آل مردوخ.. فضائح وحروب أهلية في أكبر إمبراطورية إعلامية بالعالم

في عام 2023، تنحى “روبرت مردوخ” عن عرش إمبراطوريته الإعلامية التي بناها على مدار 7 عقود، وترك مقعد رئيس “فوكس كورب” و”نيوز كورب” لابنه “لاكلان”، فبدا وكأنه انتصر في معركة خلافة الشركة العملاقة على شقيقيه “جيمس” و”إليزابث”.

لقد عاش “مردوخ” حياة إعلامية صاخبة، فقد كان متحكما في صحف وقنوات، بلغت قوتها درجة التحكم في صناعة النجوم والسياسيين، بل ساعدت في أن يصل أحدهم لحكم أكبر إمبراطورية في العالم، ألا وهو مثل “دونالد ترامب”.

وكان وراء ذلك الصخب أب فظ، وملياردير بنى إمبراطوريته من ترويج الأخبار الزائفة والساخنة عن الشخصيات العامة، فكان أحد ملوك “الصحافة الصفراء”، ولعل ذلك ما أوصله إلى القمة.

ولكن سحابة دخان ذلك النجاح لا شك أنها كانت تتولد من حريق، وقد حاول الكشف عن ذلك الحريق “جوناثان مالر” و”جيم روتنبيرغ”، وهما صحفيان في نيويورك تايمز، ففي تقرير صحفي مكون من 20 ألف كلمة، حاولا أن يظهرا الجانب الآخر والصراعات داخل “إمبراطورية النفوذ”.

“روبرت مردوخ” شخصية معقدة ومؤثرة، ترك بصمة واضحة على عالم الإعلام والسياسة

هذا التقرير الذي حولته شبكة “سي أن أن” الأمريكية إلى مسلسل وثائقي من 7 حلقات عام 2022، وقدمته الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “آل مردوخ.. إمبراطورية النفوذ”.

تسير السلسلة أساسا في مسارين؛ أولهما يغطي صعود “مردوخ” وهيمنته وتحوله إلى قطب إعلامي، وثانيهما حياة “مردوخ” الأب وعلاقته بأبنائه التي تشبه مسرحية شكسبيرية.

حادث اليخت الفاخر.. دراما الرجل العائد من الموت

تنطلق حلقة الوثائقي الأولى من اللحظة الأشد حرجا في مسيرة إمبراطورية “مردوخ” في عام 2018، فبينما كان يقضي إجازته في الكاريبي مع زوجته على أحد اليخوت الفاخرة، أصابه حادث كاد أن يودي بحياته قبل أن يعيّن وريثا للإمبراطورية.

لكنه يعود من الموت إلى الحياة مرة أخرى، مع شيخوخته وصعوبة حالته، وكأنه بطل أسطورة إغريقية، فيغيّر مسار إمبراطوريته ومستقبلها، ويعلن في لقاء تلفازي أنه أقوى من أي وقت مضى، وأنه جاهز لمواصلة إدارة إمبراطوريته.

أطاح آل مردوخ بحكومات في قارتين وزعزعوا استقرار أهم ديمقراطية على وجه الأرض

يروي لنا الوثائقي حياة “روبرت مردوخ” من المهد إلى اللحد، ويعرض محطات حياته التي شكلته وشكلت إمبراطوريته الواسعة التي تقدر بمليارات الدولارات، من خلال الاعتماد على كثير من المصادر الرئيسية، لعل أهمها حديث الصحفيَّين “جوناثان مالر” و”جيم روتنبيرغ”، وهما صاحبا التقرير الذي بُني عليه الوثائقي.

ويستضيف الفيلم أيضا رؤوسا ناطقة أخرى، منها شخصيات عامة في السياسة الأمريكية والبريطانية، كما يعرض مشاهد أرشيفية من لقاءات تليفزيونية قديمة، وصورا تعامل معها المونتاج بحرفية عالية، جعلت الأشخاص الرافضين للمشاركة في السلسلة وكأنهم حاضرون لرواية قصة حياتهم بأنفسهم على الشاشة، ومنهم “مردوخ” نفسه وعائلته وموظفوه.

