المخرجة “صوفيا كوبولا”.. سينما ناطقة بأوجاع الطبقة الشقراء الثرية

لطالما كانت سينما المخرجة الأمريكية من أصل إيطالي “صوفيا كوبولا” (Sofia Coppola)، لا تسكنها إلا شابات شقراوات جميلات ثريات حزينات، فجميع أعمالها تستحضر الوحدة والملل، التي تعيشها نساء يبحثن عن الحرية والحب، ويعشن معزولات عن العالم الخارجي في أماكن فاخرة.

فعلى مدى 25 عاما، كانت أفلامها تضعنا دائما أمام شابات محاصرات في أقفاص مذهبة، بفندق فاخر في طوكيو، أو وسط قصر غريسلاند في ولاية تينيسي الأمريكية، أو في منزل مريح من طابقين في الضواحي، تحت مراقبة الوالدين المفرطين في الحماية، أو في قصر فرساي بفرنسا.

ملصق فيلم “ماري أنتوانيت”

يظهر ذلك جليا في:

  • “انتحار العذارى” (The Virgin Suicides) عام 1999.
  • “ضائع في الترجمة” (Lost in Translation) عام 2003.
  • “ماري أنتوانيت” (Marie Antoinette) عام 2006.
  • “المخدوع” (The Beguiled) عام 2017.
  • “على المحك” (On the Rocks) عام 2020.
  • “بريسيلا” (Priscilla) عام 2023.

تائهة خلف زجاج النافذة.. فكرة مكررة

من السمات البصرية المميزة لأعمال “صوفيا كوبولا” بطلة تنظر من النافذة، معزولة عن العالم الخارجي، كأن كل بطلات أفلامها راغبات في التفاعل مع عالم يشعرن أنهن منفصلات عنه، ويتساءلن كيف هي الحياة على الجانب الآخر من الزجاج؟

تمتلئ أفلامها بالزجاج والأسطح العاكسة، وعادة ما تظهر انعكاسات ذلك العالم في الزجاج، هذه النظرة العاكسة تلخص جميع موضوعاتها المفضلة؛ الاغتراب والمراقبة والتوتر والعزلة.

كما تظهر بطلاتها الشابات دائما وهن ينظرن من نافذة السيارة، وتلك صورة سائدة في كل أفلامها تقريبا.

ففي فيلم “ضائع في الترجمة” (Lost in Translation)، نرى شخصية “شارلوت” (الممثلة سكارليت جوهانسون) وهي تحدق من نافذة حافلة، فتظهر لنا منظر مدينة طوكيو في اليابان. ويستند المشهد إلى فكرة الهروب من الواقع والعزلة المتكررة في شخصيات أفلام “صوفيا كوبولا”.

“صوفيا كوبولا” تتوسط بطلات فيلمها “المخدوع”

وكذلك في فيلم “انتحار العذارى” (The Virgin Suicides)، نرى تعلق الشقيقات الخمس بالنظر من نوافذ منزلهن الممتدة من الأرض إلى السقف، رغبة منهن في تحريرهن والتفاعل مع العالم، بعد قرار أمهن إخراجهن من المدرسة، وعزلهن عن العالم الخارجي.

ليست أفلام “صوفيا كوبولا” مجرد سرد قصصي، بل تجربة حسية تجمع بين الجماليات البصرية والبعد النفسي العميق. وتتسم أعمالها بأسلوب بصري بسيط ولكنه مدروس بعناية، فهي تمزج بين الألوان والإضاءة والموسيقى، لخلق عالم سينمائي يحمل بصمتها.

إن ذوق “صوفيا” الرفيع لا يمكن إنكاره ولا يتطلب اكتشافه أي مجهود، كما أن أفلامها تشعرك بالشباب والجمال والحزن. إنها فكرة مغرية بشكل لا يصدق، وقد أكسبتها احتراما نقديا كبيرا، وقاعدة جماهيرية كبيرة، ومكانة مميزة بين مخرجي جيلها.

الحياة في فقاعة الامتياز.. وجه الحكاية الآخر

ركزت “صوفيا كوبولا” انتباهها الشديد على الشخصيات التي تعيش داخل فقاعات الامتياز، ومناطق القصص الخيالية، حيث يتحول السحر الخفي للثروة والسلطة والأمنيات إلى حقيقة.

