“مارثا”.. صعود وعثرات بمسيرة أشهر ربة منزل في العالم

ربة المنزل والمليارديرة العصامية “مارثا ستيوارت” البالغة من العمر 83 عاما هي محور هذا الفيلم الوثائقي المثير للفضول، وهو عمل مشوّق مليء بالتفاصيل وغير مجامل في أغلب أجزائه، سيبهر محبي “مارثا”، ومن يتعرفون عليها أول مرة، على حد سواء.

يأخذنا المخرج “آر جي كاتلر” في رحلة عبر حياة “مارثا” الاستثنائية، من مراهقة تعمل عارضة أزياء، إلى سمسارة أسهم في “وول ستريت”، إلى ملكة الطهي، ومؤلفة أشهر الكتب عن أساسيات الطبخ والبستنة والتأثيث، وتجهيز طاولات العشاء المثالية، وتنظيم الحفلات.

بعد ذلك أصبحت مديرة تنفيذية لبعض الشركات، ثم مذنبة في قضايا احتيال، ثم سجينة، وأخيرا أصبحت أيقونة مواقع التواصل الاجتماعي، وظهرت على غلاف مجلة “بدلات السباحة الرياضية” (Sports Illustrated Swimsuit) بلباس السباحة، وقد بلغت 81 عاما، فأصبحت أسنّ عارضة أزياء في التاريخ، تظهر على غلاف هذه المجلة.

يُعرض الوثائقي منذ نهاية أكتوبر/ تشرين الأول على شبكة نتفليكس، ويقدم تحليلا متعمقا لحياتها ودوافعها وأسرارها وقصصها، بوصفها أول شخصية مؤثرة في أمريكا، ثم يكشف عن واحدة من أهم الرموز الثقافية في النصف الأخير من القرن الـ20.

وثائقيات المشاهير.. لعبة التلميع الإعلامي المكشوفة

في الوهلة الأولى، يبدو الفيلم كأنه عمل يمجّدها، فهذا هو المأزق المعتاد لأفلام الوثائقيات، المتعلقة بالمشاهير حين يشارك فيها الشخص الذي يدور حوله الفيلم، فهي تهدف عادة إلى تلميع الصورة.

السؤال هنا: هل يمكن أن يُنتج عمل ذو قيمة ضمن هذه الحدود؟

غالبا لا. ومع ذلك، استطاع فيلم “مارثا” تقديم ما هو مختلف، لأن “مارثا” تقاوم الظهور بمظهر الضعف في كل منعطف، لكن غرورها يمنعها من الانسحاب الكامل. إنها تريد أن تُرى، ولكن بالشكل الذي تريده، وهذا التوتر يجعله فيلما ممتعا.

“مارثا ستيوارت” في برنامجها للطبخ

وليس مفاجئا أن “مارثا” غير راضية عن نتيجة الوثائقي النهائية، وفقا للتقارير، فقد خلط “كاتلر” بين مشاهد أرشيفية عدة. وفي لمسة ذكية، عرض جميع المقابلات الأخرى في الفيلم صوتيا فقط، بحيث يبقى وجه “مارثا” الوحيد الذي نراه خلال الفيلم.

شخصية تأبى أن تكون تحت رحمة أحد

يبدو “كاتلر” وكأنه يستمتع بتحدي “مارثا” بأسئلة تحرجها، فهو يطرح عليها أسئلة شخصية عن مواضيع ترى أنها فشلت فيها، ثم يصمت فجأة أثناء المقابلة، فتتنهد “مارثا” في إحباط وهي تنتظر استمرار الأسئلة.

يُظهر ذلك جانبا من شخصية “مارثا”؛ انفعالاتها وقلقها وعدم صبرها، وكراهيتها لأن تكون تحت رحمة أحد آخر، في ظروف لا تكون بالضرورة تحت سيطرتها.

عملت “مارثا ستيوارت” سمسارة أسهم في “وول ستريت”

في الوثائقي رأينا “مارثا” شخصية صدامية أنانية غير صبورة، وغير مبالية، وأحيانا واهمة. وتلك صفات جعلت الصحافة والمقربين منها يمقتونها في الماضي، بسبب تحكمها وادعائها المثالية. لكن في الفيلم، تصبح هذه الصفات هي التي تجعلها أكثر جاذبية؛ إنها عيوب إنسانية في امرأة عملت عقودا لتبدو مثالية.

ما يجعل الفيلم مشوقا هو شخصية “مارثا”، فهي تبلغ من العمر الآن 83 عاما، وتظهر في مقابلة معاصرة على الشاشة. أما المتحدثون -من أفراد عائلتها وأصدقائها وموظفيها ورفيقاتها في السجن- فيبقون خارج الشاشة، فيكونون أشبه بجوقة تشيد بعزيمتها واندفاعها وأحيانا طيبتها.

