم النضال، حينما يكون مسألة معنية بمجتمع كامل.

من جهة أخرى، يتماهى “نشيد الحجر” مع حدث الانتفاضة الأولى، عبر تركيب فني يقدم حكاية مجاورة للمشاهد التوثيقية في الفيلم، عن امرأة تعود من المهجر إلى حبيبها، وعلى امتداد الفيلم يدور بينهما حوار مكتوب ببنية شعرية، تقوم على الاعتراف والمكاشفة، وتتجاوز ذاتية التجربة.

يكرر خليفي المداورة بين الواقعي والفني، بتأسيس حوار مجازي وشعري، مع أداء تمثيلي مسرحي ومكان سينمائي محدود، ويتجلى ذلك في حديث الحبيبين عن الهزيمة والتضحية، والسجن والاعتقال، والاغتراب ومساءلة الذات، والرؤى الذاتية والعامة.

كل تلك الثنائيات تفتح المدى الزمني المجازي للفيلم على نافذته الواقعية، وتساعد في صناعة فضاء يشمل تعريفات أكثر عمقا للحدث الفلسطيني، بداية من اليومي المعاش، مرورا بالمقاومة الفردية، وانتهاء بالانتفاضة الجماعية.

“حكاية الجواهر الثلاث”.. تحديات فيلم مصور في قطاع غزة

حفِل فيلم “حكاية الجواهر الثلاث” بخصوصية ضمن أفلام ميشيل خليفي، حتى في رحلة صناعته، فحين قرر أن يصور فيلما روائيا طويلا يدور في قطاع غزة، واجه صعوبة في الدخول والخروج مع فريق العمل، واعتمد على طاقم ممثلين غير محترف، ولم تكن الانتفاضة الأولى يومئذ قد انتهت بعد.

فاز الفيلم بجائزة الفراشة الذهبية بمهرجان أصفهان عام 1995، وهو يحمل ميزة أصيلة من بين أفلام خليفي، فمع أنه ارتكز على آلية التداخل بين الخيالي والواقعي المعتادة، فإنها ظهرت مضفرة داخل حالة مدهشة من التناغم الحيوي، المحمل بطاقة هائلة من الحضور.

ومما ساعد في ذلك أن بطل الفيلم يوسف كان طفلا يستقبل وعيه في العالم، من خلال فقد تشكيلات الحياة الأساسية، وهي الحب والحرية والرغبة في التحقق عبر الحياة.

ملصق فيلم “حكاية الجواهر الثلاث”

يعيش يوسف وعائلته الفقيرة بجوار البحر، لكن والده معتقل، وأما أخوه فهو ضمن المقاومة الشعبية، وهو يحب صيد العصافير، ويذهب إلى أخيه الكبير ورفاقه المقاومين المختبئين في حقول الزراعة، ليوصل لهم الغداء.

ثمة استثناء في كل شيء يحدث في الفيلم، بداية من الحركة من مكان لآخر، مرورا بالإضراب اليومي عن الذهاب إلى المدرسة، وانتهاء بالاستثناء الكبير الذي يعيشه يوسف الطفل.

استنطاق جماليات الوضع المتطرف

في خضم المناخ المتأهب لإطلاق نار في أي وقت، وبينما يزاحم صوت الطيران الإسرائيلي موسيقى الفيلم، يحتفظ المكان بالسعة ومقاومة الحجب، وبحضور مكتفٍ بما له من تعريفات شحيحة، لا يبحث عن إضافة.

بهذه الكيفية، في وضع طفل داخل جغرافيا مهددة دائما، يؤكد خليفي أن الهوية الفلسطينية يمكن سردها، ويمكن استنطاق جانب جمالي واقعي أيضا من هذا الوضع المتطرف في الاستثناء، والإباحة المتطرفة للشر.

على مستوى تقني، اعتمد الفيلم على مشاهد طويلة وتمثيل درامي لعلاقات عائلية وعاطفية مباشرة، وهناك مساحة كافية من التطور، قائمة على التعايش مع انطباعات يوسف، بدلا من المرور السريع عليها.

