نبيل الحلفاوي.. ضيف خفيف على الفن والحياة

وقف الفنان الكبير نبيل الحلفاوي، الذي رحل عن عالمنا يوم الأحد 15 ديسمبر/كانون الأول 2024، في منطقة وسطى بين جنة حياته ونارها، فقد أحب من الفن، التمثيل فقط، وكره الحفلات، والتكريمات والمهرجانات. أحب القراءة والكتابة، والشعر، لكنه لم يصدر سوى ديوان واحد هو “في نهاية الرحلة” عام 1987.

رفض الظهور في البرامج التلفزيونية رغم العروض الكثيرة والإغراءات المالية، وتحدث إلى جمهوره عبر مواقع التواصل الاجتماعي فقط، ولم يطمع في نجومية أو ثروة، أو شهرة عالمية، لكن الممثل الموهوب اختار مساحة تخصه، وقمة تتسع له وحده في قلوب محبيه.

الفنان نبيل الحلفاوي رحل عن عمر يناهز 77 عاما

اعتاد نبيل الحلفاوي على قول “لا” قبل “نعم”، فرفض من الأدوار الكثير، ذلك أن الشرط الأساس للموافقة على المشاركة في العمل هو أن يحب الدور نفسه، لذلك بقيت أدواره التي أحبها جمهوره.

ورغم أن “معلا قانون” كان شريرا، إلا أن الحلفاوي قدم وجهه الطيب المحب، فأحبه الجمهور، ورغم السيرك الكوميدي الذي نصبه الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي لمشهده الأشهر في فيلم “الطريق إلى إيلات”، حين اضطر إلى توسيع فتحة جهاز التفجير عندما اكتشف فريق التنفيذ في اللحظة الأخيرة أنها لا تصلح بهذا الشكل لتفجير المدمرة الإسرائيلية، إلا أنه شاركهم ضحكهم.

عاش الحلفاوي وحده إلا من دائرة ضيقة من الأصدقاء الذين كان يراهم على فترات متباعدة، ودائرة، أخرى، اتسعت لأكثر من مليوني شخص، كان يتحدث إليهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لذلك فاز بالوصال، رغم العزلة والوحدة والاستغناء.

الوجه الذي يختصر ملامح المصريين

من الصعب الوصول إلى إحصائية دقيقة للمصريين الذين يشبهون نبيل الحلفاوي، لأن ذلك الوجه الشاهق يشبه كل المصريين، ولا يشبه -في ذات الوقت- إلا نفسه، وهو وجه يبدو، حين يبتسم، أشبه بواجهة قصر عريق داهمه الزمن، لكنه ما زال يحتفظ بقدرته على مواجهة الرياح، ولعل الشخصيات التي نجح في تقديمها هي الأكثر تأكيدا لملامح ذلك الوجه.

تبرز بصمة الفنان، الذي وافته المنية بعد صراع مع المرض، في شخصية “معلا قانون” الهرم الصعيدي الصلب وريث القيم التي لا تقبل التنازل، الذي يفرض كلمته على الجميع، فهو العمدة الفعلي لقريته.

نبيل الحلفاوي في فيلم “الطريق إلى إيلات 1993”

كما ظهر ذلك جليا في شخصية “نديم قلب الأسد” أو “نديم هاشم” رجل المخابرات المصرية، الذي جسده في ملحمة “رأفت الهجان، وفي شخصية ” العقيد محمود” قائد تدريب المجموعة التي دمرت المدمرة الإسرائيلية إيلات عام 1969، الذي كان مستعدا للتضحية بحياته راضيا لإتمام مهمة المجموعة في فيلم ” الطريق إلى إيلات” 1993، الذي تناول الهجوم المصري على ميناء إيلات الإسرائيلي، عبر مجموعة من الضفادع البشرية التابعة لسلاح البحرية المصري، وتمكنوا خلاله من تدمير سفينتين حربيتين هما “بيت شيفع” و”بات يم” والرصيف الحربي، ثم عودة هؤلاء الضفادع سالمين بعد إتمام مهمتهم بنجاح، بعد استشهاد بطل واحد.

