“قرصان الأغاني”.. محاكمة لشاعر غنائي اتهمه خصومه بالسرقة

ولد مرسي جميل عزيز في يونيو/ حزيران 1921 بمدينة الزقازيق، ورحل يوم 9 فبراير/شباط 1980 إثر إصابته بمرض نادر، وما بين ذلك وذلك اشتهر بلقب شاعر الألف أغنية، وفكهاني الأغنية، وقد غنى كلماته بعض كبار المطربين والمطربات.

يعد مرسي أحد أشهر شعراء الأغنية العامية المصرية، وفارس الأغنية العاطفية، وقد كتب لكوكب الشرق، وللعندليب الأسمر، وكثير من أساطين الأغنية.

لكنه اتهم أيضا بسرقة بعض كلمات أغانيه من أغنيات أخرى، وجرى في ذلك حبر كثير على صفحات الصحف المصرية، حتى بلغ الأمر حد المحاكمة.

شاعر الألف أغنية

سمي الشاعر مرسي جميل عزيز شاعر الألف أغنية، بعد أن عمل لكوكب الشرق أم كلثوم أغنية “ألف ليلة وليلة”، وقال إنه سماها بهذا الاسم لأنه كان يعد أغنياته، حتى بلغت ألفا، فكانت أغنية “ألف ليلة وليلة” هي الأغنية رقم 1001، فأصر على كتابة الأغنية بهذا الاسم.

ومما كتب لها أيضا:

  • سيرة الحب.
  • فات الميعاد.

وقد غنى له عدد من كبار المطربين والمطربات، منهم الموسيقار فريد الأطرش، فمن أغنياته:

  • أنا وأنت وبس، من فيلم “الخروج من الجنة” (1967).
  • قلبي وعيني اختاروا.
  • منحرمش العمر منك.
  • اسمع لما أقولك.
الشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز

وغنت له صاحبة الصوت العذب شادية:

  • شباكنا ستايره حرير.
  • هنتقابل في كل مكان.
  • قالي إيه.
  • على عش الحب.
  • وحياة عينيك.

وغنت له أيضا وردة الجزائرية:

  • معقول أحب تاني.
  • أكدب عليك.

كما كتب لصاحبة الصوت النقي العذب فايزة أحمد أغنيات:

  • ليه يا قلبي ليه
  • حيران
  • يمه القمر ع الباب.

وغنى له المغني والملحن محمد فوزي أغنية “الشوق الشوق” من فيلم “ليلى بنت الشاطئ” (1959).

“من قرصان الأغاني الذي سرق أجمل كلمات الموسم؟”

يورد الناقد الموسيقي وجيه ندى وقائع معركة طريفة، وقعت أحداثها عام 1961، وقد كتبها في مقال بعنوان “مرسي جميل عزيز قرصان الأغاني”.[1]

ففي 28 أكتوبر/تشرين الأول 1961، نشر الصحفي والشاعر الغنائي جليل البنداري مقالا حادا في جريدة “أخبار اليوم” حمل عنوان: “من هو قرصان الأغاني الذي سرق أجمل كلمات الموسم؟”، وقد اتهم فيه مرسي جميل عزيز بالسرقة والقرصنة الفنية.

اتهم المقال مرسي بأنه سرق مطلع الأغنية الوطنيّة “أنا شفت جمال والنبي يمّه أنا شفت جمال”، من كلمات أغنية للشاعر أحمد شفيق كامل، جاء فيها: “قولوا للأجيال أنا شفت جمال أنا عشت معاه في زمان واحد..”، وهو اتهام أيّده الشاعر الغنائي مأمون الشناوي ودعمه.

الناقد الفني جليل البنداري

“واخد بالك يا مأمون!”

