طرب العوالم.. فن نسائي استهوى الطبقات العليا في مصر

في الجزء الثامن من موسوعة “وصف مصر”، التي وضعها علماء الحملة الفرنسية، نطالع عنوان “الموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين”[1]، ويتناول حكاية “العوالم” في مصر.

يقول الكتاب: هن مغنيات محترفات. قُسّمت العوالم إلى صنفين؛ الأول من يسلكن سلوكا يتسم بالحشمة، ويحظين بتقدير أفاضل الناس، أما الثاني فيشمل أولئك اللائي يُركلن بالأقدام، ولا يتسم سلوكهن بأي احتشام، ويسمين بالغوازي، وضروب الغناء عندهن تهتم بالصوت الأجش النابح، مع ألحان طربية.

والعوالم يقمن بالغناء بمصاحبة نوع من الدفوف، يسمى “طار” أو “دربكة”، وفي رقاصاتهن ابتذالات لدغدغة حسية، تمثل ما للخلاعة من تجسيد، بمصاحبة آلات الإيقاع أو النقر، المصاحبة برنات الأجراس الفضية والصاجات النحاسية، التي تمسك بها الراقصات بين أيديهن. انتهى نص الكتاب.

وفي أواخر القرن الـ19، كان الأغنياء يستأجرون العوالم عند إقامة حفل، كي يؤدين الأهازيج والأغنيات الخفيفة. وكانت العوالم ذوات مكانة ممتازة بين الأغنياء والمتوسطين، فكانوا ينثرون الذهب والفضة تحت أقدامهن.

طرب العوالم الذي أحيا ليالي القاهرة.. العصر الذهبي

يعد ما بين 1900-1920 العصر الذهبي للعوالم، والعالمة المقتدرة تصاحبها في الغناء فرقة موسيقية صغيرة من العازفين، وكانوا يُعرفون بالآلاتية، ويطلق على رئيسة العوالم لقب “أسطى”.

وكانت فرقة العوالم مكونة من 8 نسوة؛ هن الأسطى، وامرأتان للطبلة، وأخرى للمزهر، وأخرى للعزف على العود، واستعيض عنهن بعد ذلك بالرجال.

وكانت الرئيسة تضع تاجا على رأسها، وكن يؤدين أغنياتٍ ذوات كلمات هابطة ركيكة. ومن أشهر مؤلفي النصوص لهن: محمد علي لعبة، ومحمد أنور، ومحمد العاشق، ويونس القاضي.

وكانت الأغاني تؤلف في قالب الطقطوقة، ومنها “سلفني بوسة من خدك” و”أوعى تزغزغني جسمي رقيق ما يستحملش”، و”جوزيني يا امه جدع قيافة.. كامل المحاسن واللطافة”.

ولسيد درويش عدد من هذه الطقاطيق، منها: “فلفل اهري يا مهري.. وأنا مالي هي اللي قالتلي.. روح اسكر وتعالى على البهلي”. ولزكريا أحمد كثير من الطقاطيق، بل هو من أبرز من لحّن الطقاطيق، مثل “ارخي الستارة اللي في ريحنا”. ولمحمد عمر أيضا طقاطيق منها “الساعة كام ياسي محمد”.

ومن أشهر العوالم: أمينة الصرفية، وسنية شخلع، والحاجة فهيمة، وعزيزة البيضة، وأسماء الكمسارية، وثريا قدورة، ورتيبة أحمد.[2]

وكانت القاهرة يومئذ تسهر حتى ساعة متأخرة من الليل، ترقص وتستمع إلى المغنين والمغنيات، وكان عدد ملاهي شارع عماد الدين وحده يزيد على 30 مسرحا ومرقصا ومقهى، وكذلك الأزبكية وروض الفرج وكلوت بك.

أسماء الكمسارية.. مطربة تركت إرثا غنائيا كبيرا

كانت أسماء الكمسارية مطربة مصرية من العوالم وأسطوات المغنى في مصر، خلال الربع الأول من القرن العشرين.