“تعيين وريثه سيكون مثل الاعتراف بفنائه”

من السهل جدا أن يعرف المرء عن قصة صعود مردوخ وإمبراطوريته وفضائحها إذا أراد، ومن الممكن أن يكون تقرير “مالر” و”روتنبيرغ” كافيا في هذا الصدد، ولكن الوثائقي الذي بين أيدينا، يحاول أن يملأ الفراغات العاطفية والنفسية في قصة صعود الإمبراطورية، وهو ما يمثل نقطة القوة في هذا العمل الذي يتعرض لحياة عائلة قلما تظهر كثيرا إلى العلن.

“روبرت مردوخ” في شبابه، وفي يديه أول استحواذ ضخم في إمبراطوريته، جريدة “نيوز أوف ذا وورلد”

فقد أصبحت حياة آل “مردوخ” محط تلك الأنظار، لا سيما بعد إنتاج المسلسل الأمريكي “الخلافة” (Succession) الحائز على 19 جائزة من جوائز “أيمي” للأعمال التليفزيونية، وقد عُرض أول أجزائه عام 2018، ويحكي قصة قطب الإعلام الأهم في الولايات المتحدة “لوغان روي”، وينطلق من ورطته الشكسبيرية في الاستقرار على خليفة لإمبراطوريته.

لم يحتج المشاهدون وقتا كثيرا ليلتفتوا إلى أن ذلك المسلسل مبني على قصة “آل مردوخ” وإن لم يدّعِ ذلك، وليلتفتوا إلى نقطة الضعف التي توهن “روبرت”، فهو لا يجد من أبنائه من يصلح لخلافته، وليبحثوا عن القصة الحقيقية التي ألهمت تلك الدراما التليفزيونية الناجحة.

الملصق الترويجي لمسلسل “الخلافة”

وفي هذا الوثائقي، نجد الدراما تحضر بقوة وتوازن، إلى جانب الكشف الصحفي الاستقصائي الذي يقوم عليه الوثائقي من خلال تقرير “نيويورك تايمز”، ونغوص في أعماق قصة الوراثة، وهي المعضلة الرئيسية في حياة “مردوخ” وإمبراطوريته. يصف الصحفي “مالر” الأمر قائلا: لطالما كان ينوي توريث شركته لأحد أبنائه على وجه الخصوص، ولكن تعيين وريثه سيكون مثل الاعتراف بفنائه هو”.

“مردوخ” بين أبنائه المتصارعين على خلافته، “لاكلان، إليزابث، جيمس”

تلك الجملة تشرح جيدا الصراع الثنائي في هذا العمل، بين “روبرت مردوخ” القطب الإعلامي الناجح الذي لا يرحم، والأب الذي ينتمي عالم أبنائه إليه، ولا ينوي أن يتدخل في حياة كل منهم بتشكيل شخصياتهم ومصادرة هواياتهم من أجل إعدادهم للخلافة.

“رجل الأعمال الأشد قسوة في التاريخ”.. عقدة الطفولة

في اللحظات الاولى من الوثائقي، يوصَف لنا “مردوخ” على لسان مستشار حملة “ترامب” السيناتور “روجر ستون”، بجملة ستكون مفتاحية في فهم الشخصية المعروضة على مدار 7 حلقات، فيقول: يعجبني “مردوخ”، ولطالما أعجبت به، فهو رجل الأعمال الأشد قسوة في التاريخ.

تبدأ قصة “مردوخ” من أقاصي الكوكب، فقد وُلد في مدينة ملبورن الأسترالية لأب عمل بالصحافة، حتى أسس إمبراطورية صحفية بلغت قوتها أنه كان يتحكم بنجاح رئيس الوزراء وسقوطه.

ولطالما أراد “مردوخ” دوما أن يثير إعجاب أبيه “كيث” وينال رضاه، ولكن الأب دائما ما كان ينعته بأنه شاب غير مبال وعديم المسؤولية. ومن هنا نشأت عقدة الأب التي ستحدد علاقته بأبنائه الثلاثة.

الطفل “روبرت” في أحضان أبيه

تساعدنا طفولة “مردوخ” على فهم جانب آخر من شخصيته، فهو محب للمغامرة والرهان، وكان يستهويه أن يهرب من المدرسة، ويذهب لمشاهدة سباقات الأحصنة والرهان عليها.

