حسن يوسف.. حياة تحكي تاريخ مصر الحديث

يسدل رحيل حسن يوسف الستار على مرحلة كاملة من تاريخ مصر الاجتماعي والفني، بكل تناقضاتها وانعطافاتها الحادة، فقد خاض في حياته مسارات عدة، بدءا من الأدوار الجادة التي تناقش قضايا حياتية واجتماعية، ثم أدوار الفتى اللعوب.

كما جمع في حياته الشخصية بين التوجهات المتحررة في الفن والحياة، وبين دور الرجل المتدين المحافظ الذي قرر ألا يقرب مساحات التحرر في الأعمال الفنية، واتخذ موقفا حادا من ثورة يناير 2011، وزعم أن شباب الثورة يهدفون إلى فرض أهداف خارجية، ثم عاد واعتذر عن تصريحاته، وأخيرا أعلن اعتزاله بعد الوفاة المأساوية لابنه الأصغر غرقا.

الشاب “الروش”.. بداية صاروخية لنجم شعبي

وُلد حسن يوسف عام 1934 في حي شعبي، هو حي السيدة زينب في القاهرة، في ظل احتلال بريطاني وملكية، وفارق طبقي حاد بين الشعب وبين حكامه، وترعرع صبيا وشابا مع حكم الضباط الأحرار، وتحول إلى صورة لما ينبغي أن يكون عليه الشاب “الرِّوِش”، صاعدا بسرعة الصاروخ.

وقد اكتسب نجومية مبكرة بمعايير زمانها، فشكل مع سندريلا الشاشة سعاد حسني ثنائيا في مجموعة من الأفلام الخفيفة، التي شكلت المشهد الشبابي في الستينيات والسبعينيات.

حسن يوسف في شبابه

ثم انعطف بحدة نحو الزهد في الفن بدءا من عام 1990، فاتجه للإخراج التلفزيوني، وتقديم أدوار في أعمال دينية فقط، ثم عاد في بداية الألفية بأدوار اجتماعية، تتجه تدريجيا للانفتاح على القيم الجديدة في الفن.

وكانت حياته الشخصية بالقدر نفسه من التنوع والتناقض، فقد تزوج الفنانة المصرية الأرمنية لبلبة عام 1964، ثم طلقها بعد 8 أعوام، وتزوج شمس البارودي، وكانت يومئذ أكثر الممثلات تحررا في جيلها، لكنها انتقبت بعد سنوات، واعتزلت وتنكرت لما قدمت، واختفت تماما، إلا من لقاءات قليلة مع الإعلام في السنوات الماضية.

“أنا حرة”.. صفعة مدوية صنعت لحظة البداية

بدأت شهرة الفنان حسن يوسف بصفعة قاسية من والده (الممثل حسين رياض) في فيلم “أنا حرة”، حين انتزع منه آلة الكمنجة الموسيقية محاولا تحطيمها، ومعبرا عن رفضه من حيث المبدأ للموسيقى، لأنها إهدار للوقت، ومع ذلك لم يستطع التخلي عن حبه للموسيقى، فتكرر الموقف، وحاولت أمينة (الممثلة لبنى عبد العزيز) دفعه للتمسك بحقوقه في مواجهة والده.

ولم يكن فيلم “أنا حرة” كغيره من الأفلام التي حققت نجاحا ملحوظا حين عرض عام 1959، فقد أثار جدلا كبيرا، بسبب تناوله المبكر لقضايا المساواة بين المرأة والرجل، واستقلال المرأة، وهو ما عُدّ تمردا على التقاليد حينها، كما قدم وجها جديدا سوف يصبح واحدا من النجوم المعدودين في السينما المصرية، وكان فيها يومئذ نجوم كبار من أمثال رشدي أباظة وعماد حمدي وغيرهم.

شارك حسن يوسف في عروض المسرح القومي، وعمل موظفا في المسرح بمنطقة بنها التعليمية، لكنه لم يشعر بالتحقق بوصفه فنانا، فسعى للعمل في السينما، وقد تحقق له ذلك على يد الفنان الكبير حسين رياض، حين رشحه للمشاركة في فيلم “أنا حرة” (1959).