أسماء الكمسارية

وقد سجَّلت أكثر من 23 أسطوانة، ومن الأدوار والطقاطيق التي سجَّلتها: “أنت فريد في الحسن”، و”أصل الغرام نظرة”، و”فريد المحاسن بان”.

ومنها أيضا: “القلب في ودك مشتاق”، و”أنا يا بدر”، و”على روحي أنا الجاني”، و”ليلة وصال تسوى الدنيا”، و”أعشق الخالص لحبك”.

أمينة شخلع.. ذات القوام المتثني والدماء المختلطة

ولدت لأب سوداني وأم مصرية، وكانت من أشهر عوالم بدايات القرن العشرين، وقد سُميت “شخلع” لأن قوامها كان “مشخلع” (أي كثير التثني) كما يقال بالعامية المصرية.

سكنت أمينة شخلع في حي الحلمية القديمة، وتوفيت عام 1924، ومن أشهر أغانيها: “قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. أحسن غزال البر صابح ماشي”.

أمينة شخلع

نرجس المهدية.. فاتحة الأسطوانات الموسيقية

تعد المطربة نرجس المهدية سيدة الأسطوات المغنيات في بدايات القرن العشرين، ومن أوائلهن تسجيلا للأسطوانات الموسيقية.

وكان معظم ما سجلته من أسطوانات لتسجيلات “ميشيان”، ولم نتعرف إلا على 3 أسطوانات، وهي: “خايف أموت قبل ما أنظرك”، و”إيه العبارة”، و”لو كنت شاريني”.

سرينا المصرية.. غناء ومسرح وسينما ثم هجرة إلى إسرائيل

كانت سرينا مطربة وممثلة مسرحية مصرية يهودية (1888-1954)، وقد بدأت مسيرتها الفنية عام 1905 مطربةً في فرقة إسكندر فرح، وتألقت في الثلاثينيات.

ومن أشهر ما غنت “أفديه إن حفظ الهوى”، وهي الأخت الكبيرة للممثلة نجمة إبراهيم (اسمها الحقيقي بوليني أوديون).

عملت سرينا في الثلاثينيات كثيرا من المسرحيات، منها مسرحية “شهداء الغرام”، و”غادة الكاميليا”، و”أحدب نوتردام”، و”الجبابرة”، و”السلطان عبد الحميد”، و”أولاد الفقراء”، و”يوم القيامة”، و”أهل الكهف”.

ومن أفلامها: “عنتر أفندي” (1935)، و”دنانير” (1939)، و”الورشة” (1940)، و”ليلى” (1942)، و”الشريد” (1942)، و”وادي النجوم” (1943)، و”طاقية الإخفاء” (1944).

تزوجت سرينا المصرية سالم مزراحي، وعاشت معه في الإسكندرية زمنا، ثم هاجرت إلى إسرائيل بعد النكبة.

أمينة الصرفية.. محظية السرايا الخديوية وسيدة العوالم

ولدت أمينة الصرفية في حي الدرب الأحمر بالقاهرة، وكانت تنافسها بمبة كشر على زعامة عالم العوالم، الذي ازدهر في مصر بين عامي 1900-1927.

ولكن أمينة فاقتها، وسيطرت على هذا الوسط من العوالم، نظرا لكونها محظية السرايا الخديوية في ذلك الوقت.

ومن أشهر أغانيها: “يا نخلتين في العلالي يا بلحهم دوا”، وأغنية أخرى يقول مطلعها: “الجدع الأسمر يا حليوة.. عالجدع الأسمر هيلا هيلا”.

سمحة المصرية.. قرينة عبد الوهاب في الغناء والمسرح

اشتهرت المطربة سمحة المصرية في العشرينيات والثلاثينيات. وشاركت محمد عبد الوهاب في التمثيل بمسرحية “أنت وبختك” (1923).

كما شاركته بعض أغانيه مثل: “نوبة على كوبري قصر النيل”، و”والله زمان يا خفافي”، و”يا مين يحكم بيني وبينك”.