وهذا ما ساعد “روبرت” على النجاة بعد وفاة أبيه “كيث”، فقد ترك له إمبراطورية ضخمة، لكنها كانت غارقة في الديون وأقرب للانهيار، ويتربص بها مناخ مقلق، فبدأ العمل على إنقاذها، ولم يزل حتى ابتلع ثلثي سوق الإعلام في أستراليا.

كنغر آكل للعث يلتهم سوق الصحافة في بريطانيا

في بلد هامشيّ كأستراليا، وفي أواخر خمسينيات القرن العشرين، أظهر “مردوخ” نزعته المكيافيليّته (نسبة إلى مكيافيلي) التي ميّزت مسيرته الإعلامية في الاستحواذ والتوسع.

فكان يقصد البلدات الصغيرة وصحفها المحلية، ويخيّر أصحابها بين أن يبيعوه صحيفتهم، أو ينشئ صحيفة منافسة ويقضي عليهم، ومع ذلك فإن مكانا نائيا ومعزولا كأستراليا، لم يكن ليشبع نهمه، لذلك عزم على الخروج.

“روبرت مردوخ” يتفقد العمل في مطابعه

وفي أواخر الستينيات وصل إلى لندن، وسرعان ما استحوذ على جريدة “نيوز أوف ذا وورلد”، فكانت الحجر الأول في إمبراطوريته العالمية العابرة للحدود، ولم يكن الاستحواذ عليها سهلا، إلا بعد أن صرع منافسه “روبرت ماكسويل” الذي كان يرى الجريدة رمزا وطنيا بريطانيا، لا يمكن تركه لدخيل مثل “مردوخ”، فهو أسترالي ويهودي ومجرد “كنغر آكل للعث”.

وهنا أظهر “روبرت” قدراته مرة أخرى حين يكون مستضعفا، ففي خلال عام واحد، استطاع أن يستحوذ منفردا على أسهم الشركة، وفي سنوات قليلة إلى إمبراطوريته جريدة “ذا صن” الشهيرة، وأصبح مستحوذا على 40% من سوق الصحافة في إنجلترا.

“قضية بروفومو”.. فضيحة تفتح شهية ملك الصحافة الصفراء

دخل “مردوخ” سوق الإعلام البريطاني بخلطة جديدة، عرف أنها قادرة على كسب قلوب الجماهير وعقولهم، مع أنه كان يحمل قيما صحفية ثورية على الوضع الذي كان قائما، لذلك أغضب الصحفيين التقليديين في بريطانيا.

فمن خلال الجنس والجرائم والفوضى والدماء، استطاع أن يصرع النخبة الليبرالية بإنشاء خطاب صحفي شعبوي، يقترب من الطبقة العاملة في بريطانيا.

لا يرى “روبرت مردوخ” أحدا جديرا بأن ينصحه بشأن أخلاقيات الصحافة، فهو معيار ذاته

استغل “روبرت” قضية “بروفومو” عام 1969، وهي حادثة فاضحة لوزير الحرب البريطاني “جون بروفومو”، فقد كان على علاقة ببائعة هوى تدعى “كريستين كيلر”، وكانت لها علاقات أيضا بالسوفيات.

ومع أن تلك القضية قديمة تعود إلى عام 1961، وقد تاب عنها “بروفومو” بالانخراط في العمل المدني التطوعي، فإن “مردوخ” قرر في عام 1969 أن ينشر مذكرات “كيلر”، ليلقي الأضواء مرة أخرى على تلك الفضيحة الشائنة، التي حاول “بروفومو” أن ينساها الناس على مدار سنوات.

“مردوخ” يبرر نشر تلك المذكرات الفاضحة

لم يستمع “مردوخ” لنصائح تتعلق بمدى الضرر الذي يمكن أن تلحقه تلك المذكرات بـ”بروفومو” الذي كان قد أعلن توبته.

لقد كانت تلك القضية مثيرة للغضب بشدة تجاه نهج صحافة “مردوخ” الدخيل على لندن، حتى أن النخبة سموه في ذلك الوقت “قمّام” ولكن روبرت لا يكترث لأوصاف كهذه، وهذا سر إمبراطوريته.