كان ذلك الفيلم ميلادا لنجم جديد، ثم تألق بعده في عدة أفلام منها “في بيتنا رجل” (1961) و”الخطايا” (1962) مع عبد الحليم حافظ، وقد اتخذه المرحلة الأخيرة في تقديمه لأدوار السنيد، ثم بدأ بعدها رحلة البطولة المطلقة.

نضوج الفتى اللعوب.. عطاء مميز في الأداء والإخراج

جاء الطابع العام لأدوار حسن يوسف في السنوات الأولى من عمله الفني تمثيلا لمرحلة عمرية، تتخطى الصبا، وتقف على أبواب الشباب، وتحلم بالحرية واكتشاف الحياة. وقد وافق ذلك مزاج شريحة كبيرة من الجمهور المصري والعربي، فأصبح نجما مفضلا للكثير منهم.

لكنه لم يكتفِ بتقديم أدوار الفتى اللعوب، بل قدّم أعمالا جادة، منها “في بيتنا رجل” و”الخطايا” (1962) و”سوق السلاح” (1960) وغيرها. وهكذا جمع يوسف بين الأفلام الخفيفة مع سعاد حسني ونادية لطفي، والأعمال ذات البعد الوطني مع رشدي أباظة وغيره من نجوم المرحلة.

حسن يوسف مع عمر الشريف ورشدي أباظة في فيلم “في بيتنا رجل”

ومن الانتشار إلى النضوج، جسّد حسن قصة نجم سينمائي ناجح ومحبوب، ولكنه اتجه إلى الإخراج السينمائي، مع بداية السبعينات من القرن الماضي.

وبدءا من عام 1971، أخرج أفلاما منها “ولد وبنت والشيطان” (1971)، و”الجبان والحب” (1975) و”القطط السمان” (1981)، ثم أنهى مسار الإخراج السينمائي بفيلم “عصفور له أنياب” (1987).

غياب تدريجي عن الشاشات.. الانتقال نحو الإنتاج

قدم حسن يوسف أولى مفاجآته للمجتمع المصري ولجمهوره، بانسحاب تدريجي من النجومية والتمثيل، فأنشأ شركة للإنتاج الفني النوعي، الذي يكتفي بتقديم أعمال للأطفال، وغاب عن الشاشتين الكبيرة والصغيرة سنوات، وقد ترك ذلك الغياب انطباعا لدى الجمهور باعتزاله، لا سيما وقد اعتزلت زوجته الفنانة شمس البارودي، وتمسكت بالنقاب.

أما مفاجأته الثانية فهي عودته في مسلسل “زهرة وأزواجها الخمسة” (2010) مع الفنانة غادة عبد الرازق، وكان بمنزلة رد على مسلسل “عائلة الحاج متولي” (2001)، وهو مسلسل جسد بطولته الفنان الراحل نور الشريف، وتزوج فيه 5 نساء. وكانت مشاركة حسن يوسف خروجا على ما التزم به من قبل، ولكنه قال في تصريحات صحفية إن ما يرفضه هو الفن الهابط أو المثير، لكن معالجة الأزمات الاجتماعية أمر مفيد.

جسد حسن يوسف أدوارا في 132 فيلما و33 مسلسلا، وأخرج 9 أفلام، كما شارك في 4 عروض مسرحية، واحتلت 4 من أفلامه مكانها في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية؛ ألا وهي:

“أنا حرة” (1959). “في بيتنا رجل” (1961) مع عمر الشريف وزبيدة ثروت. “الخطايا” (1962) مع نادية لطفي. “أم العروسة” (1963) مع تحية كاريوكا.

ويعد أشهر أعماله التلفزيونية مسلسل “إمام الدعاة” (2003)، الذي جسد فيه شخصية الشيخ محمد متولي الشعراوي، وإن تميز دوره في ملحمة “ليالي الحلمية” (1987-1989)، وجسد شخصية توفيق البدري.

