نجاة الصغيرة.. سيمفونية العشاق التي لا تبلى أبدا
تأخرت كوكب الشرق عن موعد فقرتها في حفل خيري يقام في معهد الموسيقى بالقاهرة، وبدأ القلق يظهر على وجوه الحاضرين والهمس يدور بينهم، وشعر المسؤولون عن الحفل بالتوتر، وتعالت أصوات أطفال المدارس الذين أحضروا من فصولهم ليشهدوا غناء كوكب الشرق.
وفجأة طلب أحد العاملين في المعهد تقديم فقرة لملء الوقت حتى تحضر أم كلثوم، فسارع المدرس الذي أحضر تلاميذه قائلا: معي طفلة تستطيع أن تغني بالعربية الفصحى وقتا طويلا!
اتسعت عينا مدير المعهد دهشة، وهز رأسه غير مصدق، لكن المدرس طلب منه اختبارها ليتأكد، وعندما اختبرها أجازها، وصعدت الطفلة التي لم تكن قد تجاوزت 6 أعوام، فغنت خلال أكثر من ساعة قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي، التي تغنيها أم كلثوم:
سَلو قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا
لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا
وَيُسأَلُ في الحَوادِثِ ذو صَوابٍ
فَهَل تَرَكَ الجَمالُ لَهُ صَوابا
وَكُنتُ إِذا سَأَلتُ القَلبَ يَوما
تَوَلّى الدَمعُ عَن قَلبي الجَوابا
وَلي بَينَ الضُلوعِ دَمٌ وَلَحمٌ
هُما الواهي الَّذي ثَكِلَ الشَبابا
ووسط ذهول الجمهور والصحفيين والمسؤولين بمعهد الموسيقى، غنت نجاة ابنة الخطاط محمد حسني البابا، ثم خرجت الصحافة في اليوم التالي بين مسرور وخائف على الصغيرة الموهوبة، أو المعجزة كما أطلق عليها حينها.
وقد كتب الصحفي الكبير فكري أباظة: “إنها التي تحتاج إلى رعاية حتى يشتد عودها، وفى حاجة إلى عناية حتى تكبر وهي محافظة لموهبتها، مبقية على نضارتها”. كما جاء لقب الصغيرة هذا لتمييزها عن الفنانة الشهيرة نجاة علي، التي كانت يومئذ ذات شعبية واسعة.
لعل تلك البداية المبكرة للمطربة نجاة الصغيرة هي الأصعب على كل إنسان، لا سيما حين يدرك بعد فوات الأوان أنه قد أصبح ناضجا وكبيرا بالقدر الذي لا يسمح له بإشباع شوقه للبراءة واللعب الطفولي، وقد اعترفت بذلك لاحقا في حوار تلفزيوني.
بدايات طريق الشهرة المزدحم بالعمالقة
لم يكن طريق نجاة الصغيرة مفروشا بالورود، مع ما لها من موهبة واضحة للعيان، فقد شقت طريقها للشهرة والنجومية في وجود عمالقة الغناء، من أمثال الموسيقار محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وفيروز، وفايزة أحمد، وشادية، ووردة الجزائرية.
لكن تلك الموهوبة التي تبدو رقيقة ضئيلة الحجم، كانت تعرف أين تضع قدمها وسط زحام العمالقة، وكانت تعرف أيضا كيف تشكل جيشا من الموهوبين الكبار، لتقديم أغنيات تجد طريقها مباشرة إلى قلوب جماهير الطرب والموسيقى.
ومن أولئك العمالقة الذين صنعوا نجوميتها الكاتبان محمد التابعي، وفكري أباظة، والشاعران مأمون وكامل الشناوي، والملحن محمود الشريف.
وردة نبتت في صخرة الحياة الاجتماعية والسياسية
لمعت نجاة الصغيرة منذ منتصف الخمسينيات، وبدت كأنها وردة نبتت في صخر الحياة الاجتماعية والسياسية يومئذ، فانتشر عطرها، وصنعت عالما رومانسيا داعب خيال المحبين، حتى أصبح صوتها ركنا هادئا وحنونا يأوي إليه أولئك الذين أتعبهم الحب، وذلك عبر روائع غنائية منها:
- دوبنا يا حبايبنا.
- أيظن.
- شكل تانى.
- لا تكذبي.
- ساكن قصادي.
- كل شيء راح.
- ماذا أقول.
- أسألك الرحيل.
- أنا بعشق البحر.
- عيون القلب.
- أما غريبة.
ويبلغ عدد أغنياتها 250 أغنية. كما شاركت في أفلام سينمائية، أشهرها فيلم “الشموع السوداء” (1962) مع الممثل صالح سليم، وهو الرئيس الأسطوري للنادي الأهلي المصري.
ومن أفلامها أيضا:
- “شاطئ المرح” (1967).
- “جفت الدموع” (1975).
- “ابنتي العزيزة” (1971).
- “القاهرة في الليل” (1963).