كان النقد اللاذع -الذي يصل حد التجريح أحيانا- معروفا عن جليل البنداري، الذي كتب سيناريو فيلم “شفيقة القبطية” (1963) للمخرج حسن الإمام، وهو فيلم اتهمه النقاد بتحريف سيرة أشهر راقصات النصف الأخير من القرن التاسع عشر في مصر، لأجل الحبكة الدرامية.[2]

لكن مرسي جميل عزيز كتب ردا عنيفا نشرته “أخبار اليوم” بتاريخ 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1961 بعنوان “أغاني الشعراء وأغاني صبيان العوالم!” وقد شن فيه هجوما على الكاتب جليل البنداري وعلى مأمون الشناوي أيضا، وقال عنه: أتحدّاه أن يقف أمام لجنة من النقاد والأدباء تمتحنه في أبسط قواعد الكتابة الفنية!

شرح مرسي جميل عزيز في مقاله أن جملة “أنا شفت جمال” لا تعد سرقة، بل لا تعدو كونها تعبيرا تلقائيا يرد على لسان أي إنسان يقف هذا الموقف، ثم انهال بالنقد والتجريح على كلمات أحمد شفيق كامل، التي زعموا أنه سرق منها، وكشف ما بها من اختلال واضطراب وتكسير في الأوزان.

ولم ينس أن يوجه اتهاما لمأمون الشناوي، بأنه سرق أغنيتين من أغانيه لليلى مراد من شاعر آخر، معلقا بقوله بالعامية المصرية: واخد بالك يا مأمون!

ثم ختم مقاله بنداء إلى “السادة كتابنا الكبار”، كي يقولوا كلمتهم في القضية المثارة بحسب قوله: أرجو أن نسمع كلمتهم التي تضع الحدود الفاصلة بين أدب الشعراء وأدب صبيان العوالم.

“منطق البطيخ.. ومنطق الفن والأدب”

جاء رد الشاعر مأمون الشناوي على صفحات الجريدة نفسها بتاريخ 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1961، فنشر مقالا بعنوان: “مرسي جميل عزيز إشاعة كاذبة في جو الأغنية – منطق البطيخ.. ومنطق الفن والأدب”.

ومما قال فيه: قلتُ كلمة الحق، وهي أن مرسي جميل قطع رأس الأغنية الضخمة، التي صور فيها المؤلف أحمد شفيق كامل أمجاد ثورتنا وكفاح بطلنا، ثم وضع مرسي لهذا الرأس جسما هزيلا نحيلا أعجف ينم عن هيئة مؤلفه.

كما حاول أن يغمز في تجارة الفاكهة التي ارتبطت بها أسرة مرسي قائلا: وتجارة البطيخ التي يزاولها مرسي جميل، والتي يجني من ورائها دخلا ضخما، هذه التجارة عملٌ شريف لا يحط من قدره كمؤلّف أو مواطن، ولكن لا ينبغي أن نستخدم منطق البطيخ في النقد الأدبي أو النقاش الفني، وإلا أصبح المجال الأدبي شاردا تختلط فيه نداءات الباعة بطلبات الزبائن، ويختلط فيه الحلو بالمائع، والطازج بالحامض، والسليم بالمكسور، والطيّب بالأقرع!

وإمعانا في مضايقته، شدد مأمون على رأيه السابق القائل إن مرسي سرق الأغنية، قائلا: حتى لو أغنية أحمد شفيق كامل مكسورة الوزن مهلهلة، فهذا لا يبرئ مرسي من لطش رأسها، وضمه إلى ممتلكاته الخاصة، ويكفي أن أغنية أحمد شفيق كامل شعر يمكن ترجمته لأي لغة، لكن كيف يمكن ترجمة “والنبي يمّه”؟

“جاء سارق المفاتيح ونشّال الأفكار من أدراج المكتب”

كان نفس العدد الذي نشر فيه مأمون الشناوي يحمل قذيفة أخرى موجهة ضد مرسي جميل عزيز، بتوقيع جليل البنداري، وتحمل عنوان: “حبك نار.. بتلوموني ليه.. يمه القمر ع الباب.. الأغاني التي ألفها غيره.. واشتهرت باسمه”.

