“الحكيم جورج حبش”.. تاريخ فلسطين المتجسد في كفاح رجل واحد

“الحكيم جورج حبش” فيلم وثائقي من إخراج اليسار ناصر، وإنتاج الجزيرة الوثائقية، ويعرض سيرة متعددة المشارب للمناضل الفلسطيني جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
يجمع الفيلم موارده من مصادر متعددة، من سيرته الذاتية كما كتبها بنفسه، وعنوانها “صفحات من مسيرتي النضالية.. مذكرات جورج حبش”، أو كما كتبها الآخرون مثل كتاب “اعترافات” للإعلامي الفرنسي “جورج مالبرونو” الذي كان رهينة في العراق، إضافة إلى شهادات الأهل والرفاق.
ويقدمه الفيلم بوصفه “الفلسطيني حتى النخاع” و”حارس الحلم” و”صاحب الخطابات الحماسية الرومنسية في الآن ذاته” و”أحد عظماء ساحة النضال الفلسطينية”.
جورج حبش.. شاب يترك دراسة الطّب ويلتحق بساحات النضال
يمثل الفيلم في بعد من أبعاده سيرة شاب يتمرّد على الحياة المنعّمة، لينخرط في النضال الوطني ضد المحتل الإسرائيلي، متحديا كل الإكراهات والأخطار.

وُلد جورج حبش عام 1925 في مدينة اللّد، وهي أقدم مدن فلسطين التاريخية، وترعرع في عائلة ميسورة من الروم الأرثوذكس تمتهن التجارة، فتزامنت طفولته مع بداية تشكل الوعي الوطني، وتزامنت مراهقته مع اشتداد الثورة الفلسطينية في نهاية الثلاثينيات.
ترك جورج فلسطين قبل النكبة بأربع سنوات، والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، فدرس الطب فيها. وهناك بدأ نشاطه السياسي القومي ذو الخلفية الاشتراكية.
لكن هجوم العصابات اليهودية على اللد بعد النكبة جعله يترك لبنان، ويعود إلى مدينته، ليقدم المساعدة الطبية إلى الأهالي. وأثناء العدوان لقيت أخته مصرعها، ودُفنت في فناء المنزل بالنّظر إلى شدة الحصار خارجه، فكانت نقطة التحول التي دفعته إلى ساحات النضال العسكري والسياسي.
“الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”.. نفض غبار النكسة
في مؤتمر انعقد في العاصمة الأردنية عمّان عام 1956، أعلن جورج حبش عن تأسيس حركة القوميين العرب. والحق أنّ نواتها الأولى كانت قد تأسست في بيروت منذ 1951، بعد عودة جورج حبش إلى الجامعة الأمريكية لمواصلة دراسته.
وكان قد تأثر بأفكار قسطنطين زريق، وهو أحد أهم دعاة الفكر القومي العربي، وكان معه في ذلك الدرب عدد من الطلبة، منهم وديع حدّاد، وهاني هندي، ولكن الحركة كانت يومئذ تنشط سرا.

كانت الحركة تهدف إلى بلورة حركة تحرّر عربي، تعوّل على الوعي الجماهيري، لا على الأنظمة المكبلة بإكراهاتها ومحاذيرها، وقد نالت صدى وانتشارا في معظم أنحاء العالم العربي.
ثم مثلت هزيمة 1967 صدمة للطبيب الشاب، بعد إيمانه بالفكر الناصري وتفاعله معه، ولكنه لم يستسلم للحماسة والمواقف العاطفية، فردّ الهزيمة إلى كون العدوّ كان أكثر استعدادا وتنظيما.
ومع ذلك فقد راجع منطلقاته الفكرية، فبات أقرب إلى تبني الفكر الماركسي اللينيني، واستطاع جمع فصائل فلسطينية مختلفة، ثم أعلن في ديسمبر/ كانون الأول 1967 عن تأسيس تنظيم جديد باسم “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”.
“لن تخسروا سوى القيد والخيمة”
أعلنت “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التي أسسها جورج حبش، أن هدفها هو تحرير فلسطين بالكفاح المسلح، وكان شعاره وهو يخاطب أتباعه “لن تخسروا سوى القيد والخيمة”.

