“موسيقى جون ويليامز”.. الرجل الذي صنع سحر الموسيقى التصويرية في هوليود
خلال عشرات السنين، استطاع أن يكتب اسمه بحروف من ذهب في عالم السينما الأمريكية، فقد حباه الله موهبة لا مثيل في تسخير الموسيقى، واتخاذها أداة للسرد، تجنّح بأفكار الصورة إلى آذان المتفرجين، ولم يقتصر إبداعه على الموسيقى التصويرية، فقد اعتلى بموسيقاه خشبات المسارح وأقام الحفلات الكبرى.
نحت مسيرة فنية مذهلة، وارتبط أهم أفلام هوليود الكبرى بتوقيعه الموسيقي، فرُشّح 54 مرة لجائزة أوسكار، فاز منها بخمس عن هذه الأفلام:
- “عازف كمان على السطح” (Fiddler on the Roof) عام 1971.
- “الفكّان” أو “أسنان البحر” (Jaws) عام 1975.
- “حرب النجوم” (Star Wars) عام 1977.
- “الكائن الفضائي” (E.T. the Extra-Terrestrial) عام 1982.
- “قائمة شندلر” (Schindler’s List) عام 1993.
في فيلم “موسيقى جون ويليامز” (Music by John Williams) الذي عُرض عام 2024، يستعرض المخرج “لوران بوزيرو” سيرة مؤلف الموسيقى الأمريكي “جون ويليامز”، من خلال منجزاته وشهادات رجال السينما الذين وضع لهم البصمة على أفلامهم.
نشأة بين الأوتار في عائلة فنية
وُلد “جون ويليامز” في نيويورك عام 1932، وقد اكتشف شغفه بالموسيقى في وقت مبكر جدا من حياته، فقبل أن يبلغ 10 سنين، أصبح يعزف على البيانو وعلى آلات النفخ، وحين بلغ 15 سنة قاد أول فرقة جاز يؤسسها.
وقد يكون لمحيط “جون ويليامز” الأسري دور في نجاحه اللافت، فقد كانت الموسيقى جزءا من حياة العائلة، وكان أبواه فنانين نشآ على سماع الموسيقى، ثم نشأ “جون” على تعلمها ذاتيا، قبل أن ينخرط في التعليم النظامي.
ولكنه يعترف بأنه لم يكن من هواة السينما قط، ولم يكن يشاهد الأفلام إلا نادرا، فقد كان يتجه بثبات ليكون مايسترو مرموقا، وقد أتقن مهارات العزف على البيانو في مدرسة “جويليارد” الشهيرة في نيويورك، وهي إحدى أرقى مدارس الموسيقى في العالم.
“إنه يعبر عن نفسه بموسيقاه”
خلال السنوات الثلاث التي قضاها في القوات الجوية الأمريكية، استطاع تطوير مهاراته في القيادة الموسيقية، لكن وضع والده المهني كان له الدّور الحاسم في توجيه مساره المهني، فقد كان عازف إيقاع، وعمل في فرق الأوركسترا في أستوديوهات كولومبيا، وكان أصدقاء والديه جميعا من الموسيقيين.
وهكذا وجد نفسه موظفا في أستوديوهات هوليود عازفا للبيانو، بعد أن ألف موسيقى فيلم وثائقي عن مقاطعات المحيط الأطلسي في خمسينيات القرن الماضي، وكان نجاح الفيلم وموسيقاه نقطة تحول في مسيرته، فطُلب منه أن يقود أوركسترا “بوسطن بوبس”، ثم التدريس في مركز “تانغلوود” المرموق.
ثم شقّ طريقه لينحت لنفسه مسيرة وهبته كل المجد والشهرة، ووهبها كل وجدانه بالمقابل، فتقول عنه ابنته “جينيفر” إنه دائما ما يكتب ويرسم، ويقول حفيده “إيثان غروسكا”: إنه يعبر عن نفسه بموسيقاه.
أيقونات هوليود.. سحر تحمله الموسيقى الأوركسترالية
تداخل أزمنة الفيلم بعض الأحيان، لكنه ينزع عامة لتتبع البعد الخطي في مسيرة “جون ويليامز” تقريبا، فيمنحه الكلمة في مشاهده الأولى، ليحدثنا عن بداياته متبسطا في عرض سيرته الفنية، مقدّما نفسه مؤلفا لموسيقى الجاز في الخمسينيات، ثم مؤلفا للموسيقى التصويرية الأوركسترالية في عدد كبير من أفلام هوليود الشهيرة.
يعرض المخرج بعدئذ أحاديث فنانين ومخرجين من هذه الأفلام، فقد أجرى حوارات مع نحو 30 منهم، فيقاربون تجربة “ويليامز” نقديا، ويسهمون في إبراز الوظائف التعبيرية والدلالية لموسيقاه بطريقة مبسطة، ويذكرون فضل موسيقاه الخالدة في تجسيد الأفكار التي رموا إليها إيقاعيا.