في فيلمها “في مكان ما” (Somewhere) الذي أخرجته عام 2010، نرى بطلها نجما سينمائيا (الممثل ستيفن دورف)، يعيش وحيدا بقصر “شاتو مارمونت” في لوس أنجلوس، وفي فيلم “ماري أنتوانيت” نرى بطلتها (الممثلة كيرستين دانست) تعيش حياة مدللة.

يعيش البطلان في الفيلمين حياة مدللة تجعلهما عرضة للحسد والاستياء، ولكن عدسة “صوفيا” تفحصهما بتعاطف هادئ ومنفصل، ولا ترضى بالسخرية منهما ولا الحكم عليهما، بل تشرح ظروفا روحية لأناس ربما بدوا في حياة سطحية خالية من الهموم.

المخرجة “صوفيا” جالسة في مكتبها

فجميع أبطالها يقضون جل وقتهم بعيدا عن المجتمع، ففي فيلم “ضائع في الترجمة” نرى “بوب” و”شارلوت” يتنقلان بين غرفهما وملهى الفندق في طوكيو، وفي فيلم “ماري أنطوانيت” نراها تتراقص داخل جدران قصر “فرساي” المذهبة، وفي فيلمها “في مكان ما” نرى بطلها “جوني ماركو” يقضي أيامه وسط قصر “شاتو مارمونت”.

حوض الاستحمام.. سيل المشاعر الجارفة والانكسار

في كثير من أفلام “صوفيا”، يمكن رصد أوجه تشابه بين الحكايات وكيفية تقديمها، فهي تتبع موضوعا متكررا في أفلامها، فنرى البطلة الشابة وهي غاضبة في حوض الاستحمام، محاطة بالاضطراب والحزن الذي يغزو حياتها.

المخرجة “صوفيا” توجه بطلة فيلم “بيرسيلا”

يمكن أن نرى هذه الحالة في فيلم “ماري أنتوانيت”، حين تغمر “ماري” نفسها بهدوء في حوض الاستحمام بعد يوم حفل عيد ميلادها، وتحاول استيعاب الأشياء الجيدة في الحياة والملابس والحفلات وما إلى ذلك، وكل ذلك بتعبير وجه متجهم، في حين تكافح “افتقارها إلى العلاقة” مع زوجها الملك لويس السادس عشر.

وفي فيلم “كوبولا بريسيلا”، تستلقي البطلة “بريسيلا” في حوض الاستحمام، وتفكر بعلاقتها المضطربة مع “إلفيس بريسلي”.

فالشابات في أفلام “صوفيا” كأنهن ألغاز تنتظر الحل، فهن يتحدثن قليلا ولا يشرحن شيئا، ومع ذلك فإنهن لسن دمى ولا ضحايا، بل لديهن جذور عميقة وقوة داخلية، تنطلق في لحظة ما.

تجسيد الانعزال في القصور المذهبة

ليس المنزل في أفلام “صوفيا كوبولا” مجرد مكان، بل هو انعكاس داخلي لأبطالها، فالقصر والقلعة والغرفة المغلقة كلها رموز للعزلة التي تعيشها البطلات.

ففي فيلم “انتحار العذارى”، تجسد العائلة قسوة العزلة، فتصبح الفتيات الخمس أسرى منزل يخنقهن، بفعل القمع الأبوي الذي يفرض قيودا صارمة، فالمنزل هنا ليس ملاذا، بل سجنا ناعما يخفي خلف أبوابه ألما عميقا.

وفي فيلم “ماري أنتوانيت”، يصبح قصر فرساي ساحة لاستعراض البذخ والترف المحيط بالأميرة النمساوية الشابة، بعدما أصبحت ملكة فرنسا، لكنه يظل مكانا يذكرها بوحدتها وغربتها، في بيئة لا تنتمي إليها. فالقصر بحدائقه الشاسعة وأروقته المذهبة، يصبح رمزا لسجن يطوق حياتها.