“الخطايا”.. مجاورة العندليب في الشاشة والحياة

كان الفنان عبد الحليم حافظ يقيم ما يشبه ورشة العمل الدائمة في منزله بحي الزمالك في القاهرة، وذلك للإعداد لتصوير فيلمه “الخطايا”، وهو من إخراج حسن الإمام، ومن تأليف محمد عثمان ومحمد مصطفى سامي.

وقد احتار الفريق في اختيار الممثل الذي يمكن أن يقدم دور أخي عبد الحليم الأصغر في الفيلم، وحين وقع الاختيار على حسن يوسف استدعاه العندليب، واتفق معه على أن يقوم بالدور.

حسن يوسف وعبد الحليم حافظ في فيلم “الخطايا”

وفي إطار الاستعداد للتصوير، قررا الجلوس ساعات معا، لخلق جو من الألفة بينهما، لكونهما أخوين في العمل، لكن الجلسة امتدت أكثر من يومين، ذهبا على إثرها معا إلى الأستديو للتصوير، وكان يوسف يلبس ملابس عبد الحليم، بعد أن أقنعه بالبقاء في منزله، ليصبحا كأخوين حقيقيين، وقد امتدت علاقة الأخوة بينهما زمنا طويلا.

كان فيلم “الخطايا” أقرب إلى طابع السينما الهندية، بما فيها من ميلودراما فاقعة وأداء مسرحي، وقد تحول إلى ظاهرة، سواء في دور العرض، أو حين عُرض على شاشة التلفزيون، ولعب نجاحه دورا محوريا في حياة حسن يوسف، فقرر ألا يقبل بعده دورا ثانيا أو سنيدا في أي فيلم، ولو مع العندليب نفسه.

تدور قصة “الخطايا” حول امرأة لها سر دفين في حياتها، وهي متزوجة من المحامي محمود (الممثل عماد حمدي)، ولها ولدان هما حسين (الممثل عبد الحليم حافظ) وأحمد (الممثل حسن يوسف)، لكن الأب يظهر فرقا في المعاملة بين الأخوين.

يحب حسين زميلته سهير (الممثلة نادية لطفي)، ولكن والده يرفض أن يزوجها له، ويقرر تزويجها لأخيه أحمد، وهو أمر غريب لم يستطع أحد أن يفسره، حتى يبوح الأب بالسر الحقيقي وراء موقفه ذلك، مفجرا مفاجأة غير متوقعة.

“في بيتنا رجل”.. أداء مميز في حضرة النجوم

قدم حسن يوسف أداء مميزا جلب تعاطفا كبيرا، في فيلمه “في بيتنا رجل” (1961)، وهو مأخوذ عن رواية لإحسان عبد القدوس، وقد أخرجه هنري بركات.

ومع أنه اشترك الشاشة مع النجمين رشدي أباظة وعمر الشريف، فإن طبيعة أدائه ودوره كانا أحب إلى الجمهور المصري، فقد جسد دور محيي زاهر الذي يساعد زميله ويخفيه في بيته، بعيدا عن عيون الشرطة والإنجليز، فيواجه السجن والتعذيب، ويدفعه ذلك للانضمام لجماعات المقاومة.

يدور الفيلم حول المناضل المصري إبراهيم حمدي (الممثل عمر الشريف)، الذي تقتل الشرطة أحد أقربائه أثناء مظاهرة، فيقرر الانتقام بقتل رئيس الوزراء الخائن الموالي للإنجليز، فيقبض عليه بعد قتل الوزير، ويعذب عذابا شديدا حتى يدخل أحد المستشفيات، ولكنه يستغل وقت الإفطار في رمضان، فيهرب لمنزل زميله الجامعي محيي زاهر، الذي ليس له نشاط سياسي، فيعيش في منزلهم زمنا مع أبيه.

قُدمت الرواية في نسخة مسرحية على خشبة المسرح القومي قبل تصوير الفيلم، كما صورت لاحقا في مسلسل أخرجه إبراهيم الصحن عام 1995، عن سيناريو كتبه عبد الرحمن فهمي، ولعب أبرز الأدوار فيه: فاروق الفيشاوي، وزهرة العلا، ورشوان توفيق، ودلال عبد العزيز. وسُجلت إذاعيا بإدارة محمد علوان، مع شكري سرحان، وفريد شوقي، وحسين رياض، ومحمود المليجي، وزهرة العلا، وعبد الوارث عسر.