الشاعر الغنائي مأمون الشناوي

وقد اتهمه البنداري في هذا المقال بسرقة مجموعة من أشهر أغانيه وأنجحها، وقدم قائمة أولية منها:

  • يمّه القمر ع الباب .
  • حبك نار.
  • في يوم في شهر في سنة.
  • بتلوموني ليه.
  • يا أسمر يا جميل.
  • أنا شفت جمال.

وأكد البنداري في مقاله أن محمد الموجي أخبره أن علاقته بمرسي كانت تسمح له بالاطلاع على الأغاني، التي يرسلها إليه الشعراء لتلحينها، وهي موجودة بدرج مكتبه، واستشهد بكتاب صدر عام 1922، يضم مجموعة من أغاني الست توحيدة المغنية المشهورة، وأخذ يورد الأغنية الأصلية والمنقولة منها على النحو التالي:

  • “يمه القمر ع الباب”، النسخة التي غنتها توحيدة يقول مطلعها:

يابه القمر ع الباب – نور قناديله
أرد يابه الباب – والّا أناديله

واستطرد: جاء سارق المفاتيح ونشّال الأفكار من أدراج المكتب، وأجرى تعديلا بسيطا وقدّمها على هذا النحو:

يمه القمر ع الباب – نوّر قناديله
يمه أرد الباب – والّا أناديله

  • “حبك نار” التي غناها عبد الحليم حافظ يقول مطلعها:

حبك نار قربك نار – بعدك نار
وأكتر من نار / نار يا حبيبي نار

وقد قدّمت هذه الأغنية مونولوجست اسمها سميرة عبده قبل عبد الحليم بـ17 عاما، وهي أغنية من نظم عبد الفتاح شلبي، يقول مطلعها:

حبك نار – قلبك نار – طبعك نار
خليت عيشتي مرار في مرار /نار نار نار

  • “بتلوموني ليه” التي غناها عبد الحليم في يوم 19 يناير/ كانون الثاني 1960، مسروقة من أغنية رجاء عبده التي يقول مطلعها:

بتلوموني ليه / روحوا لوموه هو

وقد سجّلها صاحبها الشاعر سعد عبد الرحيم بتاريخ 6 يونيو/ حزيران 1958.

“أنت وبس اللي حرامي”.. الجزء الثاني من الحملة

واصل جليل البنداري حملته بمقال آخر في “أخبار اليوم” يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1961، بعنوان “وسرق (أنت وبس اللي حبيبي)! أنت وبس اللي حرامي!”، واستكمل فيه قائمة الأغاني التي يتهم مرسي جميل عزيز بسرقتها، حتى وصلت 12 أغنية ومنها:

  • “شفت بعيني”، وكان قد كتبها لمحرم فؤاد، وهي مسروقة من أغنية الشاعر حنفي فراج، التي يقول في مطلعها: “شفت بعيني وقلبي قال لي”.

 

  • “عطشان يا اسمراني محبة”، وقد غنتها نجاة الصغيرة، وهي مسروقة من أغنية المطربة السودانية عائشة الفلاتية، التي كتبها الشاعر حنفي فراج، ويقول مطلعها: “يا حبيبي يا اسمراني محبة”.

وأضاف البنداري إلى قائمة الاتهام أغنيات أخرى منها:

  • انت وبس اللي حبيبي.
  • وقفوا الخطاب.
  • أبو رمش بيجرح ويداوي.
  • في العين دي والعين دي.

وهكذا في بقية الأغاني التي زعم أن الشاعر سرق مطالعها وأفكارها من الآخرين، كان يورد المطالع والكلمات المتشابهة، ويحاول توثيق ذلك بإثبات تواريخ الإذاعة لكل الأغاني والمقارنة بينها.

أغنية “يا قلبي خبي” كلمات مرسي جميل عزيز

لكن الغريب أن مرسي لم يهتز ولم يضطرب، وظل ثابتا متماسكا أمام هذا الاتهام، ولجأ إلى تفنيده ونقضه بطريقة لم يسبق لها مثيل!

