أحمد عدوية.. مطرب السادات ومحبوب البسطاء وعدو المثقفين
كانت شرطة الآداب تستعد للاتجاه إلى أحد ملاهي شارع الهرم بمصر نهاية السبعينيات، لاعتقال المطرب أحمد عدوية بسبب كلمات أغانيه، وحينها كان وزير الثقافة د. عبد القادر حاتم يطلق تصريحا ناريا، يقول فيه إنه خطر على المجتمع المصري، ويشكل لجنة لمكافحة ظاهرته.
وفي فجر اليوم ذاته، كتب الصحفي والمثقف اليساري الشهير صلاح عيسى عن ظاهرة العندليب الأخنف ساخرا منه، كما سخر د. مصطفى محمود منه، قائلا إن صوته يشبه صوت ذكر البط!
تكرر هذا المشهد بكل لقطاته مئات المرات، منذ أطلق عدوية أغنيته “السح.. الدح إمبو” التي اكتسحت الشارع المصري، وتحول بعدها من شاب نحيف أسمر يعمل “مزهرجي” وراء إحدى الراقصات، إلى فقرة غنائية ثابتة في أغلب ملاهي شارع الهرم.
ومع ظهور شريط الكاسيت، انتشر صوت عدوية في الشارع المصري، متحديا “حفل القتل” الذي كان يناله يوميا بأقلام الصحفيين من جهة، وقرارات شرطة الآداب والرقابة على المصنفات الفنية، ومنعه من الإذاعة والتلفزيون من جهة أخرى، حتى وجد طريقه إلى الشهرة والمال والنجاح وبيت رئيس الجمهورية، فقد كان ضيفا ثابتا في المناسبات الاجتماعية للرئيس أنور السادات وأسرته.
عصر السادات.. مظاهر القطيعة مع العهد الناصري
شاء قدر المطرب الشعبي ذو الأصول الصعيدية أن يظهر في مرحلة زمنية، يترأس فيها مصر رئيس منفتح يكره المثقفين ويسخر منهم، وأن يكون هؤلاء المثقفون هم صحفيي الثقافة ومسئوليها وكبار رجالها في مصر.
وبينما توراى مطربو المرحلة الناصرية، ولد عدوية مع ميلاد مشروع السادات، فأراد أن يكايد مثقفي اليسار به، فاستضافه في مناسباته، ودافع عنه صحفي السادات المفضل، ألا وهو أنيس منصور.
بقيت ملامح عدوية الغنائية أكثر أصالة من أن يطمسها التشويش السياسي والكيد المتبادل بين الرئيس ومثقفي الناصرية، وكانت أُذن الجمهور أكثر حساسية من الجميع، لا سيما بعد الملل والضجر من الأغاني السلطوية التي سميت “الأغاني الوطنية”.
وبعد توغل غول الانفتاح الاقتصادي اجتماعيا واقتصاديا وظهور أزمات نوعية، كان الجمهور بحاجة لمن يعبر بصدق عن مشاعره ولغته، بمفرداتها التي ولدت مع قيم الانفتاح.
انتهى حفل القتل -الذي شاركت فيه أطراف السياسة والثقافة المصرية والإعلام والرقابة وشرطة الآداب- بمحاولة حقيقية للقتل من قبل طرف خارجي، أدت إلى غياب أحمد عدوية أكثر من عقد، ثم عاد بعد أن تغير الأذواق، ولكنه احتفظ بمجده وحفظ له مطربو الأغنية الشعبية وجمهورها مكانته، ودوره في التأسيس لأغنية تنقل الواقع القبيح وضجيجه في قالب فني جميل.
أحمد عدوية.. بداية متواضعة في ظل الراقصات
ولد أحمد محمد المرسي الشهير بأحمد عدوية في محافظة المنيا بمصر عام 1945، وكان والده يعمل بتجارة المواشي، وله من الولد 14، كان أحمد هو الـ13 منهم، وقد توفي يوم الأحد 29 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
أحب أحمد الغناء منذ طفولته، وترك المنيا عام 1969، واستقر بالقاهرة في مقهى بشارع محمد على، يسمى مقهى “الآلاتية”، وهو مخصص لعازفي الآلات الموسيقية في الأفراح والحفلات.