مثالية لا يهذبها التوازن الأخلاقي

تقدّم “مارثا” نفسها دليلا صارما على حياتها، وتردّ بحزم عندما يضغط عليها “كاتلر” في مواضيع صعبة. وعندما تتحدث بغضب عن خيانات زوجها “أندي”، يقول لها “كاتلر” إنها هي خانته أيضا، فتجيب: نعم، لكن “أندرو” لم يكن يعلم بذلك.

وعندما يقول لها إن “أندي” كان يعلم، تقلل أهمية خياناتها، واصفة إياها بأنها مجرد نزوات، ربما يكون ذلك امتدادا لإيمانها بأن المثالية لا تتطلب التوازن الأخلاقي.

تزوجت “مارثا” من “أندرو ستيوارت” حين بلغت 19 عاما، لكن زواجهما الذي دام ما يقرب من 30 عاما لم يكن سعيدا، وانتهى بالطلاق عام 1990، فلم تكن “مارثا” تتكيف بسهولة مع دور الأمومة، مع أنها بنت إمبراطوريتها على وهم المنزل المثالي والمضيفة المثالية.

قد يكون ذلك انعكاسا لرغبة دفينة، فإذا استطاعت تحقيق الكمال في كل التفاصيل الخارجية، فربما تسقط الجدران العاطفية التي بنتها، ويصبح عالمها الداخلي مشرقا مثل الصورة التي تروج لها.

أيام الطفولة.. جذور التكوين والطموح والإصرار

ولدت “مارثا” في ولاية نيو جيرسي عام 1941، في عصر ما بعد الكساد الكبير، وترعرعت في حضن والدين كانا عاجزين عن إطعام أسرتهما، فكانا يجبران أطفالهما الستة على زراعة الخضراوات في حديقة المنزل، ليعتاشوا منها. وتلك التجربة غذت حب “مارثا” للبستنة.

تعلمت من والدتها المدرّسة أساسيات الطبخ والخبز والخياطة، وهي دروس تقليدية لربة منزل المستقبل في ذلك الزمن، وقد وصفتها بالأم المحبة، لكنها غير عاطفية حسب تعبيرها.

“مارثا ستيوارت” مع والديها

كونت “مارثا” شخصية قوية صاغتها حياة الريف، ونهايات الشهر القاسية، ونشأت تحت أب متسلط وقاس في بعض الأحيان، وربما تكون قد ورثت بعض هذه الصفات أيضا، فطريقة وصفها له تكشف الكثير، إذ تقول: كان ينجز ما يضعه نصب عينيه، لكنه ظل عالقا في وظيفة بائع.

هكذا، استوعبت الطفلة الصغيرة الصرامة والقمع العاطفي، واتسمت طفولتها بالجدية التي لن تنساها أبدا.

من عارضة أزياء إلى سمسارة تزاحم الرجال

عندما كانت “مارثا” مراهقة، دخلت عالم عرض الأزياء لكسب بعض المال أثناء الدراسة، ثم التحقت بالجامعة في منحة دراسية، ونالت شهادة في تاريخ الهندسة المعمارية. ثم التقت “أندرو ستيوارت”، وكان قد أنهى دراسته بكلية الحقوق، وأصبح فيما بعد رئيسا لدار نشر، وقد تزوجته عام 1961، وأنجبت ابنتها الوحيدة “أليكسيس” عام 1965.

في عام 1967، بدأت “مارثا ستيوارت” مسيرتها الثانية سمسارة أسهم في “وول ستريت”، المركز العصبي للرأسمالية، مستلهمة مهنة والد زوجها، فكانت أول امرأة تعمل في هذه البيئة الذكورية حصريا.

“مارثا ستيوارت” أثناء عملها عارضة أزياء

قضت “مارثا” سنوات عدة وهي سمسارة ناجحة في الأسهم، ثم قررت ترك عالم المال، وانتقلت مع أسرتها إلى ضواحي كونيتيكت، فأعادت بناء منزل قديم بمزرعة متهالكة، وحولته إلى قصر فخم، ثم زرعت خضراوات ونباتات متنوعة، وربّت بعض الطيور والدجاج.

أصبحت هذه المزرعة لاحقا موقعا لأستوديو برنامجها التلفزيوني “حياة مارثا ستيوارت” (Martha Stewart Living). ومن خلال المزرعة، برز شغفها الفريد بالطبخ والضيافة والبستنة والتأثيث، وكانت النواة التي أطلقت منها علامتها التجارية المميزة، التي تمزج بين الكمال الريفي الأنيق والذوق الرفيع.