“نيويورك بوست”.. ميدان الاغتيال والتلميع وصناعة والرؤساء

لقد أثبت “مردوخ” قدرة أذرعه الإعلامية على التحكم بالمشهد السياسي أينما حل وارتحل، لا سيما حين ذهب إلى نيويورك في السبعينيات، فقد كانت المدينة يومئذ تغرق في فقر وبطالة وجريمة، وكان لكل عمدة مشروع إصلاحي أشبه بعصا موسى، وحين اشترى “مردوخ” صحيفة “نيويورك بوست” أثبت قدرته على تلميع ساسة واغتيال آخرين، لمصلحة نجومه.

“روبرت مردوخ” يصافح عمدة نيويورك الذي صنعه بنفسه

صنع “مردوخ” نجومية “أد كوتش”، وكان قبلها نكرة لا يعرفه أحد، فمن خلال بكسره للأنماط الصحافية المتزنة في تغطيات سباق الانتخابات، وإعلان انحياز جريدته له، استطاع أن يسوّق “كوتش” لمنصب عمدة نيويورك. ولم يكن ليرضى بدور صانع عمد البلدات المحلية، بل كان يفكر في صناعة الرؤساء.

اتخذ “مردوخ” الصفحة السادسة من جريدة “نيويورك بوست” أهم وسيلة ضغط وتأثير لديه، فكانت ماخورا للشائعات والأخبار الزائفة، كما فضح فيها كثيرا من الشخصيات العامة، ولمّع آخرين.

وبذلك التلميع بدأت علاقته المبكرة جدا مع “دونالد ترامب”، فكان يظهر في بعض الأزمنة كل يوم تقريبا على صفحات “نيويورك بوست”، وفي خلال 4 عقود ظهر 110 مرات.

وفي مطلع الثمانينيات، سنحت له فرصته الأولى لتحقيق حلمه بصناعة الرؤساء، فقرر أن يتبنى حملة “رونالد ريغان” في مدينة نيويورك، وأصبح “ريغان” نجم “نيويورك بوست” اليومي.

“روبرت مردوخ” مع “دونالد ترامب” بعد فوزه بمنصب الرئاسة الأمريكية، فقد رأى فيه “مردوخ” حلما من أحلامه يتحقق

عاد ذلك بالنفع على “مردوخ” حين رد له “ريغان” الجميل، فسهّل له نيل الجنسية الأمريكية، وكانت نقطة مفصلية في مسار توسع إمبراطوريته، فأصبح يسيرا عليه امتلاك شركة إنتاج “فوكس”، وهي شبكة تليفزيونية جديدة، لتنافس الشبكات الأمريكية التي كانت راسخة في المشهد الإعلامي، منذ ميلاد التلفاز.

“روجر آيلز”.. نسخة من “مردوخ” في جسد آخر

كانت “فوكس نيوز” رمزا جديدا في الإعلام الأمريكي الذي رآه “مردوخ” منحازا لليسار الليبرالي، وقد رأى في هذا الأمر شيئا خطرا، لذلك قرر أن تقوم “فوكس نيوز” بدور البديل.

وخلال سنوات قليلة أصبحت “فوكس نيوز” القناة الأولى في أمريكا، بسبب خلطة “مردوخ” المعهودة، التي تغازل الطبقة العاملة بالخطابات الشعبوية والصورة المغرية.

وقد اعترفت مذيعات” فوكس” في الوثائقي أنه كان جزءا من عملهن؛ أن يظهرن بأزياء سهرات مغرية، وأزياء أخرى كانت غريبة على البرامج السياسية الجادة في التلفاز آنذاك.

“روبرت” بين مجسمات للشخصيات الكارتونية “آل سمبونز”، أهم أعمال فوكس الترفيهية التي أثرت على الثقافة الشعبية

ولم تكن “فوكس” لتنجح لولا “روجر آيلز”، وهو مستشار إعلامي لحملة الرئيس “نيكسون”، فقد رأى فيه “مردوخ” نفسه، وكانا معا ينظرا إلى العالم بطريقة واحدة، فهما محافظان مؤمنان أن مجابهة الناس بالحقيقة أفضل من تجميلها.