وفي إطار تصعيدها للعمل النضالي لجأت إلى اختطاف الطائرات الإسرائيلية، أو الطائرات التابعة للدول الغربية، وكانت بدايتها في أغسطس/ آب 1969، في ما سمي بعملية الرحلة 840. وتتمثل في خطف طائرة ركاب أمريكية، كانت متجهة من لوس أنجلوس إلى تل أبيب عبر روما.
ثم تتالت العمليات بعد ذلك، وكان المبدأ أن لا يمسوا سلامة الركاب، فهذا الشكل من النضال يتنزل ضمن قناعة الجبهة بحتمية الكفاح المسلح، بعد أن تأكدوا من عجز النظام الرسمي العربي عن مجابهة الاحتلال الإسرائيلي.
كما أنه أيضا يهدف للفت أنظار العالم إلى الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، والاستفادة من التغطية الإعلامية التي سترافق عملية الاختطاف.
لقد استفادت الجبهة الشعبية بقيادة الحكيم جورج حبش من المدّ اليساري العالمي، ولكن عملياتها تلك لم تكن محل إجماع لدى شتى الفصائل الفلسطينية، فشهدت الجبهة نفسها خلافات داخلية وانشقاقات كثيرة، لهذه الأسباب ولغيرها، ممّا أدى إلى إضعافها، وإلى انفضاض بعض المتعاطفين معها، لا سيما في الساحة اللبنانية، وذلك لتعامل الفصائل بفظاظة مع الأهالي.
حبش وعرفات.. خطان متناظران التقيا في حب فلسطين
أصبح في منظمة التحرير الفلسطينية -التي تأسست سنة 1964- فصيلان قويان، لكنهما مختلفان من جهة الخلفيات الفكرية، وهما حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما كان فيها زعيمان متنافسان، هما ياسر عرفات وجورج حبش، ومثلت العلاقة بينهما موضوعا اخترق مختلف مفاصل الفيلم.

فمن منظور “فتح” ذات الخلفية الوطنية والإسلامية والتوجه الليبرالي، فإن فلسطين تمثّل قضية عربية وإسلامية بالأساس، وعليه فحماية الأقصى وتوفير الحاضنة الشعبية والسياسية للنضال الفلسطيني واجب على كل العرب والمسلمين.
ومن منظور الجبهة ذات الخلفية الاشتراكية، تمثل فلسطين قضية قومية، إنسانية أولا، ثم أممية ثانيا، والنضال من أجل تحريرها واجب على الجماهير العربية أولا، وكل الجماهير التي تتوق إلى الحرية لاحقا.
ولا ينفي الاختلاف بين المنظورين التقاطع في تصنيف إسرائيل مشروعا صهيونيا إمبرياليا استعماريا عالميا، ما كان له أن يصمد أو يستمر لولا المؤامرات التي أصابت الفلسطينيين من الداخل الوطني أو العربي، ومن الخارج الأوروبي والأمريكي خاصة.
ويشمل التقاطع سمات زعيمي الحركتين، فجورج حبش ترك تطبيب الأطفال في عيادته بالأردن لإيمانه أن لا خيار أمام الشعب الفلسطيني لاستعادة وطنه غير الكفاح المسلّح.

أما عرفات فقد ترك وظيفة المهندس في الكويت، والتحق بالعمل الميداني، لإيمانه بأن الصدام مع المحتل سيكون الشرارة التي تشعل لهيب المشاعر الوطنية والقومية، فانفتح على اليسار الأوروبي، ووجد تعاطفا من اليهود الماركسيين، وبات رمزا من رموز النضال من أجل التحرّر الوطني في العالم بأسره.
ولكليهما موقف سلبي من النظام الرسمي العربي، فكلاهما يتهمانه بعدم الاكتراث بالشأن الفلسطيني، وخاصّة من دول المواجهة، وإن بدرجات مختلفة.
بين المبادئ والمرواغة.. فسطاطان أثبت التاريخ صدق أحدهما
كانت للزعيمين إستراتيجيات مختلفة، لذلك تباعد الخطان حالما التقيا في حب فلسطين والنضال من أجل حريتها؛ أما جورج حبش المسيحي فهو يصدر عن رؤية مختلفة عن تصور عرفات، فهو عروبي نشأ على تنظير قسطنطين زريق، وهو من أهم منظري القومية العربية، ثم طعّم فكره بالتصوّر اليساري الأممي، وأما عرفات فيبدو أقرب إلى الإخوان إلا أنه ليس إخوانيّ الانتماء.

أضف إلى ذلك أن الحكيم عُرف بانتصاره للمبادئ، بعيدا عن ألاعيب السّاسة ودهائهم، فكان واضحا في رفضه للمشروع الإسرائيلي برمته، وكثيرا ما كان يعتب على حركة فتح، حين تناور وتبحث عن تسوية كثيرا ما كان عرفات يعبّر عنها ضمنيا.
ومما جاء حول المسألة في كتابه “أزمة الثورة الفلسطينية.. الجذور والحلول” قوله: إن البرجوازية الفلسطينية التي حملت السلاح وفي ذهنها أحلام وطموحات -وأعتقد أنها كانت صادقة في أحلامها وطموحاتها- بدأت تواجه الصعوبات، كما بدأت تصبح قوة معترف بها سياسيا على الصعيد العربي والدولي، وأمام هذا الوضع، اتخذت البرجوازية الفلسطينية الموقف الذي ينسجم مع طبيعتها، وهو القبول بحصة ما من التسوية.
وقد أتثبتت الأيام أنه كان محقا في رفضه لمشاريع التسوية، لأنها فتحت الباب للتفريط في الحقوق الفلسطينية.