ولذلك فإن خصوصية التجربة مع المكان، وما يشمله من احتمالات للحب وطموح للسفر والمسؤولية المبكرة تجاه العائلة، تتيح لمدى العالم السينمائي أن ينبش داخل هذا الواقع.

ثم نفاجأ عبر امتداد الحكاية بأصلها الأسطوري وبنيتها الحكائية الشرقية، أن يوسف يستطيع المرور عبر مفردات قاسية، من دون أن يفقد معية الجماعة، بما تشمله من حدود العائلة الحرفية والوطن الذي يجب أن يستعاد.

بائع العصافير.. براءة طفل تلاحق أحلاما بعيدة

يرى يوسف حاجة عائلته المادية، فيدبر أموره ويبيع العصافير التي يهوى صيدها، ثم تشترط عليه حبيبته أنها لن تقبل زواجهما حين يكبران إلا بتحقيق أسطورة مدعاة، وتشترط العثور على الجواهر المفقودة من عقد الطفلة، الذي أخذته من جدتها، فيحاول بسذاجة طفل السفر إلى أمريكا الجنوبية.

حبيبته لن تقبل زواجهما حين يكبران إلا بتحقيق أسطورة الجواهر الثلاث

هكذا في داخل يوسف، تستيقظ الرغبة وتحاول تجاوز المكان الحبيس، فتجعله يحرك العالم ليعرف نفسه، حتى يخرج في المشاهد الأخيرة من الفيلم عن إطار الواقع، ويصبح جزءا من ملمحه الأسطوري، كأنه أمثولة لواقع يحتاج إلى الأسطَرة، كي يتخفف ويتمكن من الحياة مرة أخرى.

عبّر خليفي في “حكاية الجواهر الثلاث” عن إيمانه بالمستقبل، من خلال بنية فيلمية تقتبس شاعريتها من حيز الطفولة؛ معالجة نظرتهم للعالم من وراء حاجز الاحتلال، ما هي حاجتهم لفضاء آمن ومصير شخصي يسع أحلامهم وتكوينات مشاعرهم؟

تقود هذه الأسئلة لإغفال واقعية الحياة الكارثية في غزة، فكل شخصية مهما كانت جانبية تحمل أسى مشتركا، ما بين فقد ابن أو بيت أو عائلة.

“الطريق 181”.. كشف وهم التعايش مع المزاج العنصري

فيلم “الطريق 181” أخرجه ميشيل خليفي، بالاشتراك مع المخرج الإسرائيلي “إيال سفيان” المناهض لإسرائيل، ويبين أن تعريفات الواقع هي التي تحكم المادة الفيلمية في مشروع خليفي السينمائي.

يقوم الفيلم على لقاءات امتدت أكثر من 4 ساعات، على امتداد خط التقسيم الحدودي الذي أقرته الأمم المتحدة، وخلاله توضح اللقاءات مع عرب الداخل ومستوطنين وجنود من الجيش الإسرائيلي، أن فكرة العيش المتجاور باتت وهما، وأن المزاج العنصري الإسرائيلي يحكم ذهنية جنوده ومستوطنيه.

ملصق فيلم “الطريق 181”

مع مسيرة ميشيل و”إيال” عبر مستوطنات وأماكن كانت قديما قرى فلسطينية وطمست معالمها تماما، يحضر صوت المفكر الكبير الراحل إدوارد سعيد، في مقدمة كتاب “أحلام وطن”، وهو يستعين بمقال نُشر في صحيفة “هآرتس”، يفكك نظام الطرق الإسرائيلي في الضفة وقطاع غزة، وتجاور المستوطنات في شكل حصار.

السير في هذه الطرق، لا يحمل أي أثر فلسطيني، لا ذكرى لقرية ولا إنسان، لا ملمح لأي ماض هنا.


إعلان