وتطفو الانطباعات المؤقتة عن نبيل الحلفاوي باعتباره “عمدة الأهلاوية” صاحب الروح الرياضية الذي لا يتردد في تهنئة الفريق المنافس عند الفوز بإحدى البطولات، وباعتباره، أيضا، واحدا من الفنانين الذين اتخذوا موقفا مضادا لثورة يناير ومحرضا على الثوار، وذلك عبر تغريداته في موقع “إكس”، “تويتر سابقا”.

كان ” الكمبيوتر” في مراحله الأولى قد لفت نظر نبيل الحلفاوي، وذلك عبر كتابات الكاتب الصحفي الراحل أحمد بهاء الدين، الذي ألح بشكل غريب على أهمية الاختراع الذي كان جديدا حينها. انصب اهتمام الفنان نبيل الحلفاوي على التكنولوجيا، واهتم بالمعرفة والتطبيق في بعض الأحيان، لكن دخوله إلى عالم التواصل الاجتماعي جاء متأخرا، وبالتحديد بعد ثورة يناير 2011.

ابن مخلص لجيل يوليو 52

أفرزت التحولات السياسية والاجتماعية في مصر خلال منتصف القرن الماضي فروقا واضحة تميز عددا من الأجيال عن بعضها، وتضفي على كل منها سمات خاصة، فالذين ولدوا وكبروا قبل تولي حكومات يوليو 52، كانت الليبرالية جزءا من طريقة تفكيرهم ولم يكن اختلافهم مع الآخرين إلا إغناء للقضية التي يقع الاختلاف حولها.

أما أولئك الذين شاء قدرهم أن تكون طفولتهم ومراهقتهم ومن ثم شيبتهم تحت حكم يوليو 52 أي خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي -ومن بينهم نبيل الحلفاوي- فقد كانت الدولة، بالمعنى السلطوي، تمثل جزءا من كيان كل منهم، فقد توحد الحاكم والدولة في تلك الفترة، حتى أن المصطلحات الدارجة إعلاميا كانت من نوعية “مصر عبد الناصر” و”مصر السادات” وما إلى ذلك.

اتخذ الراحل نبيل الحلفاوي موقفا واضحا ضد ثورة يناير 2011

وينتمي الفنان الراحل إلى ذلك الجيل الذي نشأ في ظل خطب حماسية، ومد قومي، واتهام جاهز بالعمالة والخيانة لمن يختلف مع الحاكم، وهو ما حدا بالجيل إلى الانقسام بين ناصري يعتبر المساس بالرئيس الذي رحل عام 1970 تدنيسا للبلاد ومسيرتها، وبين الحاكم الحالي أيا كان باعتباره “مصر” وبالتالي أصبح المساس أو النقد أو المعارضة هو إساءة لمصر.

وفي الدائرة الأصغر، ينتمي نبيل الحلفاوي إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، وهي شريحة الفنانين، التي تملك السلطة السماح لها أو المنع عن تقديم فنونها عبر آليات الرقابة والإعلام المملوك للدولة وغيرها، وهو ما يجعل من ارتباط الفنان بالسلطة جبرا، لا اختيارا.

وهكذا اتخذ الفنان الراحل موقفا ضد ثورة يناير 2011، ومعه العديد من الفنانين الذين تحولت مواقفهم بعد نجاحها، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه بعد أن هزمت.

وتنتمي شريحة الفنانين والطبقة الوسطى بكاملها، إلى كتلة الشعب المصري الذي تتنوع أطيافه وأجياله ومواقفه، ويحق لها التعبير عنها، وهي مواقف وأراء لا تصح المحاسبة عنها باعتبارها جرائم، أو خطايا، لأن الرجل أخلص لجيله ولطبقته، كما أخلص الثوار لأحلامهم.

ولعل نعي رئيس الوزراء المصري للفنان نبيل الحلفاوي هو أكثر ما لفت الأنظار إلى علاقة الرجل بالسلطة التي لم يثبت أنها أكثر قوة من غيرها، وجاء في بيان رئيس الوزراء” أن الفقيد كان قامة فنية شامخة؛ إذ قدّم عبر سنوات إبداعه الطويلة أعمالا فنية جادة، وساهم في تجسيد بطولات وطنية عظيمة، وتخليد شخوص مصرية حقيقية خالصة، وتظلّ أعماله ماثلة في وجدان المُشاهد المصري والعربي”.

