مصطفي فهمي.. نجم المجتمع الذي ضل طريقه إلى السينما
فوجئ المصور السينمائي الشاب مصطفي فهمي باتصال تليفوني من قبل المخرج عاطف سالم، وكانا قد تعارفا قبل أيام من خلال مدير التصوير الكبير عبد الحليم نصر. التقى فهمي مع عاطف سالم بعد أقل من ساعة، ليعرض عليه المخرج الشهير تمثيل أحد الأدوار في فيلم بعنوان “أين عقلي”. ضحك مصطفى فهمي الذي لم يفكر في الأمر من قبل مشيرا إلى أنه توقع عرضا لتصوير فيلم جديد، وكان رده أنه يحتاج إلى وقت للتفكير، لكن سالم الذي اشتهر بالحسم، أكد أنه ينتظر الرد بعد انتهاء مصطفى فهمي من شرب قهوته.
لم يجد المصور السينمائي الشاب في الأمر مغامرة كبيرة، واعتبرها تجربة، فهو لن يخسر شيئا إذا خاضها ولم تنجح، وسوف يعود إلى كاميرا السينما مع أستاذه عبد الحليم نصر كمصور سينمائي، لكن ذلك الدور كان بداية لمشوار في العمل أمام الكاميرا وليس خلفها، امتد لأكثر من نصف قرن، قدم خلاله 155 عملا للسينما والتليفزيون.
ولم يكن الفنان مصطفى فهمي، الذي رحل عن عالمنا عن 82 عاما، في حاجة إلى موهبة التمثيل ليجيد أداء أغلب أدواره، فقد كانت تلك الأدوار أقرب إلى طبيعة ممارساته الحياتية التي ورث خلالها سمات الطبقة الأرستقراطية، وعاش حتى آخر لحظات حياته متمسكا بنمط حياة تلك الطبقة، وكان وجوده كفنان أقرب إلى وجود ممثل يعبر بالنيابة عن تلك الطبقة التي غربت شمسها بعد رحيل الملك فارق عن مصر.
استثناء طبقي
ويستمد عالم الفن أغلب العاملين فيه وخاصة الممثلين من الطبقة الوسطى في المجتمع، باستثناءات قليلة، منها الراحل الكبير يوسف وهبي، والفنان زكي رستم اللذين قدما من طبقة أبناء باشوات ما قبل الثورة وخاضا معارك كثيرة للانسلاخ من تلك الطبقة، التي كانت تحتقر التمثيل في ذلك الوقت، للعمل كممثلين.
وكان حركة الضباط الأحرار بما تبعها من تحولات مجتمعية هائلة، ومصادرات لأموال أثرياء مصر قد أحدثت حراكا غير قليل في القيم المجتمعية، وساهمت الظروف الحياتية لمصطفى فهمي أيضا في تسهيل عمله بالفن، إذ سبقه شقيقه الفنان حسين فهمي، وكلاهما اشتهر بلقب البرنس في الوسطين الفني والإعلامي.
لا يعود ذلك اللقب إلى الوسامة والرقي في التعامل اللذين ميزا مصطفى فهمي الذي ينحدر من عائلة ذات أصول شركسية، ولكنه يعود إلى قربه من العائلة الحاكمة، فقد كان جده محمد باشا فهمي رئيسا لمجلس الشورى في المملكة المصرية، وكان والده محمود باشا فهمي سكرتيرا للمجلس نفسه، أما والدته فهي الرائد بالجيش المصري خديجة هانم صاحبة الدور الأبرز في دعم وإنشاء المؤسسات الخيرية، وكان قصر المانسترلي الأنيق على شاطئ النيل بالقاهرة ملكا لجدته قبل مصادرته من قبل حكومة الثورة.
وإذا كان يوسف وهبي وزكي رستم قد وقعا في غرام فن الأداء التمثيلي تماما ولم يتورعا عن أداء مختلف الأدوار، فإن فهمي، الذي درس التصوير في معهد السينما بمصر، تعامل مع أدواره بحساسية شديدة، حتى أن كل دور خرج عن كونه الشاب الأنيق الراقي أو الراجل الناضج الراقي لم يقبل به إلا بعد محاولات جادة من قبل الإنتاج والإخراج، وأشهر الأدوار التي تردد في قبولها، هو دور الضابط الإسرائيلي في مسلسل “دموع في عيون وقحة”، وقد ظل رافضا لأدائه لنحو شهر قبل أن يطلب منه المخرج يحيى العلمي حضور جلسات التدريب على السيناريو كضيف ومن ثم أقنعه بقبول التجربة، لكن فهمي نفسه يصرح لأحد البرامج التليفزيونية قائلا ” لن أكرر تجربة مثل هذه، وقد غيرت شكلي تماما فيها، فالجمهور هنا سوف يكرهني ليس لأن الشخصية شريرة فقط في المطلق، ولكنها كراهية قومية”.