“أم العروسة”.. توثيق سينمائي لرب الأسرة المصري

قدم حسن يوسف فيلم “أم العروسة” (1963)، للمخرج عاطف سالم، وقد كتب له السيناريو عبد الحي أديب، عن رواية للكاتب عبد الحميد جودة السحار. يصنف الفيلم كوميديا، لكنه يوثق لرقة الحال التي انحدر إليها رب الأسرة المصرية في أوائل الستينيات.

يدور الفيلم حول عائلة تتكون من أب وأم وسبعة أبناء بينهم أربع فتيات، ترتبط الكبيرتان منهن بشابين؛ هما جلال (الممثل يوسف شعبان) وشفيق (الممثل حسن يوسف)، ويوافق الأب على زواجهما، لكنه لا يملك المال الكافي لتكلفة الزواج، لكونه موظفا ذا دخل محدود، فيقرر اختلاس المبلغ من الشركة التي يعمل بها.

وقد وصل “أم العروسة” إلى قوائم التصفية النهائية لجائزة الأوسكار، عن فئة أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية عام 1964.

حسن يوسف مع زوجته شمس البارودي

إمام الدعاة.. الشعراوي بملامح حسن يوسف

قدم حسن يوسف دور الشيخ محمد متولي الشعراوي في مسلسل “إمام الدعاة” (2003)، وهو من تأليف بهاء الدين إبراهيم، وإخراج مصطفى الشال، وقد حقق نجاحا كبيرا.

فقد استطاع أن يعيد صورة الإمام الشعراوي إلى قلوب محبيه بعد وفاته، كما أعاد تصوير حياته الاجتماعية ونشأته، ورحلته من قرية في الريف المصري إلى قلب العالم العربي والإسلامي، ورصد مواقفه المؤثرة في حياته وحياة الأمة.

أصبح المسلسل نقطة تحول جديدة في حياة حسن يوسف، وأعادت إليه جماهيرية فقدها في أعوام غيابه، لكنها جاءت هذه المرة مصحوبة بتقدير خاص، ينطلق من الحب والاحترام للشيخ الشعراوي. ولم يكن تجسيده ذلك الدور إلا وفاء لعلاقة صداقة قوية جمعت بينهما، وقد كان يستشيره في كثير من أموره.

تسعة عقود حافلة بالعطاء والتقلبات

رحل الفنان المخضرم ذو التسعين عاما، بعد أن قضى الفصول الأولى من حياته بين فنانين ومثقفين من الرعيل الأول من نخبة مصر، ما قبل وبعد الاستقلال.

فقد زامل عمر الشريف وعماد حمدي ورشدي أباظة في السينما، ووقف مع حسن رياض على خشبة المسرح، وعاش دور الفتى اللعوب على شاشة السينما وفي الحياة.

لكن ثمانينيات القرن الماضي كانت نقطة تحول كبرى، ليست في حياة حسن يوسف وحده، بل في حياة المجتمع المصري بأكمله، فقد شهد توجها نحو قيم أكثر اقترابا من الدين، أما حسن فكان قد نشأ في مجتمع منفتح، ولكنه عاد ليتصالح مع المجتمع، بعد أصبح خليطا غير منسجم من القيم.

فقد مثل في مسلسل “زهرة وأزواجها الخمسة” الذي حمل طابعا نسويا غير أصيل، وكان يهدف لإرضاء واحدة من أقوى نساء مصر، بعد أن عبّرت عن غضبها، بسبب مسلسل “عائلة الحاج متولي”.

أبى حسن يوسف إلا أن يصل إلى أقصى حدود الأسطورة، بالفقد المأساوي لابن في ريعان شبابه، ويعلن اعتزال العاجز عن الاستمرار في التمثيل، فقد كان يدهمه في كل لحظة حزن طاغٍ، واختتم حياته بعامه التسعين بعد أن تحول خلالها من ممثل إلى دور معقد، يبحث عمن يجسده.


إعلان