يكون ذلك في شكل شهادة على مقطع ما، أو على كيفية تجسيم مشهد ما، لمنحه الطاقة التعبيرية الضرورية، فنكتشف حينئذ أن للرجل بصمة واضحة في أغلب أفلام هوليود الخالدة، ومنها:
- حرب النجوم (Star Wars).
- الفكّان (Jaws).
- الحديقة الجوراسية (Jurassic Park).
- إي تي أو الكائن الفضائي (ET).
- إنديانا جونز (Indiana Jones).
- سوبرمان (Superman).
- وحيدا في المنزل (Home Alone).
- جون كينيدي (JFK).
- قائمة شندلر (Schindler’s List).
- هاري بوتر (Harry Potter)
وعدد من الأفلام الأكثر رواجا في تاريخ الفن السابع.
“ستيفن سبيلبرغ”.. صداقة تأخذ السينما إلى مدارات جديدة
مثلت شهادات نجوم الإخراج المادة الكبرى في الفيلم، وكان نصيب الأسد منها للمخرج “ستيفن سبيلبرغ”، وقد تحدث عن بداية التعاون المثمر بينهما، وسرد كواليس تأليف الموسيقى التصويرية، وشرح دلالاتها وإضافاتها للمعنى المراد من اللقطات، ودورها في تشكيل هوية الأفلام النهائية.
فقد أيقن “سبيلبرغ” بحس المبدع الطموح، أنه يحتاج إلى لمسة “ويليامز” في أفلامه، بعد أن انبهر بموسيقاه التصويرية في فيلم “الأنهار” (The Reivers)، الذي أخرجه “مارك ريدل” أواخر الستينيات.
ومع حداثة سنه وافتقاره للتجربة، فقد اتصل به ليطلب منه تأليف موسيقى فيلمه الطويل الأول “رحلة أرض السكر” (The Sugarland Express). وبحس المبدع أيضا أدرك “جون ويليامز” أنه يقف أمام مشروع مبدع سيضيف الكثير للسينما الأمريكية، فكانت سنة 1974 بداية تعاون استمر في عدة أفلام.
من كواليس التأليف الموسيقي لفيلم “الفكّان” (Jaws)، يذكر “سبيلبرغ” أنه “توقع شيئا معقدا للغاية” لأحد المشاهد، ولكن مقترح “ويليامز” اقتصر على نقرات بسيطة على البيانو، يتصاعد إيقاعها شيئا فشيئا، حتى تصبح النغمات العذبة أصواتا مخيفة، تحاكي المؤثر الذي يوحي به مشهد قرصان مغامر.
ويعبّر عن هذه العبقرية والإلهام بكثير من الانطباعية، فيذكر أنّ موسيقاه كانت تنبعث من السماء، فتجمع بين البساطة وعمق التأثير في الآن نفسه، لتنقل المشاهد إلى مستويات لم يكن يتخيلها مطلقا.
وعن فيلم “الحديقة الجراسية” (Jurassic Park) وعن طبيعة المؤثر الذي تخلقه الموسيقى التصويرية، يقول “سبيلبرغ” إن “جون ويليامز” قد خلق بأنغامه المصاحبة للمشاهد روح الطفل وذهوله أمام المخلوقات العجيبة.
ولاقتناعه بعبقريته، ألح عليه بأن يتولى تأليف الموسيقى التصويرية لفيلم “حرب النجوم” (Star Wars)، بعد أن أوصى صديقه “جورج لوكاس” مخرج الفيلم بالتعاون معه، لكونه الأقدر على الإيحاء بالأجواء العجائبية التي تدور فيها أحداث الفيلم.
وفي المقابل، لم يبخل “ويليامز” بالثناء على نبوغ “سبيلبرغ” وفطنته، منتهيا إلى وصفه بأنه “شكسبير” السينما. لقد منح الفيلم للرّجلين مساحة لتبادل الثناء، فيعترف كلاهما بفضل الآخر عليه، ودوره في الارتقاء بفنه.
ومع أن الحوارات تخللتها بعض المجاملات والإخوانيات أحيانا، فقد اشتمل الحوار بينهما على مواقف نقدية مهمة، وليدة الممارسة والخبرة الميدانية، لا التنظير المتعالي الذي يلجأ إليه النّقاد عادة، وأظهر شخصية “ويليامز” الساخرة المتواضعة، التي تتخفى وراء الملامح الجادة.
أساليب عتيقة تتخذ الموسيقى جسرا للسرد
عاد مخرج الفيلم “لوران بوزيرو” إلى كواليس تصوير الأفلام (Making of) التي ألّف “جون ويليامز” موسيقاها التصويرية، لعرض بعض القصص التي دارت أثناء التصوير، ففي فيلم “حرب النجوم” مثلا وجد غيابا للروح، فقرر توظيف أوركسترا لندن، الذي منح الألحان النشيد الصخب الضروري، لخلق الروح الملحمية، وأسهم ذلك في نجاح الفيلم المدوي. كما عرض الفيلم أيضا إسهام “ويليامز” في نجاح أفلام “هاري بوتر” (Harry Potter).