“صوفيا” مع والدها المخرج الشهير “فرانسيس كوبولا”

ففي فيلم “انتحار العذارى” تتسم العلاقة بين الفتيات ووالديهن بضعف التواصل والتمرد الخفي. وفي فيلم “ضائع في الترجمة” تكتشف “شارلوت” المتزوجة حديثا بنجم السينما المتعب “بوب هاريس” شيئا عن نفسيهما. وفي فيلم “ماري أنتوانيت” تتعلم الملكة المراهقة كيفية التفاوض، لتحسين حياتها وإتقان الطقوس القديمة المملة التي تحكم بلاط فرساي.

ومع أن هذه الأفلام لا تتسم بالسيرة الذاتية مباشرة، فإنها تتسم بطابع فردي متعمد، ويظهر الأصدقاء والعائلة في أدوار صغيرة.

الشقراء والثروة.. رمز ثقافي وسمة شخصية

إن الثروة والامتياز ليسا من الأمور العرضية في أفلام “صوفيا كوبولا”، فهي مهتمة للغاية بمن يبدو أنهم يمتلكون كل شيء وهم غير سعداء.

وقد يبدو اختيارها للفتيات الشقراوات تكرارا أو قيدا على تنوع شخصياتها، لكنه جزء من رؤيتها الجمالية، فالشقراء في أفلامها ليست لون شعر، بل رمزا ثقافيا ذا دلالات متشابكة، عن الامتياز والجمال المثالي والتوقعات العالية. لكنها تعيد تفكيك هذا الرمز، وتظهر أنه قد يصبح مصدر ألم ومعاناة.

وليس عسيرا فهم سبب اهتمامها بهذه الموضوعات، فقد نشأت في قلب عالم الثروة والسينما، في منزل أبيها المخرج “فرانسيس فورد كوبولا”، وكانت الفخامة فيه جزءا من الحياة اليومية.

صوفيا مع بطلات فيلمها “المخدوع”

لكن هذه الامتيازات لم تكن حلا سحريا لمحاربة العزلة أو التحديات الشخصية. لذلك تبدو أفلامها محاولة مستمرة لفهم هذه التناقضات؛ كيف يمكن للجمال والثروة أن يخلقا شعورا خانقا بدلا من أن يكونا مصدرا للحرية؟

أفلام “صوفيا” ليست فقط عن الفتيات الثريات الحزينات، بل هي تأمل حول الذات والعزلة والاغتراب، من خلال تصوير البطلات في مساحات مغلقة، ومن خلال تركيزها على التفاصيل الصغيرة؛ نظرة شاردة، ولحظة صمت، وشوق خفي، فتصنع أفلاما ليست مجرد قصص، بل تجارب شعورية.

قصص الأثرياء.. محاولة للتعاطف مع الآلام الشخصية

مع كل فيلم جديد، تواصل “صوفيا كوبولا” استكشاف التعقيدات الإنسانية بمنظور مختلف، فبفضل أسلوبها الفريد وقدرتها على التعمق في المشاعر الإنسانية، أصبحت من أكثر المخرجات تأثيرا في السينما الحديثة. فأعمالها ليست مجرد أفلام، بل تجارب حسية وفكرية، تدعو الجمهور للتأمل في الذات والمجتمع.

إن أطروحة أفلامها المركزية ليست مدى صعوبة أن تكون ثريا، بل إن الثروة والنجاح المادي فارغة وسطحية، وتلك أشياء تقدرها مجتمعاتنا فوق كل شيء آخر.

ملصق فيلم “خاتم بلينغ”

ففي فيلم “خاتم بلينغ” (The Bling Ring) الذي أخرجته عام 2013، تسخر من هوسنا بالثراء والشهرة، ومن خلال فكرة الفيلم يمكننا أن نقرأ دلالات الثروة في أعمالها الأخرى.

وفي فيلميها “في مكان ما” و”ضائع في الترجمة”، تظهر النجومية السينمائية -وهي المهنة الأكثر بريقا وتبجيلا- إما فارغة أو معزولة. ومع ذلك فإن أفلام “صوفيا” لا تطلب منا التعاطف مع طبقة الأثرياء، بل التعاطف مع الألم الشخصي.

إن صنع هذه القصص عن الأثرياء يضع هذا الألم في تناقض أكثر حدة؛ فكم هو سهل التعاطف مع اكتئاب المرء عندما يكون مكتئبا بشأن أمر ما، وكم هو أسهل الاهتمام بالعزلة الاجتماعية لإنسان ما عندما لم تكن جزءا من صنعه.

