صباح الشحرورة.. حسناء جبل لبنان التي صنعت التاريخ

الشحرورة صباح

عبر مسيرة حافلة، استطاع أن تصبح من ألمع المطربات على شاشة السينما العربية، وأن تسهم في الجمع بين حركتي الغناء الريفي في لبنان، والغناء المدني في مصر.

شغلت العالم العربي خلال سنوات حياتها، بأحاديث زواجها المتعدد من داخل الوسط الفني وخارجه، كما شغلته بأخبار أفلامها وأغانيها الطربية، قبل أن تنتزع اهتمام الملايين بما يتناقلونه عنها من أخبار صحتها وشائعات وفاتها.

عايشت صباح الشحرورة أجيالا كثيرة من الفنانين

وُلدت جانيت جرجس فغالي في وادي شحرور بمحافظة جبل لبنان، وجاءت إلى مصر في الأربعينيات تتعثر في مشيتها، ثم وُلد اسمها الفني “صباح” في مقهى شارع فؤاد الأول، أطلقه عليها الشاعر صالح جودت، لأن وجهها مشرق مثل نور الصباح.

وقد تردد أنها المنتجة اللبنانية آسيا داغر نشرت لها صورة في مجلة “الصباح” المصرية، وطلبت من القراء اختيار اسم فني للوجه السينمائي الجديد، فحدث إجماع على الاسم.

صوت غير مكتمل وخفة دم تخطفها الشاشة

جاءت صباح وكلها أمل أن تعانق المجد والشهرة في القاهرة، لكونها مطربة ذات صوت حسن، لكن رأيا سلبيا أبداه الملحن والمطرب فريد الأطرش في صوتها دفعها لمحاولة العودة مرة أخرى إلى لبنان.

وقد تلقفتها المنتجة اللبنانية آسيا داغر، ففتحت لها أبواب الشهرة حين أسندت إليها بطولة أول أفلامها “هذا جناه أبي” (1945)، أمام الممثل الشاب صلاح نظمي.

ثم أتبعت ذلك بفيلم “القلب له واحد” (1945) أمام فتى الشاشة الأول أنور وجدي. وقد حقق الفيلمان نجاحا كبيرا، فكان منصة انطلاق المطربة الصغيرة إلى فضاء النجومية كالصاروخ.

أحضرت آسيا داغر كبار الملحنين للاستماع إلى صباح وإبداء رأيهم بصوتها، فأجمعوا على أنه غير مكتمل المعالم، لكن المخرج هنري بركات وجدها صالحة للتمثيل السينمائي، نظرا لخفة ظلها.

وفي عام 1945، ظهرت في “القلب له واحد” من إخراج هنري بركات، وغنت فيه أغنيات من ألحان رياض السنباطي وزكريا أحمد، وكان الاتفاق أن تتقاضى 150 جنيها مصريا عن الفيلم الأول، ثم يرتفع السعر تدريجا.

مطربة السندويش.. أسلوب غنائي كاد يعصف بالمسيرة

لم تُبشر بداية صباح في فيلم “القلب له واحد” بنجاح كبير مستمر، فقد كان صوتها غير ناضج، وقدرتها على غناء الألحان المصرية محدودة، وتكاد تكون عاجزة.

ثم لم تكن ملامحها التي ظهرت في الفيلم ملامح ممثلة جميلة أو مثيرة، بل كانت أشبه بملامح فتاة قروية، لا تستطيع الصمود في مدينة القاهرة.

وبعد فيلم “القلب له واحد” اتجهت صباح إلى الأغاني الخفيفة التي تلحن بسرعة، وتؤدى بسرعة، ويسمعها الناس بسرعة، ثم ينسونها بسرعة، وسماها بعض النقاد في ذلك العهد “مطربة السندويش”، وقد نجحت في هذا اللون واتخذته شعارها الفني.

بين مصر ولبنان تنقلت صباح فقدمت أشكالا منوعة من الفن المصري واللبناني

تغيرت أفكار الناس وميولهم بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت مطربة “السندويش” تجنح إلى الأفول بعد النجاح والإشراق، وكادت في مرحلة أخرى أن تدخل طي النسيان، لولا أنها تداركت نفسها، فغيرت لون غنائها وأطلّت بالأغاني التي لحنها لها كمال الطويل.

وهكذا انقلبت بأغانيها من مطربة مرحة إلى مطربة حزينة، وكشفت قدرات صوتها، وبدأت منذ ذلك الحين تصبح مطربة، بعدما كانت أقرب إلى المنولوجست.

ساعدها هذا النضوج المزدوج جسديا وصوتيا على تقدمها مطربةً وممثلة، وأتاح لها مشاركة ناجحة في الغناء المصري، كما كان لها دور كبير في إدخال الأغنية اللبنانية الى القاهرة، واستطاعت بأغانيها الخفيفة أن تقرب اللهجة اللبنانية إلى القلوب، بعد تعاونها مع رياض السنباطي، وفريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي[i].