الوسيم والجميلات في سينما السبعينيات
كانت أولى الأزمات التي صادفها مصطفى فهمي الممثل في مواجهة شقيقه النجم حسين فهمي الذي رأي أنهما كممثلين ينتميان إلى نفس النمط، وبالتالي ستنشأ بينهما منافسة لا يصح أن تكون بين أخوين، وقد ساءت علاقتهما كثيرا لهذا السبب، لكنهما اتفقا على أن يسير كل منهما في طريقه.
كانت البداية الأولى لمصطفي في فيلم ” أميرة حبي أنا” 1974، الذي قام بدور البطولة فيه شقيقه حسين فهمي، وسعاد حسني، التي جمعته الصدفة معها في فيلمه الأول كممثل وهو “أين عقلي” 1974.
جاءت مشاركة مصطفي في “أين عقلي” بمثابة انطلاق للشاب الذي اختاره عاطف سالم بديلا لأخيه الذي رفض القيام بدور ثان في الفيلم الجديد بعد النجاح الكبير لفيلمه “خللي بالك من زوزو” وتحوله إلى نجم صف أول، وقال سالم حينها ” ما الفارق كلاهما صاحب عيون ملونة”.
وقدم مصطفى فهمي في عام 1976 أربعة أفلام دفعة واحدة هي “وجها لوجه” للمخرج أحمد فؤاد وشاركه فيه كل من سهير رمزي ومحمود عبد العزيز، وفيلم “نبتدي منين الحكاية” الذي تشاركه فيه سهير رمزي أيضا ويخرجه الممثل والمخرج اللبناني محمد سلمان، وفي فيلم “لمن تشرق الشمس” يواجه مصطفى فهمي الممثل الكبير رشدي أباظة وناهد شريف، ثم يقدم فيلم “قمر الزمان” فيلما غنائيا استعراضيا مع نجلاء فتحي.
ويصعد نجم فهمي ليشكل عام 1978 ذروة انتشاره حيث يقوم بالتمثيل في أحد عشر فيلما، ويستمر بالعمل بمعدلات أقل ويقدم ما بين فيلمين وثلاثة أفلام في العام حتى تبدأ مرحلة التسعينيات التي شهدت انقلابا فنيا.
نجومية تليفزيونية لأسباب سينمائية
لم تقتصر نجومية مصطفى فهمي منذ البداية على الشاشة الكبيرة، فقد قدم أول أدواره للشاشة الصغيرة في عام 1974 بالتوازي مع تقديمه لفيلم “أين عقلي” وذلك في مسلسل “القضبان”، ليبلغ عدد المسلسلات التي شارك فيها نحو تسعين مسلسلا حتى عام 2022، لكنه على عكس السينما لم يتوقف عن تقديم المسلسلات طول مشواره منذ عام 1974، وبلغ عدد مسلسلاته في بعض الأعوام ثلاثة مسلسلات، لكن أشهرها “دموع في عيون وقحة” مع عادل إمام و “حياة الجوهري” مع يسرا.
واعتبر مصطفى فهمي منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي واحدا من نجوم الصف الأول في الدراما التليفزيونية، وذلك بعد تضاؤل نسبة الأفلام المنتجة سنويا في مصر واقتصار نسبة النجوم الذين يقدمون أعمالا بانتظام على خمسة أو ستة، وبدا وجها مألوفا بشكل يومي على الشاشة الصغيرة مع جيل كامل من الممثلين والممثلات وبينهم أحمد عبد العزيز وفادية عبد الغني ورانيا فريد شوقي.
لكن انقلابا سينمائيا دفع بنجوم السينما الذين داهمهم العمر وموجة السينما الكوميدية الشبابية في بداية الألفية الثالثة إلى الهجرة من الشاشة الكبيرة إلى الصغيرة، فأزاح هؤلاء كل نجوم الدراما التليفزيونية إلى الصف الثاني ومن ثم إلى خارج اللعبة الدرامية إلا من أعمال بسيطة تضل طريقها إليهم، بينما حلت يسرا ونور الشريف ويحيى الفخراني ومحمود عبد العزيز وعادل إمام وغيرهم ضيوفا على الشاشة في رمضان غالبا.