وقد غنت أيضا طقطوقة “والله تستاهل يا قلبي”، و”يا فرحتي بجواب محبوبي”، و”على بلدي”، بالمشاركة مع محمود رحمي.

سنية حسنين.. صوت عذب بدأ من قهوة في أسيوط

وُلدت سنية حسنين عام 1908 بمدينة أسيوط، وبدأت مسيرتها الفنية صغيرة السن في قهوة إبراهيم عيسى بأسيوط، ثم انتقلت إلى الإسكندرية فالقاهرة، وعملت في ملهى بروض الفرج.

وقد امتازت سنية بصوت مطرب عذب، ووضعت أقدامها في الصفوف الأولى بين معاصريها من المطربات في ذلك الوقت.

لكنها تركت الغناء وهي في مستهل حياتها الفنية، ولو قُدِّر لها أن تواصل عملها الفني لأصبحت في مقدمة صفوف المغنين في الشرق، ومن أشهر أغانيها “على قد شوقي وتعذيبي”.

فضيلة رشدي

كانت المطربة فضيلة رشدي قد اشتهرت في العشرينيات والثلاثينيات، لكنها لم تسجل إلا القليل من الأسطوانات لشركتي “أوديون” و”كولومبيا”.

ولا توجد لها أعمال خاصة بها كثيرة، ولكن كانت لها أعمال مشتركة كثيرة، منها: “ديالوج الضرتين” مع الفنان أحمد شريف، وديالوج “الحب له دولة” مع الشيخ زكريا أحمد، وديالوج “القلب ويا اللي يعزه” مع المطرب صالح عبد الحي.

من أشهر أغانيها: “في هواك القلب شاكي”، و”راحوا الحبايب وين”.

فاطمة قدري.. نجمة المواويل والأداء المسرحي

اشتهرت المطربة فاطمة قدري خلال العشرينيات والثلاثينيات، واستعان بها المسرحي القديم فوزي الجزايرلي، لأداء بعض الأدوار والأغاني في كثير من مسرحياته، التي أداها في ذلك الوقت.

فاطمة قدري

وقد سجَّلت عددا من الأسطوانات لشركتي “ميشيان” و”بوليفون”، ومن تسجيلاتها: “رنة خلخالي”، و”يمة في التلفون الحلو بيشاغلني”، و”خفة يا الأسمر خفة”.

وسجلت أيضا موال “طبقت إيدي على فلة وياسمينة”، وطقطوقة “واجب على الحلو يدلع”.

بمبة كشر.. ذات العائلة الغنية والأزواج الأثرياء

حققت الراقصة بمبة كشر شهرة كبيرة، وسط هذا الكم الكبير من العوالم في ذلك الوقت، وقد تربعت على عرش الرقص الشرقي أكثر من نصف قرن، لا في العشرين عاما الأخيرة من القرن الـ19 والعشرين عاما الأولى من القرن الـ20.

وُلدت عام 1860 في أسرة من أشهر العائلات في مصر، فجدها مصطفى كشر أحد أعيان مصر في القرن الـ18، ووالدها الشيخ أحمد مصطفى، أحد قارئي القرآن في مصر؛ لذا تعد الراقصة المصرية الوحيدة التي خرجت من أسرة غنية.

العالمة والراقصة بمبة كشر

بدأت بمبة مسيرتها الفنية في سن مبكرة وهي ابنة 13 عاما، بطموح لم يتوقف منذ طفولتها وحتى وفاتها. في بداية مسيرتها الفنية كانت تذهب لإحياء حفلاتها في الأفراح راكبة على ظهر حمار[3].

وقد تزوجت 5 مرات، وكان من أزواجها توفيق النحاس “شهبندر التجار”، وأنجبت منه حسن وخديجة، ثم تزوجت أحد أعيان صعيد مصر، فأهداها 60 فدانا مهرا.