“لا مجال للاتهام بأي سرقة”.. محاكمة على رؤوس الأشهاد

أرسل مرسي جميل عزيز إلى جريدة “أخبار اليوم” شيكا بمبلغ 500 جنيه، مقابل أن تعقد الجريدة محاكمة علنية، تستدعي لها مجموعة من كبار النقاد والأدباء، للتحقيق والتحري عن صحة الاتهامات التي وجهها جليل البنداري.

وقد انعقدت تلك المحاكمة في الصفحة السادسة من عدد يوم 9 ديسمبر/ كانون الأول 1961، وكان من أعضاء هيئة المحكمة الأدبية عدد من القامات الأدبية والفنية، وهم:

  • د. علي الراعي.
  • د. لويس عوض.
  • د. عبد القادر القط.
  • د. محمد مندور.
  • الشاعر صلاح عبد الصبور.

وقد استعرضت اللجنة كلمات أغنية أحمد شفيق كامل التي يقول فيها:

إنت وبس.. روحي وقلبي
عمري وأملي.. وكل نصيبي
إنت وبس.. إنت وبس اللي حبيبي.

في حين يقول مرسي جميل عزيز في أغنيته:

أنا قلبي إليك ميّال
ومفيش غيرك ع البال
إنت وبس اللي حبيبي
مهما يقولوا العذّال

فقال د. محمد مندور عن هذا التشابه: إن الأغنيتين مختلفتان تمام الاختلاف، وإن كان الطابع الشعبي والنغم الشعبي واضحين فيهما معا، لذلك لا مجال هنا للاتهام بأي سرقة، فالأغنيتان مختلفتان.

وقال صلاح عبد الصبور: لا مجال للمقارنة بين الأغنيتين؛ لأن مفتاح أغنية مرسي جميل هو (أنا قلبي إليك ميّال) وليس (إنت وبس اللي حبيبي). وهكذا انقعد إجماع هيئة المحكمة على أن الاتهام بسرقة الأغنية غير صحيح.

حكم البراءة.. نهاية معركة أنصفت مرسي جميل عزيز

بعد التحقيق وفحص الأدلة والمستندات، أصدرت المحكمة حكمها بتبرئة مرسي جميل عزيز من تهمة السرقة في 10 قصائد على الأقل. وجاء منطوق الحكم وحيثياته على النحو التالي:

  • أولا: يميل الرأي العام للنقاد إلى تبرئة مرسي جميل عزيز من تهمة السرقة في عشر قصائد، وهناك رأي آخر يميل إلى اتهامه بالاقتباس في قصيدتين (أي أغنيتين)؛ وهما “يا أبو رمش بيجرح” و”يمّه القمر ع الباب”.
  • ثانيا: يجمع النقاد تقريبا على أن موهبة مرسي جميل عزيز لا شك فيها، والذين يسلّمون من النقاد بأن مرسي جميل عزيز قد استعار شيئا من الآخرين، هناك شبه إجماع على أن مرسي تفوق على الذين أخذ منهم تفوقا كبيرا وملحوظا.
  • ثالثا: قاموس الأغاني عندنا محدود، والكلّ يأخذ من التراث الشعبي، وهذا سبب كبير من أسباب التشابه والالتقاء بين المؤلّفين.

وقد جاءت براءة مرسي جميل عزيز علنية، تماما كما كان اتهامه بالسرقة والانتحال على الملأ، وبذلك انتهت وقائع معركة طريفة دارت بين النقاد والعارفين بخبايا صناعة الكلمة والغناء.

 

هوامش

[1] وجيه ندى، مرسي جميل عزيز قرصان الأغاني، موقع «دنيا الوطن» الإلكتروني، 8 يناير 2019.

[2] أسامة جاد، مرسي جميل عزيز.. العيب فيكم يا ف حبايبكم، مجلة «الهلال»، دار الهلال، القاهرة، يوليو 2020.


إعلان