نمط حياة مختلف
على عكس شقيقه النجم حسين فهمي، لم يكن مصطفى يميل إلى الفخر بأصوله الأرستقراطية في الحوارات الصحفية والتليفزيونية، لكنه لم يكن ينفي الصلات العائلية، والمستوى الاجتماعي الراقي، مشيرا إلى أن الأرستقراطية تحولت إلى ماض، لكنه كان يعيش ذلك النمط كاملا، والذي يظهر في برنامجه اليومي بدءا من رياضاته المفضلة وهي الجولف والتنس والاسكواش، مرورا بمصيفه المفضل في الساحل الشمالي بمصر أو ما يطلق عليه “الساحل الشرير” في مقابل “الساحل الطيب” المخصص للطبقة الوسطى.
وقد تحول فهمي إلى شخص أقرب إلى النجومية الاجتماعية منه إلى نجومية الممثل في السنوات الأخيرة، خاصة مع قلة أعماله، إذ انتشرت أخباره وصوره في صفحات الترفيه والمجتمع في الصيف الماضي، الذي أصيب بعده بورم سرطاني في المخ وبالتحديد في أغسطس 2024، والذي أدت تداعياته إلى وفاته.
في تناقض غريب، كشفت الزيجة الثالثة والأخيرة للفنان الراحل عن رجل شرقي محافظ، لا يبدو متأثرا بملامح طبقته الأرستقراطية ذات الماضي العريق، ولا بانتمائه للوسط الفني المعروف بتحرره، إذ بدا قويا مسيطرا مع زوجته الثالثة، مصمما على إدماجها داخل نمط حياته. ولعل أبرز التصريحات في هذا المجال ما أكدته الزوجة نفسها من تقنين لما يمكن أن ترتديه، وعدد مرات زيارتها لأسرتها في بيروت.
وكان فهمي قد تزوج للمرة الأولى من الإيطالية “كارملا” واستمرت الزيجة عشرين عاما وأثمرت عن ابنين هما عمر ودينا، لم تظهر كارملا ومصطفى فهمي في الإعلام أبدا طوال فترة زواجها من فهمي، وهو ما يؤكد على فكرة الرجل الشرقي المحافظ التي ظهرت في الزيجة الثالثة. وكان زواج فهمي من الفنانة رانيا فريد شوقي والذي استمر لخمسة أعوام مختلفا لكونهما فنانين وإن لم تظهر أية أزمات سبقت الطلاق الذي حدث عام 2012.
وبعيدا عن الزواج فإن الفنان مصطفى تمتع بحياة اجتماعية مستقرة وبرنامج يومي منظم، يبدأ من ممارسة الرياضة في الصباح في نادي الجزيرة مع أصدقائه، وينتهي في موقع تصوير في توقيت لا يتجاوز العاشرة مساءا إلا تحت ضغط ظروف استثنائية.
دموع في عيون وقحة
رغم مشواره الفني الطويل، وأعماله العديدة، يعد دور “أبو داوود” أو “إيزاك حاييم” هو الأبرز في حياة الممثل الراحل، والذي قدمه في مسلسل “دموع في عيون وقحة” وتدور أحداثه حول قصة مبنية على أحداث حقيقية من ملفات الجاسوسية المصرية لإحدى عمليات المخابرات المصرية ضد الموساد الإسرائيلي، والتي كان بطلها شاب مصري نشأ في ظل بيئة اجتماعية بائسة، يعول عائلته الفقيرة، والتي تتكون من أمه الطيبة المسنة، وزوجته الكفيفة، وشقيقه المستهتر، وبينما كان (جمعة الشوان) يعمل في ميناء السويس، يتلقى عرضا غريبا ومغريا للعمل، لكنه يكتشف أن مصدره هو الموساد الإسرائيلي الذي يحاول تجنيده ليعمل جاسوسا، ويسارع (جمعة الشوان) إلى إبلاغ أجهزة الأمن المصرية، فيطلبون منه الاستمرار في لعب نفس الدور؛ ليُملي على مخابرات العدو معلومات بعضها صحيح، وبعضها زائف، وتتوالى الأحداث حيث يستمر في العمل مع الموساد الإسرائيلي كعميل مزدوج لهم داخل مصر لمدة ست سنوات كاملة.
توفي مصطفى فهمي يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 2024.