شادية مدللة السينما.. عطاء فني كبير ونهاية في العمل الخيري
دخلت عالم الفن بمشهد صامت، وخرجت منه بمشهد صامت كذلك، لكنها ملأت الدنيا غناء وتمثيلا بين المشهدين، بصوت أحبته جماهير العالم العربي من المحيط إلى الخليج، وتربعت سنوات كثيرة على قمة الشهرة والمجد، ثم ظهرت “الحاجة شادية” في المشهد.
تبرعت “الحاجة شادية” بكل الأموال التي جنتها في سنوات الشهرة والمجد، وابتعدت عن عالم الأضواء، وبدأت منذ 1986 رحلة حياة جديدة، تسعى فيها إلى رضا الله، تتلو آيات القرب منه، وتستكمل بها تفاصيل أسطورتها الخاصة.
وخلال مسيرة انتقلت من دلوعة بابا إلى دلوعة السينما المصرية، ثم فتاة أحلام الجيل، ثم الممثلة والمطربة الناضجة، وأخيرا “الحاجة شادية” التي غافلت الزمن، واحتفظت بصورتها شابة جميلة تملؤها الحيوية.
لم تكن فاتوش قد بلغت 12 عاما حين صارحت والدها بأنها تحب الغناء والتمثيل، وتتمنى أن تصبح ممثلة، وقد ضحك وأكد لها أنه سوف يسمح لها بالعمل حين تكبر، وذلك أمر لم يكن معتادا في مصر، فلكل فنانة قصة عن مدى تعنت أسرتها ورفضها عملها بالفن.
لكن والدها كمال الدين شاكر -وهو مهندس زراعي ذو أصل تركي- لم يمانع عمل ابنته في الفن، بل ساعدها في مرحلة البدايات.
حين كبرت فاتوش، اختصرت كل رجال العالم في والدها، فقد منحها حبا وحنانا بلا حدود، وشجعها على الغناء والتمثيل، حتى أنه صحبها إلى أم كلثوم لتنصحها، وكانت الست صاحبة الفراسة الأولى بأن شادية ستكون مطربة كبيرة.
ولم يكن زواجها من عماد حمدي والفنان صلاح ذو الفقار، ولا حبها لفريد الأطرش، إلا محاولة لإيجاد شخصية شبيهة بالرجل الذي منحها حبا غير مشروط، ولم تجده من سواه.
محمد فوزي.. حب كاد يخرج شادية من عالم الفن
كان أول من اكتشف شادية هو المخرج والمنتج الراحل أحمد بدرخان، وقد استعان بها في مشهد صامت في فيلم لم يحقق نجاحا، لكنه كان قد تحدث عنها مع المخرج والمنتج حلمي رفلة، الذي أصبح أهم داعم لها في حياتها الفنية، وكان فيلم “العقل في أجازة” (1947) أول ثمار تعاونهما.
وقد شهد الفيلم وقائع كادت تدفع شادية لمقاطعة الفن، بسبب البطل الذي أحبها وطلب الزواج منها، ولكن والدها رفض ومنعها من عمل الفيلم، ولم يتراجع إلا بعد تعهد حلمي حليم بأن يصرف محمد فوزي النظر تماما عن الأمر.
وقد استعان فوزي بمحبوبته الصغيرة بعد ذلك في عدة أفلام، منها “الروح والجسد” (1948)، و”صاحبة الملاليم” (1949)، و”الزوجة السابعة” (1950)، و”بنات حواء” (1954).
عماد حمدي.. ثنائيات من أيقونات السينما
شكلت شادية بعد ذلك عددا من الثنائيات، أولها مع زوجها الأول الفنان عماد حمدي، وقد التقيا في “قطار الرحمة”، الذي كان متجها إلى الصعيد لأغراض خيرية عام 1952.
ولم ينتظر عماد حمدي كثيرا حتى يرتبط بها، وتزوجا عام 1953 أثناء تصويرهما فيلم “أقوى من الحب” (1953)، وقدما معا أفلاما صنفت من أيقونات السينما المصرية.
فمن تلك الأفلام “المرأة المجهولة” (1959) الذي غنت فيه أغنيتها المشهورة “سيد الحبايب”، ومنها فيلم “لا تذكريني” (1961)، وقد استمر تعاونهما حتى بعد الانفصال، كما في فيلم “ميرامار” (1969).