حصدت نجاة عددا من الجوائز، وكُرمت في عدة دول عربية خلال مسارها، وحتى بعد إعلانها الاعتزال عام 2003. منها وسام من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وآخر من الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة.
وفي منتصف الثمانينيات منحها ملك الأردن الحسين بن طلال وسام الاستقلال من الدرجة الأولى، فقد كانت غنت له ولعمّان “أرخت عمّان جدائلها”.
بيت الفنانين.. غصن كاد يذبل قبل أن يشتد
سلكت الفتاة الجميلة الخجولة طريقا بدا سهلا، فهي ابنة محمد حسني البابا، محب الفن وصديق الفنانين، وقد كان منزله يسمى “بيت الفنانين”، نظرا لاحتوائه على الملحن عز الدين، وعازف التشيلو سامي، والمطربة نجاة، وكان الأب نفسه خطاطا.
لكن زحام الإخوة الثمانية دفع الأب للضغط على أبنائه للعمل، لتغطية احتياجات المنزل، ومنهم نجاة التي كان صوتها في مرحلة نضوج، ويُخشى عليه التضرر إذا استمرت في الغناء بتلك المرحلة، وذلك ما دفع الموسيقار محمد عبد الوهاب لتحرير محضر لدى الشرطة ضد الأب، لحماية نجاة ومنعها من الغناء في هذه المرحلة لحماية صوتها.
احترفت نجاة الغناء، ولكنها لم تشكل ملامح شخصيتها إلا في وقت متأخر، فقد ظلت في السنوات العشر الأولى تقلد أم كلثوم، وبدأت تستقل مع أولى أغنيات الموسيقار محمد عبد الوهاب لها، وهي “ليه خلتني أحبك” التي غنتها ليلى مراد أيضا.
لم تكن قد تجاوزت 16 عاما حين سارت باتجاه عكسي، فبدلا من الأغاني الكلثومية الطويلة، قدمت أغاني لا تتجاوز مدة أطولها 8 دقائق، لكنها عادت لتبحث عن القصة في أغنياتها، وتحتفظ بالجمهور وقتا أطول، فاستقرت على أغنيات تتراوح بين 20-40 دقيقة.
نزار والشناوي والأبنودي.. جسر الكلمات الموصلة إلى النجومية
يكمن سر نجاة الصغيرة في 3 شعراء، هم نزار قباني، وكامل الشناوي، وعبد الرحمن الأبنودي، وقد كشف نزار سر قوتها، وقدرتها على التأثير، حين قال: بالنسبة لي، يعبّر صوت نجاة عن أعماق الأنثى الضعيفة الخجولة، التي تخاف من البوح عمّا في عالمها الذاتي من أحاسيس. وأعتقد أنها أفضل من غنى قصائدي وعبّر عنها.
واحترق كامل الشناوي بنار العشق لها، وما وجده خيانة لمشاعره، ثم قدم رماد روحه إليها في صورة قصائد، أما الأبنودي فقد امتلك أسرار اللغة والشعر والمشاعر، ففاضت أغنياتها بالصور البديعة من أشعاره.
غنت نجاة لنزار قباني “أيظن”، و”ماذا أقول له؟”، و”أسألك الرحيل”، و”كم أهواك”، وكانت كل قصيدة بمنزلة حكاية خاصة للشاعر الكبير، وخطوة في طريق نجومية نجاة.
أما الأبنودي فكتب لها مجموعة من أعرق أغنياتها وأجملها، ومنها “عيون القلب”، و”كل الكلام”، و”ذكرياتي”، و”قصص الحُبّ الجميلة”، و”هتسافر”.
وهو يقول عن نجاة في تصريح صحفي: كان مرسي جميل عزيز نموذجا للطيف المتخفي في رقة الفنانة نجاة، أما أنا فقد كانت دائما تزعجها صعيديتي، وعدم قدرتي أو رغبتي في تغيير مسلكي، وكانت تتعجب من المسافة بين سلوكي الهمجي ورقة الشعر.
ولم يكن دور كامل الشناوي في حياتها فنيا فقط، بل إنسانيا أيضا، فقد أحبها بكل كيانه، وقد كشف الكاتب والصحفي مصطفى أمين عن قصتهما معا في كتابه “شخصيات لا تنسى”، مؤكدا أن الدليل الحي على تلك القصة هو أغنية “لا تكذبي”.
يقول مصطفى أمين: لقد كُتبت هذه السطور داخل حجرة مكتبي بمنزلي بالزمالك، وهي قصيدة ليس فيها مبالغة أو خيال، وكان كامل ينظمها وهو يبكي، وكانت دموعه تختلط بالكلمات فتطمسها. ودخل ذات مرة علينا أنا والموجي البيت مسرعا إلى غرفة المكتب، وسمعناه يتحدث للمطربة التي عشقها بصوت منتحب خافت، تتخلله الزفرات والعبرات والتنهدات والآهات، مما كان يقطع القلوب، وحكى لنا بنفسه أن المطربة كانت صامتة أثناء سماعها الكلمات، لا تقول شيئا ولا تعلق ولا تقاطع ولا تعترض، وبعد أن انتهى كامل من إلقاء القصيدة قالت له: كويسة أوي، تنفع أغنية، لازم أغنيها. وحبّا فيها وللوقوف بجانبها، ودعما لمسيرتها الفنية، وافق على أن تكون هذه المشاعر الصادقة أغنية لها.