طُرد الشاب الصعيدي من منزل أسرته، وتوقف عنه الدعم بكل أشكاله، عقابا له على العمل في مجال الفن والموسيقى، واضطر للبحث عن عمل، ولم يكن يتورع عن ممارسة أي عمل للاستمرار في الحياة، فعمل بوظيفة “مزهرجي”، وهي مهنة تشبه مهنة الطبال، لكنه يستخدم “المزهر”.
وقد عمل في تلك المرحلة مع راقصة اصطحبت فرقتها للعمل في بيروت، وكان الأجر ضعيفا، ولم يكن راضيا عن عمله في تلك الفرقة، بسبب إلحاح هاجس الطرب والغناء.
شريفة فاضل.. صدفة تفتح نافذة إلى النجومية
لعبت الصدفة دورها حين التقى أحمد عدوية بالمطربة المصرية شريفة فاضل، وكانت في رحلة عمل في بيروت، وقد أسر لها أنه لو امتلك ثمن تذكرة العودة إلى القاهرة لعاد فورا، فأهدته إياها.
بعد العودة استمرت علاقته مع شريفة فاضل، وحين أقامت حفلا في عيد زواجها منحته فرصة للغناء، فكانت تلك بدايته، فقد التقطه مدير ملهى “أريزونا” الشهير في شارع الهرم، ووقع معه عقدا.
تقول السطور الأولى من كلمات الأغنية التي كانت بداية لتيار كاسح من الغناء الشعبي:
عمي يا صاحب الجمال
ارحمني دا أنا ليلي طال
شوف لي جمال على قد الحال
يعوض صبري اللي طال
عمي يا صاحب الجمال
السح الدح امبو
إدي الواد لأبوه
يا عيني الواد بيعيط
مغني السادات.. نقد خفي للسياسات والتحولات الكبرى
لم تشهد مسيرة مطرب مصري أو عربي نقدا وهجوما مثل مسيرة أحمد عدوية، وقد تلقى ثناء من أسماء كبرى في ذلك الوقت، منها عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وغيرهم، ولحّن له العملاق بليغ حمدي 5 أغنيات، منها “القمر مسافر” و”ياختي اسملتين”، لكن مثقفي الطبقة الوسطى وأبناء الثقافة الناصرية رأوه رمزا ساداتيا معبرا عن قيم الانفتاح الاقتصادي.
فبعد أن اختاره السادات للغناء في زفاف ابنته، أصبح أحمد عدوية فرصة أكثر أمانا لتوجيه سهام النقد للمرحلة وملامحها، فلم يكن كثير منهم يجرؤون على انتقاد شخص السادات. لكن ما لم يفهمه هؤلاء هو أن كلمات عدوية لم تكن إلا نقلا لأجواء التحولات الكبرى، التي شهدها المجتمع في السبعينيات.
وكان ممن أعجب بغناء عدوية الكاتب الروائي الكبير نجيب محفوظ، فقال إنه يعبر عن المرحلة بكل ما فيها. فقد كانت كلمات أغانيه تأتي من قلب الشارع المصري، بعيدا عن المجالس والياقات الزرقاء وافتعال الرقي، لكن تعالي المثقفين في تلك المرحلة كان يأبى إلا أن يبقى بعيدا عن العامة، فضلا عن أولئك الساسة الذين لا يرغب أحد منهم بوجود صوت يعبر عن ثقافة البسطاء.
“مطرب الحارة”.. معركة شرسة يقودها المثقفون والنقاد
كانت أغنية “السح.. الدح.. أمبو” قنبلة انفجرت في عالم المثقفين، أكثر من كونها فجرت جماهيرية عدوية وجعلته نجما، وقد هوجم الرجل لأن الأغنية لم تكن جديدة، فقد غناها الممثل والمطرب الشعبي محمود شكوكو قبله.