كمال الشناوي.. ثنائي مميز مع فتى الشاشة الأول
شكلت شادية ثنائيا آخر مع كمال الشناوي، وكان فتى الشاشة الأول في الأربعينيات والخمسينيات، ثم تزوج أختها فيما بعد، وقد قدما معا فيلم “المرأة المجهولة” (1959).
جسد الشناوي في الفيلم شخصية عباس، وهو مجرم يتسبب بهدم حياة فاطمة (الممثلة شادية)، ثم تمر السنوات ويظهر عباس في حياتها مرة أخرى، مهددا إياها بإخبار ابنها أنها سُجنت في قضية آداب، فتقتله.
ثم يتولى الدفاع عنها ابنها، وتخرج من السجن، ويكتشف زوجها السابق حقيقة أنها امرأة فاضلة، وأنها قتلته دفاعا عن أسرتها.
وفي فيلم “وداع في الفجر” (1956) جسدت شادية دور زينب، وهي زوجة تصاب بالشلل بعد سقوط طائرة زوجها الطيار الحربي المشارك في حرب 1948، ويجسد دوره كمال الشناوي.
يعكف جارهما على خدمتها لحبه الشديد لها، ثم يتزوجها بعد إبلاغهم أن زوجها الطيار أصبح في عداد المفقودين، ولكنه يعود بعد مدة من الأسر، وترفض زينب التخلي عن جارها الذي وقف معها في وقت شدتها.
وفي فيلم “ارحم حبي” (1959) تقدم شادية دور زوجة تخون زوجها مع رشدي (الممثل كمال الشناوي)، وهو طبيب سيئ السلوك، يرتبط بها وبأختها معا، فتشتعل الغيرة في قلبها، وتموت في حادث وهي في طريقها لبيته، ثم يكتشف زوجها بعد وفاتها خيانتهما.
وقد غنت شادية في هذا الفيلم إحدى أشهر أغانيها، وهي “إن راح منك يا عين”.
وفي فيلم “عش الغرام” (1959) تجسد شادية دور الفتاة البريئة، التي تصيب والديها أزمة مالية، ويدخل حياتها رجل بغرض استغلالها.
صلاح ذو الفقار.. أفلام ناجحة وزواج لم يكتمل
كان فيلم “أغلى من حياتي” (1965) بما يحتويه من حالة حب عميقة ودرامية، قد أصبح واقعا عاطفيا لبطليه صلاح ذو الفقار وشادية، فقد تأججت مشاعر الحب بينهما أثناء تصوير الفيلم عام 1965 في مرسى مطروح، ثم تزوجا بعد الفيلم بأشهر قليلة.
ولكن عجزها عن الإنجاب عدة مرات، أثر على حياتها الزوجية، فحدث الطلاق بينهما عام 1969.
وقد قدما معا أفلاما تعد من أهم الأفلام، منها “مراتي مدير عام” (1966)، و”كرامة زوجتي” (1967)، و”عفريت مراتي” (1968).
وقد صادفت شادية قصة حب أخرى، تحولت من وهم العمل السينمائي إلى قسوة الواقع، عندما مثلت مع فريد الأطرش في فيلم “ودعت حبك” (1956) للمخرج يوسف شاهين، فقد وقع فريد في حبها، لكن هذا الحب لم يكلل بالزواج، مع أنهما استمرا معا في الفيلم الشهير “أنت حبيبي” (1957).
عبد الحليم حافظ.. ثنائي أثمر لقب معبودة الجماهير
اكتسبت شادية لقب “معبودة الجماهير” حين مثلت مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ فيلم “معبودة الجماهير” (1967)، وقد قال عنها: شادية هي المفضلة لدي -غناء وتمثيلا- من بين كل الفنانات.
وكانت قد سبقت عبد الحليم في الشهرة والغناء، وساعدته في كسر حاجز الخوف من كاميرات السينما، عندما مثلت معه أول أفلامهما؛ “لحن الوفاء” (1955)، ثم استمر تعاونهما وقدما فيلم “دليلة” (1956)، وهو أول فيلم مصري ملون.
كما جمعت بينهما خارج التمثيل والغناء صداقة متينة، وتروي شادية أنها علمته قيادة الدراجة الهوائية، قبل تصوير أغنية “حاجة غريبة” في فيلم “معبودة الجماهير”.