لقد كان “مردوخ” يرى في “آيلز” الرجل الذي يود أن يكون خليفته، حتى أنه انتصر له على ابنه “لاكلان” في إحدى المعارك الداخلية بالشركة، ومن ثمرة هذا الانسجام، ولدت قناة “فوكس نيوز”.

“فوكس نيوز”.. منبر الإعلام اليميني المحافظ

أصبحت “فوكس نيوز” منبر الإعلام اليميني المحافظ عام 1996، حين عهد بها “مردوخ” إلى صديقه “آيلز”، لتكون الذراع الإعلامي الجديد من إمبراطوريته، الذي سيستخدمه بقوة لتشكيل المشهد السياسي.

لقد كانت “فوكس نيوز” وفية إلى أبعد حد لقيم اليمين والمحافظين الجدد التي حملها “روجر آيلز”، وكان يمارس وظيفته رئيسا للقناة، من غير أدنى مراقبة أو محاسبة من أحد سوى “مردوخ”.

كان خطاب القناة المناهض للحريات والمسلمين -لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر- واحدا من أهم المميزات التي ميّزتها، فقد لعبت على وتر الشعور الوطني الذي كان مشتعلا آنذاك، وكان من أهم الأخبار التي غطتها يومئذ ولاقت رواجا؛ أن الجهاديين ينوون ضرب أمريكا بما عُرف بالجمرة الخبيثة، مع أنها كانت أخبارا مفتعلة.

“آيلز” و”مردوخ”، وجه ينظر إلى نفسه في المرآة

كما أن “نيويورك بوست” كذلك، كانت رأس حربة الإعلام الأمريكي في الحملة على العراق، فقد نشرت تقريرا غير دقيق عن علاقة صدام بأسامة بن لادن. وهو التقرير الذي تلقفته “فوكس”، ورددته على نطاق أوسع وأكثر تأثيرا.

لقد تبنت “فوكس” السردية الرئاسية عن الحرب على الإرهاب، فسكّوا شعارات منها “أمريكا أولا”، و”من يجاهرون بانتقاد بلادهم وقت الأزمات العسكرية، فهم أمريكيون غير صالحون”.

حتى أن مذيعيها كان يخرجون في نشرات الأخبار، وقد وضعوا العلَم الأمريكي على بزاتهم.

زوجات الملك.. علاقات شتى تعقّد مشهد الخلافة

لا يصور الوثائقي “مردوخ” وحشا انتهازيا متسلقا، مع أنه طرد 6 آلاف صحفي من مؤسسته، إرضاء لرئيسة الوزراء “مارغريت تاتشر”، وكانت تكره قوة النقابات، بل إن الوثائقي يفتح مساحة للتعاطف مع طموحه الذي لا يتوقف، ويمنح عامليه ومعجبيه فرصة لإلقاء الضوء على جوانب من شخصيته، غير التي يعرفها من يرونه سمكة قرش أبيض تأكل كل ما في طريقها.

في الوثائقي كثير من المواقف المركبة، تلقي الضوء على مواقف “مردوخ” وأبنائه، وعلاقتهم التي لا تنحسر في صراع الخلافة والثراء الضخم الذي يميّز إرث العائلة.

وقد كادت تتعرض زوجته ذات يوم للخطف والقتل، ولكن الصدفة تسببت في مقتل أصدقاء للعائلة بدلا منها، مما دفعها للهرب إلى الولايات المتحدة، فرارا من المناخ العدائي الذي بدأ يضيّق على العائلة حياتها في لندن.

ضاعف “روبرت مردوخ” قوة صوته لتعادل أصوات أبنائه مجتمعين، حتى لا يغلبوا قدراته التصويتية وينقلبوا عليه

كما يفتح الوثائقي مساحة لأبناء “مردوخ”، للتعبير عن أحلامهم وآمالهم وآرائهم في أبيهم، من الناحية الإنسانية والمهنية، ونرى الجانب العاطفي من حياته وعلاقاته النسائية المتعددة، خاصة علاقته مع “آنا دي بيستر”، وهي زوجته الثانية وأم أبنائه المتنازعين على خلافته، وشريكته في بناء إمبراطوريته.

وقد انهار زواجهما بعد 31 عاما، فقد رأى أنها بدأت تشكل عائقا في مسار طموحه الذي لا يشبع، حين أرادت أن يتقاعد ليستريح، وأما هو فكان في أواخر التسعينيات يخطط للبدء من جديد بمشاريع أخرى.