وقد افتعل الصحفيون والنقاد معركة وهمية، شهدت استقطابا بين أحمد عدوية من جهة، وبين محمد رشدي الذي انحاز له مثقفو اليسار، لكونه أقرب إلى المرحلة الناصرية من عدوية، الذي يعد رمز للمرحلة الساداتية.
كان نقاد عدوية قد صدموا بسماع “سلامتها أم حسن” و” كركشندي” وغيرها من الألفاظ والتشبيهات الغريبة، بعد مرحلة من الغناء الرصين لعبد الحليم وأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم، ولذا فإن ذلك الدوار الذي أصابهم جراء تلك الغرابة كان طبيعيا، فقد انعزلوا عن الطبقة الخفية من أبناء الحارات الشعبية.
لذلك كانت تسمية “مطرب الحارة” التي أطلقها عليه نجيب محفوظ أصدق التسميات، بل إنها مدعاة لفخره، فقد كانت الحارة المصرية -وما زالت- مصدر الإبداع في كل المجالات، مع تعالي المثقف اليساري على العامة، وتعالي أبناء الطبقة الوسطى من المثقفين والصحفيين على البسطاء.
تقول كلمات أغنية “سلامتها أم حسن”:
سلامتها أم حسن
مِ العين ومن الحسد
وسلامتك يا حسن
مِ الرمش اللي حسد
سلامتها، سلامتها، سلامتها
سلامتها أم حسن
جالها الدور اللي ماشي
والدور ما نيمهاشي
والعين ما سيبهاشي
محسودة أم حسن
“السلطنة”.. أقصى طموح رجل يغني للطرب المحض
لم يكن أحمد عدوية مثقفا ولا مدعيا للثقافة، ولكنه كان مغنيا يملك منحة إلهية، وصوتا نادرا قادرا على الأداء المؤثر، لذلك لم يكن الغناء يحمل رسالة لديه، بقدر ما كان ترفيها، وكان أقصى ما يطمح إليه هو “السلطنة”، وهو مصطلح مصري، يطلق على الحالة التي يصل إليها المستمع والمطرب حين يكونان في قمة الاستمتاع بالأغنية أو الموال، وبهذا الإدراك البسيط، قدم أغاني مكنته من قمة الغناء المصري، من دون حاجة لاعتراف رسمي من نقاد أو مثقفين به.
وكانت كل الأغاني التي تبدو حالة عادية لديه ولدى أبناء طبقته، تمثل صدمة لدى جمهور آخر يشهد اجتياح تلك الأغاني للشوارع والمحلات والملاهي والأفراح، ومنها:
- عيلة تايهة يا ولاد الحلال.
- يا ليل يا باشا.
- أنا عايش والسلام.
- احنا المعلمين.
- 100 بوسة ونص.
- الحلو وصل.
- بنت السلطان.
كان من المسموح به في كلمات أغنيات عدوية أن تكون مصر هي “أم حسن”، المذكورة في أغنية “سلامتها أم حسن” التي كتبها حسن أبو عثمان، كما كان تعبيره الموجه للإسرائيليين بعد النصر في أكتوبر/ تشرين الأول 1973 هو “إحنا المعلمين”، فيقول ببساطة فخرا بالنصر:
كله على كله
لما تشوفه قول له
هو فاكرنا إيه
مش ماليين عينيه
روح قول له
حصل إيه
كله على كله
هو فاكرنا إيه
مش ماليين عينيه
بره واللي بره مين
دا احنا، احنا معلمين
لو الباب يخبط
نعرف بره مين
بحة غنائية تعكس بساطة الحزن
في أول لقاء بين الشاعر مأمون الشناوي وأحمد عدوية، قال له الشناوي: أنت ذو بحة لا شبيه لها، ثم قدمه للمنتج عاطف منتصر، الذي قدمه في تجارب أشرطة الكاسيت، وحققا معا معجزة القبول المدهش لمحبوب الشعب، ومكروه المثقفين، ومطرب البسطاء.