تنظيم الحفلات.. بداية الطريق نحو الشهرة والثراء

استثمرت “مارثا” مهاراتها العالية في تدبير المنزل وتنظيم الحفلات، لتصبح مقدمة خدمات طعام عالية المستوى لصديقاتها المترفات، ومن خلال تقديم الطعام، تعرفت على ناشرين أعجبوا بموهبتها في الطهي، وانبثقت فكرة تأليفها لكتاب طبخ يتضمن وصفاتها، وصورا من الحفلات التي كانت تنظمها.

كتاب “ستيورات” الأول بعنوان “إقامة الحفلات

وهكذا صدر كتابها الأول “إقامة الحفلات” (Entertaining) عام 1982. ثم تبعته كتب أخرى، فمجلة، ثم برنامج تلفزيوني. وبحلول التسعينيات، أصبحت “مارثا” محور إمبراطورية إعلامية متعددة.

وفي عام 1999، أسسّت شركتها الإعلامية العملاقة “مارثا ستيوارت ليفينغ أومنينيديا” (Martha Stewart Living Omnimedia)، التي جعلتها أول مليارديرة عصامية في عالم الإعلام.

ثم أصبحت كتبها وبرامجها التلفزيونية دليلا للرفاهية المنزلية، واحتلت قلوب ملايين من الناس، بوصفاتها المميزة ونصائحها في التزيين والضيافة، لكن النجاح لا يخلو من العقبات.

فضيحة التداول الداخلي.. ضربة قوية تؤدي إلى السجن

في عام 2004، واجهت “مارثا” واحدة من أصعب محطات حياتها، فقد اتُهمت باستعمال معلومات داخلية، لتحقيق أرباح غير قانونية في سوق الأسهم، فأُدينت بتهم تتعلق بعرقلة العدالة والكذب على المحققين، مما أدى إلى الحكم عليها بالسجن 5 أشهر.

“مارثا ستيوارت” على غلاف مجلتها

كانت هذه اللحظة سقوطا مدوّيا لرائدة الأعمال التي بنت صورتها على المثالية، ففقدت منصبها رئيسةً تنفيذية لشركتها، وأصابتها انتقادات كثيرة، وخسرت ثقة كثير من جمهورها، وبدا أن إمبراطوريتها الإعلامية بدأت تتلاشى، وأن اسمها أصبح مرتبطا بالفضيحة بدل النجاح.

كان اسم “مارثا ستيوارت” قد أصبح مرادفا للأناقة المنزلية والإبداع، فهي ليست سيدة أعمال ناجحة أو شخصية تلفزيونية لامعة فحسب، بل رمز للإرادة التي تتحدى الانهيار، وللإصرار الذي يعيد تشكيل المصير. فقصتها ليست حكاية نجاح مستمر، بل رحلة مليئة بالتحديات، والسقوط، والعودة القوية.

شماتة العالم في لحظات السقوط.. ضريبة التعالي

عندما سقطت “مارثا” من القمة، انتقمت ثقافة المشاهير التي كانت قد رفعتها وأعلت شأنها، فقد كانت دائما تبدو مترفعة وغير مبالية بأي شيء، لذا استمتع العالم برؤيتها وهي تسقط.

ولا تزال فضيحة التداول الداخلي التي أودت بها إلى السجن موضوعا مؤلما، فهي تصر -كغيرها من المتورطين- على أنها لم ترتكب فعلا غير قانوني، وأنها استُهدفت لأن المدعي العام الأمريكي آنذاك “جيمس كومي” أراد بناء سمعته، عبر الإيقاع بشخصية مشهورة.

لقد تغيّرت “مارثا” أثناء سجنها، وشكّلت صداقات مع النساء المسجونات معها، وبمجرد سقوط قناع الكمال والمثالية عنها، بدا أنها انفتحت على العالم انفتاحا أكبر، لكنها لم تسمح أن يكون سقوطها نهائيا، فبعد قضائها عقوبة السجن، عادت بعزيمة أقوى وإصرار متجدد.

رمز الأناقة والعفوية المرحة.. عودة تتخطى التوقعات

أعادت “مارثا” تقديم نفسها للجمهور، من خلال برامج جديدة وكتب أخرى، وركزت على تقديم محتوى يعكس جوانب شخصيتها الحقيقية وتجاربها الإنسانية.

يلتقط الفيلم عودتها خلافا لكل التوقعات، فقد عادت في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وأعادت رسم نفسها رمزا للأناقة الخالدة، التي تتماشى مع جيل الشباب، ويتابعها الآن ملايين على المنصات الرقمية.

“مارثا ستيوارت” مع مغني الراب “سنوب دوغ” في برنامج طبخ مشترك

كان مفتاح عودتها يكمن في شفافيتها، وذكائها في تحويل المحنة إلى فرصة، فبدلا من التهرب من ماضيها، فقد واجهته بجرأة، وأعادت بذلك كسب ثقة جمهورها.