“يا حبيبتي يا مصر”.. أغنيات وطنية خالدة
أصرت شادية في أكثر من حوار إذاعي وتلفزيوني على أنها ممثلة أولا، وأن الغناء ليس إلا جزءا مكملا للتمثيل، وهو أمر يبدو عكس ما يقترحه تأثيرها الطاغي في مجال الغناء، مع أنها لا يستطيع أحد إنكار حضورها التمثيلي، بما لها من أعمال سينمائية لا تنسى، منها دور فؤادة في فيلم “شيء من الخوف” (1969)، ودورها في فيلم “المرأة المجهولة” وغيرهما الكثير.
لكن محطاتها الغنائية -سواء اللون العاطفي والوطني- تركت أثرا لا يمحى، وكانت تحرص دائما على تقديم الأغنية الوطنية، وتقول في حواراتها التليفزيونية إن الغناء الوطني “عاطفي أيضا”.
ومن أبرز أغانيها الوطنية “مصر اليوم في عيد”، وقد غنتها يوم تحرير سيناء عام 1984، وكذلك مشاركتها المميزة في أوبريت “وطني الأكبر”، و”يا حبيبتي يا مصر”، و”يا أم الصابرين”، و”أقوى من الزمن”.
ومنها أيضا أغنية “الدرس انتهى لموا الكراريس”، وقد وثقت فيها مجزرة بحر البقر، التي ارتكبها الطيران الإسرائيلي بحق أطفال مدرسة بحر البقر بالإسماعيلية في أبريل/نيسان عام 1970.
صدمة السرطان الكاذب.. توجه إلى الغناء الديني
كان الغناء الديني دعاءً استجيب للفنانة شادية، فقد مرت في الثمانينيات بأزمة صحية ونفسية، بدأت بوفاة أخيها طاهر، وبعد موته أخبرها الأطباء أنها مصابة بالسرطان، فسافرت إلى الولايات المتحدة، واستئصل ثدياها، وكانت المفاجأة الصاعقة أنها لم تكن مصابة بالسرطان، فكانت الصدمة عنيفة.
آثرت شادية الانسحاب زمنا بعد ذلك، ثم قررت تقديم الغناء الديني فقط، وعُرضت عليها كلمات أغنية “خدي بأيدي”، وتقول مقدمتها:
جه حبيبي وخد بإيدي
قلت له: أمرك يا سيدي
جه وعرفني طريقي وسكّتي
وف هداه وف نوره مشيت خطوتي
وفي حماه هلّت بشاير فرحتي
والأمان فرد الجناح على دنيتي
قدمت شادية هذه الأغنية بكل مشاعرها، معلنة البعد عن الفن من غير أن تحرم أو تحلل أو تتنكر لما قدمته، وقد بلغ عطاؤها الفني أكثر من 130 فيلما و7 مسلسلات إذاعية ومسرحية واحدة، وهي “ريا وسكينة” التي حققت نجاحا فريدا من نوعه في تاريخ الفن المصري.
راعية المساكين.. مظاهرة حب في مشهد الرحيل
كان مشهد رحيل شادية في نوفمبر/ تشرين ثاني 2017 أقرب إلى حفل حب وتقدير واحترام، فهي الفنانة التي سكنت كل بيت في الوطن العربي، وقدمت دور الابنة والأخت الدلوعة الجميلة صاحبة الروح الطربة الخفيفة، وقدمت الفتاة الحالمة البريئة المحبوبة.
كما جسدت أيضا المرأة الناضجة التي تواجه طاغوتا في فيلم “شيء من الخوف”، وتحب بكل ما فيها في فيلم “أغلى من حياتي”، وحين تقرر التخلي عن المال والشهرة، تقوم بذلك بكل احترام وحب لماضيها.
وقد شهدت أعوامها خارج الفن عطاء لا حدود له، بدءا من تبرعها بكل ما جمعته من مال بالفن، وتقديمه لمؤسسات خيرية، ثم قيامها برعاية عشرات الأسر.
وقد شهد لها بذلك بعد رحيلها كثيرون، وشهدت جنازتها مشاركة مئات من الوجوه غير المعروفة، جاءت لوداع شادية المحبوبة في كل أحوالها.