وأخيرا تزوجت من أحد أعيان القاهرة، فأهداها عربة حنطور من أوروبا، وقد نُقش عليها اسمها، فكانت ثاني فنانة -بعد شفيقة القبطية- تركب الحنطور، وكان يمشي أمامها رجال يفسحون الطريق. وقد اشتهرت بمبة بالرقص وهي تحمل صينية مليئة بالذهب والنقود.

نعيمة المصرية.. مغناطيس الملحنين التي اعتزلت مبكرا

اشتهرت المطربة نعيمة المصرية في عالم الغناء بمصر أوائل العشرينيات، وكان لها مسرح خاص بها هو “مسرح الهمبرا”.

ومن أشهر أغانيها: “يا بلح زغلول”، و”إن كنت شاريني”، و”معلوم يا هانم”، و”قوم يا حبيبي بقينا الصبح”، و”النبي لآيس وياك يا غزال”، و”يابو الشريط الأحمر”.

نعيمة المصرية

ومع أنها كانت من أبرز المطربات اللاتي تألقن خلال الأعوام الأولى من القرن العشرين، فقد اعتزلت الغناء في وقت مبكر وعمرها 43 عاما.

وكان ذلك لأسباب كثيرة، منها ظهور الإذاعة المصرية، وقيل إنه بسبب زواج ابنتها بشاب من عائلة أرستقراطية، اشترط عليها اعتزال الغناء، ومنها كذلك ظهور أم كلثوم “كوكب الشرق”، مما أثر عليها كثيرا.

ومع أنها عاشت حتى عام 1976 وأدركت زمان التليفزيون، لم يفكر أحد بتسجيل حوار معها، ولم تجد أيضا من يوثق حياتها في لقاء إذاعي أو صحفي.

وُلدت نعيمة المصرية في حي المغربلين بالقاهرة عام 1894، واسمها الحقيقي زينب محمد إدريس، وقد زوَّجها أهلها وهي صغيرة، وأقامت مع زوجها في بيت الأهل. لكن ذلك الزحام والضجيج لم يتناسب مع فتاة حالمة، كانت تطمح لأن تصبح مطربة.

لُقبت نعيمة المصرية “ملكة الأسطوانات”، وكان كل مبدعي ذلك الزمان يتسابقون للتلحين لها، مثل داوود حسني، وزكريا أحمد، ومحمد القصبجي.

ذوات الأرقام القياسية في شارع محمد علي

كان من أشهر عوالم شارع محمد علي أيضا: العالمة مريم، وهي جدة الفنانة سميحة توفيق، وتعد أولى عوالم شارع محمد علي.

ومنهن أيضا سيدة حسين، وتشتهر بكونها صاحبة أشهر زفة عروس.

ومنهن العالمة أنوس، وكانت أغلى عالمة في زمانها، فقد كانت نقطتها تصل إلى 35 جنيها.

ومن العوالم ذوات الشهرة أيضا المطربة نبوية غزال، وقد اشتهرت في العشرينيات وبدايات الثلاثينيات، وأشهر ما غنت به طقطوقة “كلام في سرك ما حد يدري”، وطقطوقة “اندهلي أنا روحي روحي عليك”.

وفي الختام، ربما نحتاج إلى قدر من إعادة النظر في العصر، وإعادة النظر في التاريخ الاجتماعي لهذه الحقبة من تاريخنا الموسيقي والاجتماعي، لنفهم أكثر، ونقترب من ثقافة ذاك العصر وذائقته الموسيقية.

المصادر:

[1]علماء الحملة الفرنسية، الموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين، موسوعة وصف مصر، جـ 8، ترجمة: زهير الشايب، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2002.

[2] عصمت النمر، طرب زمان: في تراث النغم، دار المحرر، القاهرة، 2023، ص 77.

[3] ريهام عبد الوهاب، عن الليالي الملاح و«العوالم».. عندما رقصت القاهرة، موقع «دوت مصر» الإلكتروني، 11 فبراير 2015.


إعلان