فمن أبرز محطات عودتها، تعاونها غير المتوقع مع مغني الراب “سنوب دوغ” في برنامج طبخ مشترك، وقد أظهر ذلك جانبا جديدا من شخصيتها المرحة العفوية، وجلب لها هذا التغيير معجبين جددا من جيل أصغر.

ومع أنها لم تعد مليارديرة، فإنها تواصل عيش حياة فاخرة للغاية.

“مارثا”.. المرأة القيادية التي صنعت عالمنا اليوم

قد لا تكون “مارثا” شخصية محبوبة أو ودودة، لكنها بلا شك شخصية مثيرة للإعجاب، فمنذ السبعينيات كانت حاضرة في الساحة الثقافية، وحافظت على صلتها بالعصر بطرق مبتكرة.

ومثال ذلك كسرها الحدود، واستحواذها على الأضواء في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه المرة بظهورها -وقد بلغت 81 عاما- على غلاف عدد السباحة السنوي، من مجلة “سبورتس إيلستريتد”، وهي أسنّ من ظهر على غلاف المجلة في تاريخها.

أسن من ظهر على غلاف مجلة “سبورتس إيلستريتد” في تاريخها

ربما تكمن أعظم أخطاء عصرنا في المبالغة في تقدير قيمة القبول الاجتماعي. فها هي ذي “مارثا ستيوارت” تصبح أيقونة لا بفضل لطفها، بل بفضل طبيعتها الجادة والمتحكّمة، وبفضل تفانيها في تحقيق الكمال بطريقتها.

واليوم، تعد “مارثا” نموذجا يحتذى به في الإصرار والمرونة، ونجاحها المستمر يعكس قوة الإنسان في التغلب على العقبات، وتحويل الأزمات إلى منصات انطلاق نحو قمة جديدة. إنها حكاية تذكّرنا بأن الطريق إلى النجاح لا يكون دائما مستقيما، وأن الأخطاء ليست إلا جزءا من رحلة الحياة الطويلة.

وإذا لم تشارك مشاعرك ولم تبنِ علاقات عاطفية، فستبقى عالقا في دائرة من العزلة. ويبدو أن “مارثا” تدرك ذلك جزئيا، لكنها تفضل البقاء على قمة برج الكمال الذي شيدته لنفسها.

ومع ذلك فهي ذات عزيمة جبارة، استطاعت أن تعود إلى القمة، وليس ذلك فقط كما يقال في بداية الفيلم، فإن “مارثا ستيوارت” هي التي صنعت العالم الذي نعيش فيه اليوم، عالما من المؤثرين، والأنماط الحياتية المستعارة، والأسطح المثالية، بينما تعصف تحتها عواصف الفوضى.

صناعة الفيلم.. غضب “مارثا” من النتيجة النهائية

في لقاء مع صحيفة “نيويورك تايمز”، أبدت “مارثا” غضبها الشديد من بعض المشاهد التي وضعها المخرج “آر. جيه. كاتلر” في الفيلم، والمشاهد الأخرى التي أغفلها، فعلى سبيل المثال، كرهت المشاهد القريبة من نهاية الفيلم، فقالت إنها تبدو “امرأة عجوزا وحيدة تمشي منحنية الظهر في الحديقة”.

وقالت إن المشكلة لم تكن بسبب عمرها البالغ 83 عاما، بل بتمزق وتر قدمها الذي عانت منه، وقد انزعجت من استخدام زوايا من وجهها غير محببة للكاميرا. كما استاءت من انشغال الفيلم بمشاكلها القانونية، التي استغرقت جزءا كبيرا من النصف الثاني من الفيلم.

وقد قالت: “لم يكن الأمر بهذه الأهمية، فقد شغلت المحاكمة والسجن أقل من عامين، من حياة استمرت لـ83 عاما. ولأكون صادقة.. لقد وجدتها إجازة”.

كما أنها غضبت غضبا شديدا من حذف مشاهدها مع أحفادها. ومع أن “كاتلر” لم يقدم صورة مجاملة لها تماما، فإنه ينسب إليها الفضل في الذكاء والدافع الذي جعلها مليارديرة، ورئيسة شركة ناجحة، بل جعلها امرأة أعادت صياغة دور أصبح غير شعبي، وهو دور ربة المنزل، ولم تكتفِ بإعادة صياغته، بل جعلت نفسها رمزا له.

إن قصة “مارثا ستيوارت” ليست قصة عن النجاح أو الفشل فحسب، بل هي درس في إعادة اكتشاف الذات والتأقلم مع التحديات، فالسقوط ليس النهاية، بل قد يكون بداية جديدة لإعادة بناء ما هو أفضل وأقوى.


إعلان