نجاح خالد في مصر ومنافسة قوية في لبنان

استطاعت صباح أن تجسد صورة المرأة اللبنانية في عيون المصريين، ببياضها وشقرتها وبتحررها وغنجها وجرأتها، فكانت مغناجا من دون براءة شادية مثلا.

ولربما كان هذا سببا لعودتها إلى لبنان نهائيا في آخر السبعينيات، حين بلغت الخمسين من العمر، وكانت قد أقامت جسرا بين القاهرة وبيروت، محققة إنجازا مذهلا بإقامة مسيرتين ناجحتين فنيتين شبه مستقلتين آنذاك، ما بين السينما المصرية والأوبريتات المسرحية اللبنانية.

وربما كان ذلك أيضا سببا لبقاء محبتها الراسخة في مصر، على خلاف ما صارت عليه الحال في لبنان.

ففي لبنان، كانت الشحرورة -الطالعة من وادي شحرور- عالقة في منافسة طيلة 20 عاما مع فيروز. ومع أنها تعاونت مع الرحابنة، فإن هويتها ظلت مختلطة ما بين الغناء الجبلي والشعبي اللبناني، وبين الأغنيات السينمائية المصرية، ولم يبدُ عليها توجه نحو الأغنية الرحبانية الرومانسية، التي شكلت صورة فيروز المنزهة عن الزمن وعن الرغبة[ii].

مدرسة البساطة والمرح في الغناء

كانت صباح ذات الصوت الهائل الذي لا يهاب أحدا ولا حتى وديع الصافي، وكانت تحيا باستمرار في لحظتها الحاضرة، وترفض تعليق الزمن أو الابتعاد عنه.

لهذا كان لديها مجال واسع للغناء الزجلي وبهاراته، ومجال أوسع للضحك والنكات في أغانيها، كلاما ولحنا، لا سيما مع فيلمون وهبي، كلما كان هناك تعلق بحقيقة لبنان والعيش لا بصورتهما المتوهمة.

صباح مع ابنتها هويدا

يقول فادي العبد الله: فيروز إن غنت لمشغرة (بلدة لبنانية)، بعثت بها إلى زمن تأسيسي لا يطال، مثلما تحول الجنوب أرضا أسطورية موهومة، وإن غنت لحبيب -عدا أغانيها المتأخرة مع ابنها زياد- تحولت أغانيها بحثا عن تنزيه الحُب عن كل رغبة وغريزة وجسد.

على العكس من كل ذلك، كانت صباح إن غنت لبيروت عددت أحياءها حيا حيا، من البسطة إلى الأشرفية مرورا بالصنائع وباب إدريس، وإن غنت للبنان -حتى في أغنية تزعم الرغبة في دزينة من العرسان- عددت قراه ونواحيه ناحية ناحية، من الأرز إلى سوق الغرب فمغدوشة ويحشوش، على شاكلة وديع الصافي.

كذلك كانت صباح عاشقة وغلبانة في مصر، لكنها كانت أيضا تلك التي تغني “الله يقصف عمر الحب وعمر اللي بصدق رجال”، وتغني “جوزي ما بيلفي عالبيت”.

وهي التي وازنت غناءها حين حن إلى الضيعة، باستذكار الفقر وعناء الحياة فيها، ورغبتها في حياة المدنية ورفاهها، (كما في غنائها مع وديع الصافي).

وهي التي، إن غنت لابنتها، لم تحاول أن تُنيمها برتابة الإيقاع، بل سألتها “أكلك منين يا بطة؟”، أو تغنت بخفة دم وروح صبيتها الحلوة.[iii]

لقد كان صوتها يتجلى على حقيقته في الأغاني اللبنانية والمواويل الجبلية ذات الامتدادات الصوتية، فينتقل صاعدا من طرفه الثقيل إلى طرفه الحاد وبالعكس، ممتدا على 14 مقاما سليما، ويندر أن تبلغ ذلك مطربة لبنانية في هذه الأيام.

مطربة الفن الجبلي اللبناني والأغاني المصرية

ما لبثت صباح أن صارت فتاة أحلام الشباب، وارتفعت أسهمها في مصر ولبنان، وتوالت بطولاتها السينمائية حتى بلغت نحو 85 فيلما مع كبار الممثلين، منهم رشدي أباظة، وأحمد مظهر، ومحمد فوزي، وفريد الأطرش، ومن الأفلام التي شاركا في بطولتها معا: “بلبل أفندي” (1946) و”إزاي أنساك” (1956).

