“مورغان فريمان”.. مهندس الطائرات الذي أصبح نجم هوليود وصوتها المميز
بدأ حياته مهندس صيانة للطائرات المقاتلة، وفجأة انقلب على مهنته وحياته الاجتماعية، فاستقال وذهب إلى حيث يهوى، هناك على خشبة المسرح وأمام الكاميرات. لكن واجهته سخرية كبيرة، فهجر هوليود إلى نيويورك بحثا عن عمل.
لكنه سرعان ما أفاق من كبوته، وارتدت إليه روح الأسد الأفريقي الشرس، فبدأ مسيرة المجد والجوائز الفنية العالمية والمال، ونال درجتي دكتوراه في الآداب، وملأت شهرته الآفاق، وأصبح صوته مضرب الأمثال في العمق والرقة والحكمة.
لكن ليس أسوأ من البدايات سوى النهايات في حياة نجوم التمثيل، فالمفارقة هائلة بين سنوات نجاحه شابا تحيط به أضواء الشهرة والمجد والمال والفرص الواعدة والأصدقاء، وبين شيخ عجوز يقف على أبواب التسعين، وقد اكتسى رأسه بلون الثلج، يقاتل في معركة أخيرة شبح النسيان.
وهو يستعين بما أوتي من تراث معرفي، ليكافح الضياع والمحو، في عالم يتذكره بدوره في “الخلاص من شوشانك” (The Shawshank Redemption) وحلقات “قصة الرب” (The Story of God) الوثائقية، التي يحكي فيها عن صورة الرب في شتى الثقافات.
إنه “مورغان فريمان” (Morgan Freeman) حكيم هوليود وملكها الأفريقي، الذي استُعبد جدّه وجُلب من النيجر في سلاسل حديدية إلى ولاية مسيسيبي الأمريكية، وهناك وُلد لأب يعمل حلاقا رجاليا، ويتمنى أن يتعلم ابنه “مورغان” المهنة ويمارسها، كيلا يجلس عاطلا على ناصية الشارع، فتلتقطه إحدى عصابات الشوارع.
ومع أنه وُلد في ممفيس بولاية تينيسي، فإن سوء حظه شاء إرساله للعيش مع جدته في غرينوود بولاية مسيسبي، وكانت في الأربعينيات والخمسينيات أكثر المناطق تمسكا بالعنصرية والتمييز ضد السود.
طفولة غرينوود.. نشأة في أشد المناطق عنصرية
كانت غرينوود بلدة صغيرة تقع في دلتا نهر المسيسيبي، وهي منطقة معروفة بتراثها الثقافي الغني، لا سيما في موسيقى “البلوز”، ولكنها أيضا مشهورة بفقرها الشديد، وفرصها الاقتصادية المحدودة، وعدم المساواة العرقية المنتشرة.
وكان اقتصاد البلدة زراعيا إلى حد كبير، وتهيمن عليه صناعة القطن، لكن ندرة الوظائف وانخفاض أجورها -لا سيما للسود- جعل ظروف حياة عائلة “مورغان” شديدة الصعوبة، وذلك ما أثر على تنقلاته المتكررة بين أفراد عائلته في مسيسيبي وتينيسي وإنديانا.
ومع ذلك فقد استطاع المجتمع الأمريكي ذو الأصول الأفريقية أن يتماسك، ويصنع قيمه وتقاليده، التي أنتجت موسيقى “البلوز”، ودفعت “مورغان” للإدمان على الفنون ورواية القصص، وقد كان مارس هواية التمثيل على مسرح المدرسة.
أيام الطيران.. مهنة أنهتها ملاحقة أحلام الطفولة
كان “مورغان” قد ألحق بمدارس ذات موارد محدودة، وكان الطلاب السود يدرسون في كثير من الأحيان في فصول دراسية مكتظة. وجاءت تجربته الأولى في التمثيل في إحدى هذه المدارس، مما أثار اهتمامه بالفنون مدى الحياة.
أتيحت الفرصة لـ”مورغان” بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، فدرس الفن من خلال منحة، لكنه كان يحلم بالطيران، فالتحق بالقوات الجوية، وعمل في صيانة الطائرات المقاتلة، ثم عمل طيارا مقاتلا.
لكنه ما لبث أن عاد إلى حلمه القديم، فنزل لوس أنجلوس ثم نيويورك لمتابعة التمثيل، وقد كافح كثيرا لتغطية نفقاته.
وخلال تلك المدة، عمل في وظائف غريبة لإعالة نفسه أثناء حضور تجارب الأداء، وواجه حالة من عدم اليقين بسبب عدم انتظام الدخل، وانعدام الأمن المالي.
