نجاح سلام.. صوت من لبنان تغنى بالأوطان والغزل والابتهالات الدينية

اختطّت الفنانة نجاح سلام (1931-2023) مسارا فنيا حافلا بالعطاء امتد نحو 50 عاما، برزت خلاله مطربة وممثلة ومنتجة لأفلامها اللبنانية مع زوجها محمد سلمان.

وكان لنجاحها أوجه كثيرة، وصوت واحد براق ومتمكن في راحة من كل مساحته الواسعة ومن كل زخارفه السخية. هو صوت كأن لم تمر الأعوام عليه، بل إن مرور الأعوام سمح له بإبراز مزيد من قدراته، حين قررت الابتعاد عن أغاني الصبا المغناج، وتقديم أغنيات أم كلثوم بلمستها الخاصة، مثل أغنية “أنا في انتظارك”.

لها أوجه كثيرة، من نجاح سلام اللبنانية في “ميّل يا غزيّل” و”برهوم حاكيني”، والجبلية في حواراتها مع وديع الصافي، إلى تلك البدوية في “حوّل يا غنام”، إلى الخليجية مع “يا ريم وادي ثقيف”، أو المصرية مع “عايز جواباتك”، أو السورية التي لحّن لها محمد عبد الكريم أمير البزق “رقة حُسنك وسمارك”.

ولها أيضا وجه الصبية الضحوك واللعوب في أفلامها المصرية مع إسماعيل ياسين أو مع محمد سلمان، وهو شريك مشروعها الفني وحياتها مدة من الزمن، والست الناضجة العاطفة، والسيدة الصوفية، والثائرة العربية المتنقلة في أناشيدها من الشام إلى الجزائر، وفي القلب فلسطين ومصر التي منحتها جنسيتها.

نشأة في بيئة موسيقية محافظة

تنتمي نجاح سلام إلى بيئة تجمع بين الفن والصحافة والتدين، فهي ابنة الملحن المعروف محيي الدين سلام، وعنه تلقت أصول الغناء وتدرّبت على إتقانه، كما أنها أخت الصحفي عبد الرحمن سلام، وحفيدة عبد الرحمن سلام، أمين دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية.

بدأت نجاح الغناء مبكرا في الحفلات المدرسية، ثم اتجهت في شبابها المكبر إلى مصر وسجلت عام 1949 أغنيتها الأولى “حوّل يا غنام” على أسطوانات “بيضافون”، وهي من كلمات إيلي المتني وألحانه.

اشتهرت الأغنية شهرة واسعة، ونالت نجاحا فوريا ومباشرا، فشجّعها ذلك على متابعة تسجيل الأغاني، فغنت أغنيتها الثانية “على مسرحك يا دنيا”، وقد سجّلتها في الإذاعة اللبنانية عام 1950.

نجاح سلام.. بصمة غنائية خاصة

كان لتلك النشأة المحافظة تأثير لجم انطلاقتها في بدايتها وحدّد خياراتها، لا سيما مع انتشار موجة الفيلم الغنائي مطلع الخمسينيات، فكان أن اعتذرت عن إكمال بطولة فيلم “العيش والملح” (1949) لعدم توافقه مع تربيتها المحافظة، فقامت بدور البطولة مكانها الفنانة نعيمة عاكف.

لم تعتمد نجاح على صوتها الشجي فحسب، بل صقلت موهبتها بالمعرفة الغنائية، وكان الأب مصدرها، فهو الذي أشرف على نشأتها الفنية وعلّمها أصول الغناء، فهو ملحن وعازف عود، كما أنه مؤسس الدائرة الموسيقية في الإذاعة اللبنانية آنذاك، والمشرف على اختيار الأصوات.

الأغاني الدينية والعاطفية والوطنية.. عطاء متنوع

عُرف عن نجاح سلام قولها “الكلام فوضى والغناء نظام”، واشتهرت باحترامها لفنها وجمهورها وتنويعها في غنائها.

فقد قدّمت الأغاني الشعبية البسيطة، مثل “برهوم حاكيني”، و”رقة حُسنك وسمارك”، و”ميّل يا غزيل” وغيرها، بأسلوب يماثل الجدية التي غنت بها أغانيها المبرزة لقدراتها الصوتية، مثل “عايز جواباتك”، و”يا أغلى اسم في الوجود” و”أنا النيل مقبرة للغزاة”.

تعد نجاح علامة فنية فارقة في لبنان والوطن العربي، وقد ساهمت في نشر الأغنية اللبنانية الأصيلة، كما غنت بألحان كبار الملحنين، ومنهم رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب.

يضم رصيدها الغنائي أكثر من 3 آلاف أغنية، منوعة بين الدينية والعاطفية والوطنية، وكان أول نجاح لها في رحلتها الفنية عام 1949، حين سجّلت “حوّل يا غنام”، ثم أغنية “يا جارحة قلب” من كلمات سامي الصيداوي وألحانه.