أما البحة التي لفتت نظر الشناوي، فقد حملت مخزون الحزن الذي يأبى أن ينتهي في حياة تلك الطبقة الهشة، التي تتلاعب بها السلطة والأسعار والزمن، لذلك جاء تعبيره عنها بهذه الموسيقى الصاخبة، والإيقاعات الراقصة، والصوت الذي أصبح مدرسة في الأداء الغنائي الشعبي، ويعبر عن الفقد بصخب ورقة معا.
يقول في أغنيته “يا قلبي صبرك على اللي راح”:
يا قلبي صبرك على اللي راح ولا جاش
مراسيل وجوابات والرد مجاشي
أمانة يا جميل أنا فكرك متنساشى
أنا أطلب من الله على اللي غاب
عني سنين ولا جاشى
يا عين يا ليل، ليلي، ليل يا ما فيك مواجع يا ليل
وهو في عتابه يحذر ويهدد، ويعبر عن الحب أيضا، فيقول في أغنيته “ما بلاش اللون ده معانا”:
ما بلاش اللون ده معانا
راح تتعب أوي ويانا
ولا احنا عشان بنحبك
تشتري وتبيع في هوانا
ما بلاش اللون ده معانا
بلاش ده معانا
هتلوّن ليه ويانا
بطل حركاتك ديه
امبارح كنت معانا
سكر في حلاوة طحينية
حصل إيه منا يا أخينا
توعدنا ولا بتجينا
وتعدي ولا بتسلم
بكره اللي عطاك يعطينا
ولا احنا عشان بنحبك
تشتري وتبيع في هوانا
ما بلاش اللون ده معانا
بلاش ده معانا
أفلام السينما.. ممثل سيئ الأداء لرفع الإيرادات
سعى المنتجون للاستفادة من شعبية أحمد عدوية، فقدموه في نحو 14 فيلما، مع كونه ممثلا سيئا، لكن وجوده في الفيلم كان كفيلا برفع إيراداته، ومن تلك الأفلام:
- الفاتنة والصعلوك (1974).
- 4-2-4 (1981).
- أنياب (1981).
- رحلة الرعب (1981).
- العسكري شبراوي (1982).
- خمسة في الجحيم (1982).
- رجل في سجن النساء (1982).
- مخيمر دائما جاهز (1982).
- شاطئ الحظ (1983).
- ممنوع للطلبة (1984).
وينتمي أغلب تلك الأفلام إلى عقد الثمانينيات، حين سادت سينما المقاولات، بما تعنيه من أفلام متواضعة المستوى فنيا وتقنيا.
وفي فيلم “خرج ولم يعد” (1984)، استعان المخرج محمد خان بجملة على لسان البطل، حين قرر أن يعود إلى المدينة، فقال: “جاي لك يا عدوية”.
واستعان أيضا بالأغنية التي أصبحت مقولة سائدة في المجتمع “زحمة يا دنيا زحمة”، وتعد تجليا لما يعبر عنه عدوية، حين يبلور ذلك الواقع القاسي غير المحتمل في كلمات وأغان، يبدو خطرا على الرقابة بكافة أشكالها أن تسمح بها، وإلا أثارت بوضوحها الجماهير.
تقول كلمات “زحمة يا دنيا زحمة”:
زحمة يا دنيا زحمة
زحمة وتاهوا الحبايب
زحمة ولا عاد شي رحمة
مولد وصاحبه غايب
آجي من هنا زحمة
وأروح هنا زحمة
هنا أو هنا زحمة
زحمة يا دنيا زحمة
زحمة وأنا رايح له
وأنا فوسط الزحام
عايز يسمع وأقول له
ما بيوصلشي الكلام
بيني وبينه ميعاد
وهيروح الميعاد
آجي من هنا زحمة
وأروح هنا زحمة
هنا أو هنا زحمة
زحمة يا دنيا زحمة