لقطة من فيلم “العراب” الجزء الثالث

إن الأثرياء ليس لديهم سبب للشعور بالحزن الشديد، ولذا فإن أفلامها تجبرنا على التعامل مع المشاعر ذاتها، لا مع الأسباب الخارجية.

إن المشاعر غريبة ومربكة ومعقدة، ولا تهتم أفلام “صوفيا” بفك تشابكها، بل تحفر في أعماقنا، وتطالبنا بتخيل شعور أناس آخرين وكأنهم في أماكنهم، لا تحليلها من مسافة بعيدة.

آل كوبولا.. عائلة راسخة في صناعة السينما

ولدت “صوفيا كوبولا” عام 1971 في نيويورك، ونشأت في أحضان عائلة شغوفة بالسينما، فهي ابنة المخرجين “فرانسيس فورد كوبولا” و”إليانور كوبولا”، وأخت المخرج “رومان كوبولا”، وعمتها هي الممثلة “تاليا شاير”، التي اشتهرت بدور “كوني كورليوني” في ثلاثية “العراب” (The Godfather).

كما أنها أيضا ابنة عم الممثل “نيكولاس كيج”، وابنة خال الممثل “جيسون شوارتزمان” الذي قام بدور لويس السادس عشر في فيلمها “ماري أنتوانيت”.

أما والدتها “إليانور جيسي كوبولا” فهي كاتبة ومخرجة أفلام، وقد أصدرت بعد أن بلغت الثمانين فيلمها الروائي الطويل الأول عام 2016، وهو فيلم كوميدي بعنوان “باريس تستطيع الانتظار” (Paris Can Wait)، من بطولة “ديان لين” و”أليك بالدوين”، وبذلك تصبح بذلك أسنّ امرأة أمريكية تقوم بأول تجربة إخراجية.

ملصق فيلم “العراب” الجزء الثالث

وأما والدها فهو المخرج “فرانسيس كوبولا”، وقد جعله الجزء الثاني من فيلم “العراب” (The Godfather) عام 1974 واحدا من أفضل مخرجي هوليود، وقد قامت “صوفيا” بدور “ماري” المراهقة ابنة “مايكل كورليوني” (الممثل آل باتشينو) في الجزء الأخير من الثلاثية عام 1990.

تزوجت “صوفيا” بالمخرج “سبايك جونز” بين عامي 1999-2003، ثم تزوجت “توماس مارس” مغني فرقة “فينيكس” عام 2011، ولديهما ابنتان هما “رومي” و”كوزيما”.

“العراب”.. بداية كارثية استهجنها الجمهور والنقاد

استُقبل الجزء الأخير من ثلاثية “العراب” بعداء نقدي وجماهيري، واتهم المخرج “فرانيسس كوبولا” بالمحسوبية، حين أسند هذا الدور المحوري إلى ابنته “صوفيا” غير المدربة إطلاقا، فهاجم النقاد أداءها، حتى أن أحدهم وصف مشاركتها بأنها “العيب القاتل، والمتسبب الرئيسي في سقوط الفيلم”.

وسيبقى هذا الاختيار أحد أسوأ القرارات الإبداعية في تاريخ السينما. فقد حصلت “صوفيا” على جائزتي التوتة الذهبية، عن فئة أسوأ ممثلة مساعدة، وأسوأ نجمة جديدة.

صورة عائلية لصوفيا مع والدها ووالداتها وأخيها “رومان”

لقد كان فشل الجزء الأخير من ثلاثية “العراب” صدمة لآل “كوبولا”، وكان مرتبطا جزئيا بسقوط اسم “كوبولا” من التقدير التجاري والنقدي، حتى الآن.

وقد دفعها رد الفعل السلبي الساحق من النقاد والجمهور إلى الابتعاد عن التمثيل، واحتراف الإخراج، وهي تستحق الإعجاب في ذلك الحقل، لأنها استطاعت صياغة هوية مميزة، بعيدة عن سمعة والدها الهائلة، الذي يعد لاعبا رئيسيا في صناعة السينما الأمريكية.


إعلان