أدوار الكوميديا.. بداية متواضعة في صناعة متحيزة
واجه “مورغان” رفض مستمر في عالم الفن، وكان عليه أن يخوض غمار بيئة تنافسية ومثبطة، ومع أنه كان موهوبا، فقد أمضى سنوات في القيام بأدوار صغيرة، قبل أن ينال التقدير الذي يستحق، وتطلب منه كثيرا من المرونة والمثابرة.
لم تكن هوليود في الستينيات والسبعينيات تقدم سوى القليل من الأدوار البارزة للممثلين السود، وكان معظم الأدوار المتاحة يعزز القوالب النمطية، أو يضع الشخصيات السوداء في أدوار ثانوية.
وقد عُرضت بعض هذه الأدوار على “مورغان”، لكنه رفضها، إلى أن لقي عملا في المسرح، ثم ظهر في مسلسل الأطفال الشهير “شركة الكهرباء” (The Electric Company)، وأدى مجموعة من الأدوار الكوميدية.
ومع أن ذلك وفر له بعض الاستقرار، فإنه لم يتماشَ مع رغبته في القيام بأدوار أكثر جدية وتعقيدا، وكان يشعر غالبا أنه مقيد، بسبب ميل الصناعة لحبسه في أدوار لا تظهر قدراته التمثيلية الكاملة.
نجاح متأخر يعوض سنوات الحلم الضائعة
لم يحقق “مورغان” النجاح إلا بعد أن بلغ الخمسين، أي أنه أمضى عقودا من العمل بلا شهرة ولا استقرار مالي، وذلك أمر يمكن أن يثني الآخرين عن الاستمرار في مثل هذا المجال التنافسي.
لكن نجاحه المتأخر جاء مضاعفا، وقد اقتربت ثروته حاليا من 250 مليون دولار، ونحو 20 جائزة عالمية، منها الأوسكار وغرامي، لكن بداية الأسطورة جاءت في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات.
حفظ مديرو الأستوديوهات وجه “مورغان” من فيلم “ذكاء شارع” (Street Smart) الذي عُرض عام 1987، وتدور أحداثه حول صحفي يختلق قصة عن قواد يرتكب عددا من جرائم القتل، وتصدقها الشرطة، في حين يطارده قواد مشهور بالعنف ليعرف مصدره، ويدرك الصحفي أنه تورط مع الأطراف الثلاثة، الصحيفة والشرطة والقواد.
تلقى “مورغان” أول ترشيح له للأوسكار بهذا الدور، وقد مهد له الطريق لصناعة أفلام أخرى، ولكن فيلم “قيادة الآنسة ديزي” (Driving Miss Daisy) الذي عُرض عام 1989 هو بداية الصعود الصاروخي، والتعويض الإلهي عن سنوات الحلم الضائعة في هوليود.
واصل “مورغان” تقديم أدوار تركت علامات لا تمحى في تاريخ السينما العالمية، منها:
- “المجد” (Glory) عام 1989.
- “الخلاص من شوشانك” (The Shawshank Redemption) عام 1994.
- “سبعة” (Se7en) عام 1995.
وقد عزز فيلم “سبعة” مكانته بوصفه نجما هوليوديا عملاقا، وكان نجاحه بمنزلة بداية رحلة لممثل حظي بكثير من الاحترام والحب.
“كلينت إيستوود”.. علاقة مميزة أثمرت الأوسكار الأول
اشتهر “مورغان” بشخصيته الودودة الدافئة، وقد استطاع أن يكوّن صداقات قوية مع ممثلين وصناع أفلام بارزين، على مدار مسيرته الفنية الطويلة، منهم المخرج والممثل “كلينت إيستوود”.
وقد قادت تلك العلاقة للعمل على فيلم “غير مغفور” (Unforgiven) عام 1992، وقد منحه إيستوود -وهو مخرج الفيلم- حرية تشكيل شخصيته في العمل كما يشاء، وذلك مستوى كبير من الثقة، وقد أثمر عن أول جائزة أوسكار ينالها.
ثم تعاون النجمان لاحقا في فيلم “طفلة المليون دولار” (Million Dollar Baby) عام 2004، ثم الفيلم الوثائقي “عامل إيستوود” (The Eastwood factor) عام 2010، وهو فيلم يسرد مسيرة “إيستوود” المهنية.
صداقات انعكست على أداء الشاشة
أصبح الممثل البريطاني “مايكل كين” أقرب أصدقاء “مورغان” إلى قلبه، بعد أن شاركه في ثلاثية “فارس الظلام” (The Dark Knight) التي بدأت عام 2005، وتتسم علاقتهما بالطرافة والضحك المتواصل.
وشهدت التحفة السينمائية “الخلاص من شوشانك” نشأة الصداقة التي جمعت “مورغان” و”تيم روبنز”، وهو ما انعكس على شخصيتيْ “ريد” و”إيدي” في العمل.