وقد انهالت عليها العروض بفضل النجاح الكبير الذي حققته هاتان الأغنيتان، فقدّمت الحفلات على أهم المسارح في الوطن العربي، وسجّلت عام 1950 “على مسرحك يا دنيا”، وهي أول أغنية لها في الإذاعة اللبنانية، من كلمات سامي الصيداوي وألحان إيلي المتني.

هوية لبنان الموسيقية بعد الاستقلال

يرى الناقد الموسيقي فادي العبد الله[1] أن نجاح سلام كانت من أوائل الأصوات التي واكبت المشروع الأول لبناء هوية موسيقية لبنانية، بعد الاستقلال عن فرنسا في 1943، أي المشروع الذي غنّت سلام فيه من ألحان سامي الصيداوي “يا جارحة قلبي”، ونقولا المني وإيليا المتني صاحب يتيمة “حوّل يا غنّام”.

وكان ذلك بالتوازي مع أغاني نهاوند مثل “يا فجر لما تطل”، ولاحقا “وداد”، وهو المشروع الذي كان يتبدى فيه مزاج بدوي كما في “يا أم العباية”، وكان زكي ناصيف يشير في أحاديثه إلى أنه كان تجريبا أثناء البحث عن تركيب هوية لهذا البلد حديث الصنع.

لكنها سرعان ما ابتعدت عن هذا المشروع، الذي لم يدم طويلا على أي حال، فقد حل محله مشروع تبنته دولة كميل شمعون، من خلال مهرجانات بعلبك، ورعاية الأخوين رحباني.

كانت ذلك المشروع خلطة تجمع بين مركزية الجبل اللبناني والتوزيع الغربي، وهو ما كان متوافقا مع توجه مجموعة أخرى من الموسيقيين آنذاك، مثل توفيق سكر وزكي ناصيف وتوفيق الباشا، على تفاوت خصائصهم ما بين الاهتمام بالموسيقى الكنسية البيزنطية والسريانية، أو التوزيع الكلاسيكي الأوروبي لأنماط تراثية، وهو ما استخدمه أيضا الرحابنة في صيغة غنائية.

نجمة السينما.. كوميديا تشارك إسماعيل ياسين الشاشة الصغيرة

في عام 1952 قررت نجاح سلام الإقامة في مصر والانطلاق سينمائيا، وكان أول فيلم شاركت فيه هو “على كيفك” للمخرج حلمي رفلة (1952)، وقد جمع نخبة من نجوم مصر، منهم ليلى فوزي وتحية كاريوكا ومحسن سرحان.

ثم شاركت الممثل الكوميدي إسماعيل ياسين بطولة فيلم “الدنيا لما تضحك” (1953)، وكررت تجربتها معه في “دستة مناديل” (1954)، ثم “السعد وعد” (1955)، و”الكمساريات الفاتنات” (1957).

وفي عام 1960 اتجهت نحو الأعمال التاريخية، فظهرت في فيلم “عنتر يغزو الصحراء” للمخرج نيازي مصطفى، كما شاركت في العام نفسه في فيلم “في قلبها نار”، وفي عام 1962 في الفيلم الاستعراضي “مرحبا أيها الحُب”، إلى جانب سامية جمال وعبد السلام النابلسي، واجتمعت بعده مع فهد بلان في الفيلم الكوميدي الموسيقي “يا سلام عالحب” (1963).

كما قدَّمت في العام نفسه “سر الهاوية” للمخرج حسام الدين مصطفى، إلى جانب سعاد حسني وشكري سرحان وكمال الشناوي، وحلت عام 1964 ضيفة شرف في فيلم “أنت عمري” من بطولة جاكلين وعبد السلام نابلسي، وكان آخر أفلامها “الشيطان” (1969) إلى جانب سهير زكي وفرج العربي، وهو من إخراج محمد سلمان.

بدأت نجاح سلام مسيرتها السينمائية في مصر عام 1952

انتمت أفلام نجاح سلام في طبيعتها ومنطقها إلى المرح والكوميديا البسيطة، التي ينظر إليها الآن على أنها حاجة وضرورة قصوى، بعد أن صار كل منتَج فني -ولو كان منتميا في تصنيفه إلى الكوميديا- يُشحن رغما عنه بما لا يحتمله من إحالات.

تقضي تلك الإحالات على طابع البراءة والعفوية والسذاجة اللطيفة والمحبّبة، التي كانت سمة أعمال نجاح سلام، وهي أفلام تدافع عن فكرة المرح البريء والعفوي وتمثلها، ويحضر الغناء فيها بوصفه ذروة هذا النزوع، ودافعه إلى حدوده القصوى.

“ساحرة العرب”.. صوت غنى للأوطان العربية مشرقا ومغربا

استطاعت نجاح أن تنتزع لنفسها ألقابا من قبيل ألقاب “صوت العرب” و”ساحرة العرب” التي لم ينلها غيرها من الفنانين، فهي تجسّد طبيعتها الشمولية التمثيل والتلقي، وتؤكد خصوصية فريدة في هذا الصدد.