وبالمقابل كان عرفات مناورا سياسيا بارعا، يعرف متى ينحني حتى لا تقتلعه العواصف، ويعرف متى يواجه خصومه بتحدّ وتصميم، وهذا ما جعله يحافظ على دعم النظام العربي على علاته، ويحافظ في الوقت نفسه على استقلالية منظمة التحرير، وكان يحمل السلاح ويواجه المحتل، ولكنه يتطلع في الأفق إلى مفاوضات ما، وإلى تسوية تقبل بالوجود الإسرائيلي.
وفي ذهابه إلى الأمم المتحدة عام 1974 اعتراف ضمني بالقرار 242، الذي ينص على إنهاء حالة الحرب والاعتراف بإسرائيل، وما عبارته: “لقد جئتكم بغصن الزيتون في يد وببندقية الثائر في يد، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي” إلا تأكيد لبحثه عن هذه التسوية.
“أبو عمار ويلي منك وويلي عليك”.. إعلان القطيعة
حدثت الجفوة الكبيرة بين الرجلين، حين قرّر عرفات التقارب مع النظام المصري، فقد رآه حبش والجبهة الشعبية تفريطا في الحقوق الوطنية لفلسطين.
ولكن القطيعة النهائية حصلت إثر دورة المجلس الوطني الفلسطيني الـ19، التي انعقدت في الجزائر العاصمة بتاريخ 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1988، فقد أعلن ياسر عرفات قيام دولة فلسطين، وجعل القدس عاصمة لها.

نتيجة لهذه الخطوة التي تتنكّر لثوابت النضال الفلسطيني، أطلق جورج حبش عبارته الشهيرة المتشائمة، وهي تستشرف لمستقبل القضية الفلسطينية: “أبو عمار.. ويلي منك وويلي عليك”.
ثم سريعا ما تدهورت حالته الصحية، ووافقت فرنسا على استقباله للعلاج، لكن وجوده هناك أصبح قضية سياسية بسبب ضغط اللوبي الصهيوني، فأصبح التفكير في احتجازه بتهمة الإرهاب جديا، ولكن الجزائر أسعفته بتدخّلها لدى السلطات الفرنسية، فأرسلت طائرة رئاسية لإخراجه من فرنسا.
ظل جورج حبش مقيما في دمشق، حتى استقال من أمانة سر الجبهة الشعبية عام 2000، وفي تلك الأثناء تراجعت مكانة الجبهة الشعبية، وحلّت حركة حماس التي قادت الانتفاضة ميدانيا محلّها.
“أنتِ جزء من فلسطين التي يضحي الرجل من أجلها”
من الناحية الفنية، يمثل فيلم “الحكيم جورج حبش” سيرة تنقل تصوراته الذاتية عن كتابه “صفحات من مسيرتي النضالية”، وتنقل رؤية صنّاعه التي تتسرب عبر الصوت السارد من خارج الإطار في الآن ذاته.
تستمد هذه السيرة مواردها من مصادر مختلفة، فتجمع الشهادات المختلفة، وتحاول أن تعرض صورة متكاملة للحكيم، تختزل شخصيته وفكره.

يبدأ الفيلم بإهدائه الذي حبره إلى زوجته في مستهل مذكراته، وفيه يقول: إلى رفيقة العمر: لقد كنت فلسطينية من البداية إلى النهاية، وهذا لعمري يثير أجمل مشاعر الاعتزاز، فأنت بالنسبة إليّ جزء من فلسطين التي تستحق أن يضحي الرجل من أجلها بلا تردد.
ليس هذا مجرد إهداء، فعباراته تجسد تصوره لزوجته ولفلسطين، وتشرح ذوبانه في فدائهما معا، فما تمثله أم ميساء (هيلدا حبش) ليس سوى استعارة للأرض، لذلك يصفها “بالفلسطينية من البداية والنهاية”. وليست فلسطين سوى امرأة جمع، فهي “الحبيبة والأخت والزوجة والأم”. وجميعها ترمز إلى الحياة بما هي عليه من خصب وولادة وملاذ وحضن.
وتؤكد الزوجة هذه المعاني فتقول في تقديمها للكتاب: لقد اندفعت بكل قوة وإيمان لأكون عونا له في رحلته الصعبة والمعقدة؛ أشاركه قسوة الحياة وشظف العيش، وحياة المنافي والشتات، والملاحقات الأمنية من قبل العدو الصهيوني وجميع القوى العاتية المعادية لشعبنا. رافقتُه في حله وترحاله، فانصهرنا معا في أتون النضال الدؤوب والصراع المرير، في مواجهة عدو عنصري استيطاني بغيض، صادر حقنا في حياة حرة كريمة فوق تراب وطننا الغالي.

هكذا يرسم الفيلم سيرة الحكيم، ولكنه لم يخلُ من ملاعبة للمتفرّج، ففي النهاية كان يقدم وجهة نظر رفاقه وأتباعه الذين لم يسلموا من وقع سحره، لكنه بالمقابل غيّب وجهات نظر خصومه من الجبهة أو من فتح.
وهنا نكتشف الطبقة القابعة تحت السطح الظّاهر، فالفيلم انتصار للخط النضالي المقاوم في شخصية الحكيم، وفي الآن نفسه موقف سلبي من الخط المهادن الذي راهن على المفاوضات، وفي البال خط فتح المسؤول عن المأزق الفلسطيني اليوم.