صباح مع زوجها الممثل رشدي أباظة

ويمكن القول إن صباح استطاعت تطوير أدائها التمثيلي بشكل مقبول، وسخرت حضورها السينمائي لخدمة صوتها وإثراء إرثها الغنائي، الذي كان فيه لأغاني الأفلام نصيب مهمٌ ومختلف عما قدمته في مسرحياتها الغنائية وأغانيها المنفردة.

وقد أتاحت لها السينما فرصة التعامل مع أكبر ملحني مصر والعالم العربي، من أمثال محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، ومحمد الموجي، ورياض السنباطي وبليغ حمدي الذي أعاد تمصيرها فلحن لها 22 أغنية.

لقد أكسبها هؤلاء الملحنون أنماطا وقوالب مختلفة عما قدمته في أغانيها اللبنانية ومواويلها، فكانت المطربة اللبنانية الوحيدة التي استطاعت أن تكون من أهم مؤسسي اللون اللبناني الجبلي، وفي ذات الوقت من المطربات اللواتي أجدن الغناء باللهجة المصرية في الأفلام الغنائية.

أضف إلى ذلك أنها تعد من آخر المغنيات اللاتي عاصرن عصر التحديث الموسيقي، وتنوع وتطور الكثير من أشكاله وأساليبه.

وربما كانت ممن أسهمن في ذلك التطور والتنوع، بتقديمها وتمكنها في القيام بأنواع كثيرة من الغناء، تتراوح بين أغاني الأفلام، والاستعراض، والمسرحيات الغنائية، والمواويل (المصرية واللبنانية) وغيرها.

مكتبة ضخمة بالتعاون مع عمالقة التلحين

غنت صباح نحو 3500 أغنية، منها أغاني المهرجانات والأفلام والمسرحيات، فقد غنت لعمالقة العالم العربي، فغنت لمحمد عبد الوهاب “عالضيعة”، وبليغ حمدي “يانا يانا” التي أعادت غناءها على طريقة الدويتو مع المطربة اللبنانية رولا سعد، وفريد الأطرش “يا دلع دلع”.

وممن غنت لهم زكي ناصيف، والأخوين رحباني، وجمال سلامة، وملحم بركات، وعصام رجي، وتوفيق الباشا.

قدمت صباح عشرات المسرحيات ضمن مهرجانات بعلبك وبيت الدين وجبيل وغيرها، منها: “موسم العز”، و”دواليب الهوا”، و”القلعة”، و”الشلال”، و”فينيقيا 80″، و”شهر العسل”، و”ست الكل”.

وحملت آخر مسرحياتها عنوان “كنز الأسطورة”، مع زوجها السابق الفنان فادي لبنان، والممثل كريم أبو شقرا، وورد الخال.

تعد صباح أول فنانة عربية غنت على مسرح الأولمبيا في باريس، مع فرقة روميو لحود الاستعراضية، وذلك في منتصف الستينيات، كما وقفت على مسارح عالمية معروفة منها: “كارناغري هول” في نيويورك، و”دار الأوبرا” في سيدني، و”قصر الفنون” في بلجيكا، و”ألبرت هول” في لندن، ومسارح لاس فيغاس وغيرها.

الأيام الأخيرة.. وحدة في منزل كبير وتراث ضخم

عاشت صباح آخر أعوام حياتها في فندق بمنطقة الحازمية قرب بيروت، بعدما باعت منزلها، وقالت إنها فعلت ذلك لأن بيتها صار كبيرا عليها، فشعرت بالوحدة وقررت تركه.

ولم تتوان عن عقد مؤتمر صحفي، تنفي فيه إشاعات خيانة عائلتها لها وسرقة كل ما تملك، وأعلنت أنها باعت منزلها لتستر المحيطين بها، لا سيما ابنتها هويدا.

صباح.. فنانة حتى الرمق الأخير

من أهم أغنياتها التي حققت شهرة كبيرة على مدار تاريخها:

  • “ع الضيعة”.
  • “عاشقة وغلبانة”
  • “قابلت كتير”.
  • “ساعات ساعات”.
  • “جيب المجوز”.
  • “يانا يانا”.
  • “سلمولي على مصر”.

بالإضافة إلى مسرحياتها الغنائية:

  • “الأسطورة”.
  • “موسم العز”.
  • “دواليب الهوا”.

وتظل الأعمال خالدة في أسفار التاريخ الفني، في حين ترحل صاحبتها، تاركة خلفها بصمة من الصعب أن تمحى، وقد وافتها المنية في لبنان يوم 26 نوفمبر 2014.

 

المصادر

[i] سيرة حياة صباح منذ ولادتها حتى وفاتها، مجلة «سيدتي»، لندن، 26 نوفمبر 2014.

[ii] فادي العبد الله، في إثر الغواية: عن الموسيقى والنقد، دار الكتب خان، القاهرة، 2024، ص 97.

[iii] المرجع نفسه، ص 98.


إعلان