أما علاقته بزوجته الثالثة “ويندي دينغ” التي أحبها وتزوجها في نهاية التسعينيات، فقد عارضها أولاده بشدة، وسرعان ما أصبحت مخاوفهم حقائق، فقد أصبحت من المتنازعين على “الخلافة” بعد إنجابها طفلين منه.

وبهذا الاستعراض للتاريخ العائلي، تتكون لدينا الصورة عن تعقد مشهد الخلافة أكثر فأكثر.

“ما الثمن؟”.. مبدأ يحكم المناحي العائلية والتجارية

تكمن رؤية “روبرت مردوخ” للعالم في كونه يرى العلاقات الإنسانية في جوهرها علاقات تعاقدية، تخضع لمبدأ “ما الثمن؟”، وذلك مبدأ ينتهجه حتى مع زوجته وأطفاله، فقد أراد استبعادهم من صندوق العائلة.

وستظهر مرة أخرى تلك القدرة المكيافيليّة في التفاوض، حين يصرع عائلة “بانكروفت”، ويستحوذ على “وول ستريت جورنال”، وكانت حلمه الأكبر في الولايات المتحدة.

“روبرت مردوخ” وزوجته الثانية “آنا”

لم تتخيّل عائلة “بانكروفت” يوما ما أن تصبح تلك الجريدة النخبوية في يد رجل مثل “مردوخ”، لذلك كانوا يفاوضونه باحتقار وتعالٍ، ولكنه انتصر عليهم. وقد تكررت تلك العملية مرة أخرى في الاستحواذ على شبكة “سكاي”.

اختراق الهواتف وتمزيق العائلة.. فضائح الإمبراطورية

كان “مردوخ” ذا شخصية تتسامى عن التجريح والنقد، وكل ما يحيق بها من فضائح، ومع ذلك فقد كان لا يتوانى عن استخدام أي أسلوب، لذا فكل ما يلحق بالإمبراطورية من فضائح أصبح مفهوما وغير مستنكر عليه وعلى نهجه الإعلامي، الذي يستخدمه للتوسع والسيطرة.

فمن ذلك فضيحة اختراق الهواتف النقالة، واتخاذها مصدرا للأخبار الحصرية التي تزود شركات “مردوخ” الإعلامية، حتى أنها وصلت للتجسس على هواتف العائلة المالكة في بريطانيا، وشخصيات عامة وسياسيين.

العدد الأخير من جريدة “نيوز أوف ذا وولد”

وقد ظهر في تلك الفضيحة جانب وحشيّ من نهج “مردوخ” الإعلامي، لا سيما في قضية الفتاة “ميلي داولر” التي اختطفت وقتلت، وكان الصحيفة قادرة على إنقاذها حين اخترقت هاتفها، وتتبعت معلومات مهمة في مسار القضية، لكنها أخذت تسرّب أخبارا مشوقة للصحافة يوميا، لإنقاذ الجرائد من الإفلاس.

تتبعت تلك الفضائحَ سلسلةٌ من التحقيقات، استمرت من عام 2005 حتى 2011، وانتهت بإغلاق صحيفة “نيوز أوف ذا وولد” بعد 169 عاما من عملها، وسلسلة من الاعتذارات من مجموعة “مردوخ” الإعلامية عن تلك الفضيحة الأخلاقية.

توجد أيضا الكثير من الفضائح التي لم تقف عائقا في مسار نمو الإمبراطورية وتوحشها، منها فضيحة التحرش الجنسي التي لاحقت “روجر آيلز”، وهو رئيس قناة “فوكس” وأحد أصدقاء “مردوخ” المقربين، وكان أيضا مستشارا إعلاميا للرئيس “نيكسون”، وقد أظهر “مردوخ” أنه لن يتخلى عنه بسهولة.

ويظهر الوثائقي كذلك كثيرا من الأحداث والنزاعات التي شابت علاقات الإخوة الورثة ببعضهم، وكان “مردوخ” عاملا رئيسا فيها، فقد ساهم في إذكاء تلك الكراهية والمنافسة بين الإخوة في أغلب الأوقات.


إعلان