من فارسكور إلى المعهد العالي للفنون المسرحية

ولد نبيل الحلفاوي عام 1947، ودرس التجارة، ثم التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ليتخرج مع دفعة عام 1970، وهي دفعة ضمت نجوما حاليين مثل محمد صبحي ولطفي لبيب، كما سبقه بسنوات في المعهد الفنان نور الشريف، وجاء في دفعة تالية له الفنان أحمد زكي، والفنان يونس شلبي، والفنانة سناء يونس، وتتلمذوا في المعهد على يد المخرج الكبير جلال الشرقاوي.

لم يكن التمثيل حلم “نبيل” الذي رأى محمد علي كلاي مثلا وقدوة، وأراد أن يكون صورة منه، وأن يكون بطل العالم في الملاكمة، لكنه لم يكن محظوظا بما يكفي لذلك، فكان المسرح هدفه الجديد. وبالفعل عمل في المسرح القومي بدءا من عام 1972.

غير أن هواية أخرى طاردته وهي كتابة الشعر، فقد أصدر ديوانا بعنوان “نهاية رحلة الأحزان” عام 1987، أهداه إلى زوجته الثانية “نادية”، وابنيه “خالد”، و”وليد”، وتضمن الديوان 14 قصيدة، منها: حادي بادي، وسندريلا، ونهاية رحلة الأحزان، واعتذار شاعر بني عامر، ودموع المسرح.

ديوان نبيل الحلفاوي “نهاية رحلة الأحزان”

وفي قصيدة “نهاية رحلة الأحزان”، كتب “يا رحلة أحزاني، هل حان الوقت؟ هل تلك نهاية خطواتي بطريق الشوك؟ أم أن هناك بقية، مازالت في علم الغيب؟ طيلة سنوات عشر، والليل الأسود يغمرني، وشهاب أحيانا يلمع، لكن يسقط محترقا”.

قدم نبيل الحلفاوي أول أدواره للشاشة الصغيرة عام 1980 في مسلسل “محمد رسول الله”، الجزء الأول. وقدم في فترة الثمانينيات أعمالا متنوعة، منها أفلام “موت أميرة”، و”ثمن الغربة”، و”المحاكمة”، و”الفقراء لا يدخلون الجنة”، و”آباء وأبناء”.

ومن مسلسلاته “الأزهر الشريف منارة الإسلام”، “غوايش”، “لا إله الا الله” الجزء الثالث “، “الحب وأشياء أخرى”، ومسرحية “عفريت لكل مواطن”, ونال الفنان الراحل جائزة أحسن ممثل من الجمعية المصرية لفن السينما عن فيلم “اغتيال مدرسة”.

نبيل الحلفاوي في مسرحية “عفريت لكل مواطن”

وبلغ الحلفاوي ذروة نجاحه وشهرته في فترة التسعينيات، حيث شارك في أكثر من عمل طبع في ذاكرة المشاهدين، بينها مسلسل “رأفت الهجان”، وفيلم “سوبر ماركت”، وفيلم “شبكة الموت”، وفيلم “سيدة القاهرة”، ومسلسل “سور مجرى العيون”، ومسلسل “دموع صاحبة الجلالة”، وفيلم “الطريق إلى إيلات”، وفيلم “عنتر زمانه”، ومسلسل “الزيني بركات”، ومسرحية “طقوس الإشارات والتحولات”، وفيلم “الهروب إلى القمة” والذي حاز على جائزة أفضل ممثل من مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي عن دوره فيه، ومسلسل “دمي ودموعي وابتسامتي”، ومسلسل “حكاية بلا بداية ولا نهاية”، ومسلسل “زيزينيا” الجزء الأول، ومسلسل “أوراق من المجهول” وفيلم “حكاية مدينة”

معلا قانون والقبطان وقلب الأسد

لم يكن “معلا قانون” هو محور مسلسل “غوايش” 1968، ورغم ذلك صار الشخصية المحورية بالنسبة لجمهور المشاهدين، وتدور القصة الأساسية حول (غوايش)، وهي فتاة بسيطة تبيع الحلي النسائية المزركشة في الموالد، وفي إحدى قرى الصعيد، التي تشهد غليانا بين (معلا)، الشخص الأقوى في القرية، وبين جانب من أهل القرية، تلتقي “غوايش” بـ”حسانين” الشاب الهادي المتعلم (شقيق معلا قانون)، ويقع في حبها، لكنه يتهم ظلما بالقتل.