وقد شاركت تلفزيونيا في تجربة درامية وحيدة عام 1976، في مسلسل “أنا إنت”، إلى جانب فهد بلان وليلى حكيم وإلياس رزق.

وشكلت مع رفيق دربها وزوجها محمد سلمان ثنائيا فنيا ووطنيا، فقدَّما “لبيك يا علم العروبة”، وكانت حدثا فنيا أثناء العدوان الثلاثي على مصر.

ثم توالت الأعمال الوطنية، فغنت “أنا النيل مقبرة للغزاة”، للشاعر محمود أحمد إسماعيل، والموسيقي رياض السنباطي، وكان يرى في صوتها ملاذا للأعمال الضخمة.

كما غنت لمصر أيضا “يا أغلى اسم في الوجود”، وكذلك غنت لتونس والجزائر “محلى الغناء بعد الرصاص”، وهي من كلمات الشاعر صلاح جاهين وألحان محمد الموجي، وشاركت محمد جمال في أغنية “سوريا حبيبتي”، وهي من كلمات وألحان زوجها محمد سلمان.

غنت نجاح للبنان أغنية “لبنان درة الشرق”، كما غنت له أغنية شبه مجهولة، تتغنى به كما يُتغنى بالفتاة أو الفتى الغض، عنوانها “الله يا لبنان ما أجملك”، وهي تتغنى بشيبه أي بثلج جباله.

وقد جمعت سلام مع الإقامة القاهرية اهتماما فريدا بموسيقى الخليج العربي، فقد آلت بها الأحوال العائلية إلى الإقامة هناك، فكانت من أوائل النجوم غير الخليجيين الذين أتقنوا واعتنوا بغناء هذا الجانب من العالم العربي.

هوية مستقلة عن المدارس الموسيقية

يُسجّل لنجاح سلام أنها كانت مستقلة في فنها، فمع أنها تعاونت مع كبار الملحنين، فإنها لم تصبح أسيرة لهم أو بنت مدارسهم، بل بقيت مستقلة عن النطق باسم تيار، أو التعبير عن نموذج أو مشروع واضح المعالم، ولم تزل هاربة من شراك المدرسية والمؤسساتية.

فمع أنها غنت للرحابنة ولعبد الوهاب، فإنها لم تكن تنتمي لمؤسساتهم، ولا حاملة لراياتهم، بل حافظت على تنوع في الأساليب واللهجات.

نجاح سلام وزوجها السابق محمد سلمان وابنتهما

ولعل غياب “المؤسسة” أو المشروع خلفها -منذ انقضاء عهد اللهجة اللبنانية البدوية الأول- هو ما يخلّف لدى المرء شعورا بأن صوت نجاح سلام العظيم، يفوق أهمية إرثها الغنائي، على كثرته وأهمية ملحنيه وجماله ورسوخه في الآذان، كأغنية “بالسلامة” مثلا.

لقد كان صوتها جامع بين الدلال والغنج والسطوة، والقوة والأنوثة، والطرب والخفة، والشعبية والحضور الآسر والضاحك، والمتانة والذوق، والفصاحة واللفظ الحسن.

كما كان الوجه يستحق أن يحلّق مع ملحنيه، في فضاء مستقل من التجريب والاختلاف، بعيدا عن المحافظة الموسيقية، باتجاه مزيج يعكس الحيوية الهائلة لهذه المطربة، وثراء صوتها الرنان.

وضع الحجاب واعتزال الأغاني العاطفية

مُنحت نجاح سلام وسام الاستحقاق برتبة فارس، على يد الرئيس اللبناني إلياس الهراوي، كما نالت عام 1955 جائزة الأوسكار من جمعية تكريم عمالقة الفن العربي في الولايات المتحدة، وكرّمتها مصر في عام 1974، فمنحتها الجنسية المصرية.

تزوجت نجاح أكثر من مرة، الأولى مع الأستاذ الجامعي سلمان سعد، كما تزوجت المخرج محمد سلمان الذي أنجبت منه ابنتيها سمر وريم.

وضعت نجاح سلام الحجاب في أعوامها الأخيرة، وابتعدت عن أداء الأغاني العاطفية

وقررت ارتداء الحجاب عام 1998، لكنها لم تعلن اعتزالها، بل ابتعدت عن تقديم الأغاني العاطفية والرومانسية، واكتفت بطرح الأغاني الدينية والموشحات والابتهالات.

وقد أمضت سنوات عمرها الأخيرة في منزلها بلبنان، كما تنقلت بين الكويت حيث تقيم ابنتها ريم، وبين مصر حيث تقيم ابنتها سمر، وهي زوجة الملحن أمجد عطافي. وقد وافتها المنية ببيروت في 28 سبتمبر/ أيلول 2023.

 

هوامش

[1] فادي العبد الله، في إثر الغواية: عن الموسيقى والنقد، دار الكتب خان، القاهرة، 2024، ص 93-94.


إعلان