وقد أظهرت هذه الكواليس قدرة “ويليامز” على التعاطي مع شتى الاتجاهات السينمائية، فقد ألّف موسيقى أفلام الحركة، وموسيقى أفلام الطفل، وموسيقى أفلام الخيال العلمي، وكان على كفاءة واحدة.
تتجاوز قيمة الكواليس والشهادات ما أضافه “ويليامز” للأفلام، فقد كانت أداة توجه التأويل نحو مسارات بعينها بريدها المخرج، لإبراز قدرة “جون ويليامز” على جعل الموسيقى أداة للسرد، تجسم الحركة والتحولات من وضعية إلى أخرى، وفي الآن نفسه تخلق المؤثر الذي ينتزع المتفرج من مقعده، ويزج به في الأحداث ليعيشها عيانا.
كما يبرز الفيلم فضله في إعادة الموسيقى الأركتسرالية إلى الواجهة، لا سيما خاصة بعد اتجاه الموسيقيين الشباب بكثرة إلى المؤثرات الإلكترونية.
ويقر “ويليامز” بذلك، مؤكدا أنه لا يزال يكتب كل نوتاته الموسيقية يدويا، وأنه لا يتعامل مع التكنولوجيا مطلقا، وأن في ذلك بعضا من أسرار نجاحه.
“موسيقى جون ويليامز”.. عاطفية تكسر صرامة التوثيق
يرسم الفيلم صورة “جون ويليامز” بالحوارات والمقطوعات الموسيقية الأيقونية، والقصص التي تدور خلف الكواليس، فيسلط المخرجون الضوء على عبقريته وتواضعه، ويؤكدون فضل الموهبة في نجاح من وصفوه بموزارت موسيقى الأفلام، ويثمنون دوره في تخليد عدد من الأعمال العظيمة في الذاكرة.
ولا يأخذنا الفيلم نحو ابتكار الموسيقى التصويرية الأكثر عبقرية في هوليود فحسب، بل يبعث فينا الحنين لنعيش فرحتها مرة أخرى، أو يحثنا على اكتشاف ما لم نشاهده منها، ويمنحها دلالات لم نكن ننتبه إليها، وذلك لما يذكر من تفاصيل عنها، ولربطه لها بقصص صاحبت تأليفها في الكواليس.
ومع ذلك لا نشعر بأننا نشاهد فيلما وثائقيا، بل نحضر تكريما يحتفي بمنجز “جون ويليامز” الموسيقي يلازمنا، فهو لا يوثق الوقائع، ولا يقدم وجهة نظر فكرية ولا جمالية، ولا يتعمق فيما أضافه “جون ويليامز” للموسيقى التصويرية مقارنة بمن سبقوه ومن تبعوه، ولا يعرض مواقف نقدية حول أساليبه في التأليف.
بل يعرض انطباعات محبة لأعماله، أو شهادات تتدرج من مدحه إلى مدح موسيقاه والجوائز التي نالها، فتغيب الموضوعية الضرورية في مثل هذه الدراسات الوثائقية. وتعوض الانطباعاتُ المحبة الصرامةَ التي تميّزها عادة.
يجد هذا الاحتراز مشروعيته، حين نعلم أنّ منتج الفيلم هو “ستيفن سبيلبرغ” نفسه، رفيق نجاحه وصاحب الشهادات الأكثر تأثيرا في الفيلم.
“لوران بوزيرو”.. هدية على عتبات التسعين من صديق قديم
يذكر مخرج الفيلم “لوران بوزيرو” أنه يحقق حلما قديما، فقد شُغف بموسيقى “ويليامز” منذ كانت هوليود تصدر ألبومات مقطوعات الأفلام قبل العرض بستة أشهر، ويعدّ ذلك أسلوبا في الترويج لها، وهي طريقة ما زالت تعتمد في سينما بوليوود.
ثم استطاع لاحقا العمل معه، فقد اختص بإخراج كواليس تصوير الأفلام الوثائقية في هوليود، التي تُضمّن في شكل إضافات تدرج على أقراص “دي في دي” و”كيه 4″ و”بلو ريه”، ونتيجة لعمله هذا تجمعت لديه مادة معتبرة يمثل “جون ويليامز” موضوعها، سواء تعلق الأمر بجلسات التصوير أو النقاش مع المخرجين.
يقول “بوزيرو”: لقد عرفتُ جون منذ 30 عاما، وفي جميع هذه الأفلام الوثائقية التي صنعتها خلف الكواليس، كان من دواعي سروري في كثير من الأحيان إجراء مقابلة معه، لقد أصبحنا أصدقاء، وطالما عرفته، كنت أرغب دائما في إهداء فيلم وثائقي له، لكنه حتى الآن كان يرفض دائما.
وفي أحد الأيام، قلتُ لـ”ستيفن” إن “جون” قد بلغ التسعين من عمره، وإن لدينا كثيرا من المواد الرائعة.. وهكذا تدخل “ستيفن”، ووافق “جون” أخيرا على تقديم نفسه لهذا العمل.