صراعات المنافسة والغيرة الفنية
تكاد نجاة الصغيرة تكون النسخة الأنثوية من عبد الحليم حافظ فيما يتعلق بالغيرة الفنية، فقد كانت تتابع كل جديد من زميلاتها وزملائها في عالم الغناء، وتشعر دائما بقلق وجودي حول مكانتها في ذلك العالم، ولعل تحفتها الغنائية “ساكن قصادي” أشهر شاهد على ذلك.
سجل عبد الحليم حافظ أغنية “لا تكذبي”، وضمها إلى أعماله، بعد أن غناها في إحدى الحفلات ولقيت اعجابا من الجمهور، فأشعل بذلك غضب نجاة، وكان قد فعلها من قبل حين قدمت أغنيتها “غريبة منسية “في فيلم “غريبة” (1958).
فقد خرج بعدها عبد الحليم في لقاء إذاعي، وغنى الأغنية، وقبل أن يغنيها قال إنه وَدَّ لو يغني اللحن بكلمات تتناسب مع أن يغنيها مطرب لا مطربة، “لأن كلمات الأغنية الأصلية تجري على لسان امرأة أو فتاة”.
وقد تجاهل تماما ذكر المطربة نجاة، التي قدمت أغنية “غريبة منسية”، وهي من كلمات الشاعر مرسي جميل عزيز، ومن ألحان كمال الطويل.
ومع أنها انفردت بقمة خاصة بها في عالم الغناء الرومانسي، بأغانٍ منها “بان عليا حبه” و”غريبة” و”سمارة” و”ليه الحلو بيدارى”، فقد أعجبت بشدة بأغنية شادية “مين قال لك تسكن في حارتنا” التي تصنف أغنية شعبية.
وبسبب الغيرة، طلبت من الشاعر الغنائي حسين السيد أغنية تشبهها، فتساءل هل الغيرة هي السبب، فقالت نجاة إنها أعجبت بالقصة الكاملة التي تحتويها الأغنية، ومن هنا ولدت أغنية “ساكن قصادي”.
فايزة أحمد.. معركة شرسة في حلبة الفن
كانت معركة الغيرة مع المطربة فايزة أحمد أكثر شراسة، فقد لاحظت فايزة أحمد اهتمام الموسيقار محمد عبد الوهاب بموهبة نجاة وتلحين أغانيها، فصارحته بأنه لم يعد يهتم بأغانيها لصالح نجاة.
وقد حاول عبد الوهاب التقريب بينهما، فدعا عددا من الفنانين إلى جلسة فنية في منزله، فأتت فايزة أحمد، ثم جاء اعتذار نجاة عن الحضور بعد انتظار ساعة كاملة، ففهمت فايزة أن نجاة لا تود مقابلتها.
وقد ضمتها فايزة أحمد منذ ذلك اليوم إلى قائمة الأعداء والمتآمرين عليها، وهو ما كانت تظنه دائما، لكن الأمر لم يكن يتجاوز خوف الجميع من عصبية فايزة، لا سيما حين يتعلق الأمر بالغيرة الفنية، ولم تكن نجاة خصما سهلا، فقد خاضت المعركة حتى نهايتها، حتى أنها حاولت تقليد حفلات فايزة أحمد الشهرية الفردية، لكنها لم تنجح.
سعاد حسني.. شائعات الغيرة بين النجمتين الأختين
ربما تكون شائعات الغيرة بين نجاة الصغيرة وأختها من أبيها سعاد حسني قد لامست شيئا من الحقيقة على الأرض، لا سيما في المشروع الوحيد لعمل سينمائي بينهما، فقد كان مقررا أن تقوما بدور أختين، لكنه لم ينفذ.
ومع ذلك فقد نفت نجاة وجود أي خصومة بينهما، وحين أرادت سعاد حسني إنهاء علاقتها بعبد الحليم حافظ، لجأت إلى منزل نجاة وطلبت كتمان الخبر، وحين التقى حليم بنجاة مؤكدا أنه لن يتسبب في أي ضيق لها، قالت له إن رسالة سعاد إليه واضحة، وهي أن كل شيء بينهما قد انتهى.
تزوجت نجاة قبل أن تبلغ 16 عاما من صديق أخيها كمال منسي، وأنجبت منه ابنها الوحيد وليد، وبعد 4 أعوام فقط، طُلقت في ساحات المحاكم. ثم تزوجت المخرج حسام الدين مصطفى، ولم تستمر معه إلا سنتين ثم طلقت، وقررت بعدها أن تتفرغ لفنها وابنها.