استطاع نبيل الحلفاوي أن يحسم المنافسة مع نجوم الدراما في ذلك الوقت من أمثال فاروق الفيشاوي الذي لعب دور شقيقه حسانين في العمل، وأحمد راتب في دور (مجاور رجوبي)، وغيرهم، وأصبح العمل الذي كان يعرض مساء كل يوم سببا في خلو الشوارع من المارة والبقاء في المنازل انتظارا لمشاهدة معلا قانون.

نبيل الحلفاوي في دور “معلا قانون” بطل مسلسل “غوايش” 198

كانت شخصية “معلا قانون” تمثل الجانب الأقرب إلى الشر والصلابة والرجعية، والتمسك بعادات الثأر والميل للعنف والخشونة، لكن نبيل الحلفاوي قدم تلك الشخصية الشريرة بشكل أكد على إنسانيتها، وقدرتها على حب الآخرين ببراعة. فاحتفى بأدائه كبار الأدباء مثل يوسف إدريس، وصالح مرسى والروائي السوداني الراحل الطيب صالح.

أما في دور”العقيد محمود” قائد المجموعة في فيلم المخرجة المصرية إنعام محمد علي فيلم ” الطريق إلى إيلات” عام 1993، عن سيناريو وحوار الكاتب الراحل فايز غالي، فقد جسد نبيل الحلفاوي الشخصية بشكل مذهل، إذ عبر بعينيه عن الحيرة والتصميم والاستعداد للفداء، كما عبر بأصابع يديه حين قرر توسيع دائرة التفجير في إحدى العبوات، وذلك في المشهد الأشهر له، والذي انتشر على موقع “اكس” (تويتر) سابقا، ولا يزال، رغم مرور أكثر من عشرين عاما على عرض الفيلم.

البصمة الثالثة للممثل والشاعر نبيل الحلفاوي جاءت من خلال نديم هاشم رجل المخابرات المصري، حين جسد القصة الحقيقية لضابط المخابرات محمد نسيم، وذلك في ملحمة رأفت الهجان بجزئيها.

ويحكي الممثل الراحل قصة تكليفه بالدور قائلا ” الحكاية لها جذور، طلبني المخرج يحيى العلمي في الجزء الأول وكنت قد قرأت الرواية، واعتذرت قائلا: مشاركتي في العمل لن تكون إلا عبر دور نديم، الذي يظهر في الجزء الثاني.

قبل تصوير الجزء الثاني من العمل قرأت أن الأستاذ كرم مطاوع سيقدم دور نديم فاعتبرت الأمر منتهيا، ثم فوجئت باتصال من الأستاذ يحيى العلمي يطلبني للمشاركة، فاعتذرت، فقال أريدك لدور نديم قلب الأسد، فسألته عن كرم مطاوع قال: هو اعتذر، فطلبت منه مهلة، لمقابلة الأستاذ كرم أولا، ثم ذهبت إليه وهو يصور عملا آخر، وسألته عن السبب وراء اعتذاره، فأكد أنه اختلف مع العلمي حول توقيت ظهوره، فقلت له دعني أقنعه، فرد بأنه مشغول بأعمال أخرى، وأكد أن هذا موقفه النهائي، وتمنى لي التوفيق في أداء الدور”.

نبيل الحلفاوي في مسلسل “رأفت الهجان”

وكان نديم هاشم الذي اشتهر بلقب قلب الأسد لشجاعته، وجرأته في المواقف الخطيرة، قد تولى متابعة “رأفت الهجان”، الذي جسد دوره في المسلسل الفنان محمود عبد العزيز، وعندما طلب للهجان إنهاء مهمته والعودة إلى مصر، سافر إليه نديم في قلب اسرائيل دون تردد، واحتوى مخاوف العميل، ومن ثم بدأ في إدارة شؤونه وإبعاده عن “ايستر” اليهودية التي وقع في حبها، ثم علمه الكتابة بالحبر السري الذي كان جديدا حينها.

جاء أداء نبيل الحلفاوي هادئا واثقا، وتجسدت خبرة الممثل الراحل في إطلاق طاقة العينين عبر نظرات تحمل المعنى قبل أن ينطق الكلمات التي تنقله، ليترك المشاهد بين مشاعر متضاربة من الطمأنينة أو الخوف أو القلق بانتظار أن يستكمل “نديم قلب الأسد” جملته المعبرة عن المعنى.


إعلان