ثم جمعته صداقة مع “جاك نيكلسون” أثناء العمل في فيلم “قائمة الدلو” (The Bucket List) عام 2007، وهو فيلم عن رجلين مصابين بمرض عضال في رحلة لتحقيق أحلام حياتهما.
وقد كوّن الممثلان علاقة فريدة من نوعها، فكان “نيكلسون” معجبا بشخصية “مورغان” المتزنة، وكان “مورغان” يقدّر خفة دم “نيكلسون”.
رب العائلة.. استثمار يدفئ أعوام الشيخوخة
لا يختلف “مورغان فريمان” الأب عن الممثل، فهو ذلك الرجل المتفاني، الذي يتحمل مسؤولية التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة.
ومع أن تجربتيه في الزواج فاشلتان، فإن علاقاته الأسرية التي منحها عمره الماضي، هي سنده في خطواته المتسارعة نحو التسعين من عمره.
لدى “مورغان” أربعة أبناء، منهم 3 من صلبه وواحدة بالتبني، أما ابناه فأكبرهما “ألفونسو فريمان” المولود عام 1959، وقد سار على خطى والده وأصبح ممثلا، والثاني “سايفولاي فريمان” وقد ولد عام 1960.
وأما ابنتاه فهما “دينا أدير”، وقد ولدت عام 1963، وهي ابنة زوجته الأولى “جانيت أدير برادشو” لكنه تنباها، وآخر العنقود هي “مورغانا فريمان”، وقد وُلدت عام 1971.
“الخلاص من شوشانك”.. أيقونة خالدة في تاريخ السينما
صنع “مورغان فريمان” كثيرا من الأدوار المتميزة في أعمال ناجحة، سواء على المستوى النقدي والجماهيري، ومع ذلك فإن له بصمات ستبقى في ذاكرة الجمهور ما بقي الفن السابع.
ومنها فيلم “الخلاص من شاوشانك”، الذي جسد فيه شخصية “ريد”، أو المعادل الفني لشخصية إبليس في سجن “شوشانك”. وقد أُخذ العمل عن رواية للكاتب “ستيفن كينغ” تحمل نفس الاسم.
تدور أحداث الفيلم حول “آندي دوفرين” (الممثل تيم روبنز)، وهو مصرفي أُدين خطأ بجريمة قتل، وتنشأ صداقة في السجن بينه وبين “ريد” (الممثل مورغان فريمان)، فيخوضان معا تجربة الحياة الوحشية بين السجناء.
وقد استخدم صوته في تقنية السرد بالفيلم، فأضفى هالة من الرهبة على الحكاية، لكن تجسيده لشخصية “ريد” سار على خيط دقيق، بين الحكمة والضعف، ودفعه أداؤه الهادئ إلى قمة جديدة في عالم الإبداع.
“سبعة”.. محقق وقور يصنع توازن الفيلم
من الأفلام المميزة في تاريخ “مورغان” فيلم ” سبعة”، وتدور أحداثه حول المحقق “سومرست” (مورغان) الذي أوشك على التقاعد، وشريكه الأصغر سنا “ميلز” (الممثل براد بيت)، أثناء مطاردتهما لقاتل متسلسل، يتخذ الخطايا السبع المميتة دوافع لجرائمه.
وقد أضاف أداء “مورغان” المنهك المتأمل في العالم ثقلا للفيلم، على النقيض من شخصية “براد بيت” المندفع.
كما أضاف تصويره لشخصية المحقق الذي يواجه الجانب المظلم من الإنسانية إحساسا بالوقار، مما يساعد على تحقيق التوازن بين موضوعات الفيلم المكثفة والمزعجة.
أدوار مميزة منذ الثمانينيات
فاز “مورغان فريمان” عن دوره في فيلم “فتاة المليون دولار” بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد، فقد كان أداؤه يضيف عمقا إلى السرد الفيلمي.
بدا تفوق “مورغان” واضحا منذ نهاية الثمانينيات بالمحطة الكبرى، ألا وهي فيلم “قيادة الآنسة ديزي”، ويدور حول صداقة وتوتر عرقي في الجنوب الأمريكي.
يؤدي “مورغان” في الفيلم دور “هوك”، وهو سائق عجوز تدعى “ديزي” (الممثلة جيسيكا تاندي). وبمرور الوقت، تنشأ بينهما علاقة صداقة عميقة، على ما كان بينهما من حواجز اجتماعية في ذلك الوقت. وقد تلقى ترشيحه الأول للأوسكار عن هذا الدور.
وفي ثلاثية “فارس الظلام” (2005-2012)، قدم دور “لوسيوس فوكس”، وهو مدير تنفيذي رفيع المستوى في شركة “واين إنتربرايز”، وقد أصبح حليفا رئيسيا لـ”بروس واين / باتمان” (الممثل كريستيان بيل). وكان “فوكس” يزوّد “باتمان” بالتقنية والمعدات اللازمة، لمساعيه في مكافحة الجريمة.