“شارل أزنافور”.. فيلم طافح بالحنين يحيي أيقونة الأغنية الفرنسية

كان ابن لاجئين ضئيلا فقيرا ذا صوت مبحوح، سُخر منه حين أراد الغناء، وقيل له إن مقومات النجاح ليست لديه، لكنه أصبح أيقونة الأغنية الفرنسية، بعد عمل جاد ومثابرة وإرادة قوية ومئات من الأغاني، سحر بها العالم وألهم الأجيال، وأصبح رمزا للثقافة الفرنسية.

إنه “شارل أزنافور” الذي اغتنت مسيرته بأعماله الموسيقية، وقد كتب أكثر من ألف أغنية، وغنى بعدة لغات، وكان أكثر المغنين الفرنسيين شعبية وشهرة خارج فرنسا.

بعد عدة أفلام وثائقية عنه، أوحت سيرته الذاتية لمخرجيْن فرنسيين بإنتاج “السيد أزنافور” (Monsieur Aznavour) الذي عُرض عام 2024، وهو فيلم روائي للفرنسييْن “مهدي إدير” و”جسم طويل مريض” (لقب يتخذه المخرج فابيان مارسو).

يُعرض الفيلم حاليا في فرنسا، وقد حقق نجاحا شعبيا كبيرا، وبيع منه مليون ونصف من التذاكر في أسبوعين فقط، لكن ذلك النجاح لا يلتقي كثيرا مع آراء النقاد الفرنسيين. ومع ذلك فإنه يبقى عملا ممتعا، ومثيرا لمشاعر مبهجة، فإيقاعه حيوي لدرجة يمر معها الزمن (133 دقيقة) سريعا.

“السيد أزنافور”.. نجاح يطرح أسئلة كثيرة

يطرح نجاح الفيلم تساؤلات حول التفاوت بين آراء الجماهير والنقاد. فهل السبب شعبية “شارل أزنافور” نفسه، وما يثيره في المخيلة الجمعية الفرنسية والعالمية من إعجاب بموسيقاه وأغانيه، أم هو حنين إلى زمن ولّى يرمز إليه المغني وكلماته المشبعة بالعاطفية والرقة، ويحيل صوته -حتى في نفوس من لم يعاصروه- إلى جيل آباء وأجداد؟

“ماريغولي بوب” في دور “إديث بياف”

وربما كان السبب هو الفيلم نفسه، فقد أثار مشاعر كثيرة، حتى لمن لا يحب “أزنافور”، وذلك لأسلوب إخراجه الذي اعتمد سردا بسيطا تقليديا متعاطفا، بل محبّا ومعجبا بشخصيته الرئيسية، وآية ذلك وصفه بـ”السيد” قبل اسمه في العنوان، مصحوبا بأداء لافت للممثل الفرنسي ذي الأصول الجزائرية طاهر رحيم، فقد جسّد شخصية “أزنافور” بكثير من الدقة والصدق، فهل كل هذا جعل الفيلم شعبيا بامتياز؟

استمد المخرجان سيرة “أزنافور” من أغنياته، ومن الأفلام الوثائقية المعدة عنه، ولقاءاته الكثيرة مع الصحافة والتلفزيون، وحفلاته في أنحاء العالم.

التسلسل الزمني.. اختيار يؤثر على تنقية الأحداث

وُلد “شارل أزنافور” عام 1924، وتوفي عام 2018، وبدأت مسيرته مستهل الأربعينيات بباريس، وقد سار السرد على خطّ مستقيم، فاتّبع تسلسل الأحداث زمنيا، من طفولته وبداياته الصعبة حتى الاعتراف العالمي، مرتكزا على مراحل مهمة في مسيرته الطويلة، مما أدى لاتخاذ قررات صعبة في الاختيار الأوّلي للأحداث، ثمّ في التقطيع الفيلمي (المونتاج).

ملصق فيلم “السيد أزنافور”

وعلى سبيل المثال، لم يهتم الفيلم بمسيرة “أزنافور” التمثيلية، مع أنه شارك في 60 فيلما سينمائيا وتلفزيونيا، إلا من خلال مشاركته في فيلم “أطلقوا النار على عازف البيانو” (Tirez sur le pianiste) للمخرج الفرنسي “فرانسوا تروفو” (1960).

لكن المخرجين -وهما كاتبا النص أيضا- استطاعا تسليط الضوء على جوهر مسيرة لم تكن يسيرة، مما جعل الفيلم يحافظ على إيقاع حيوي، كما اعتمدا تقسيم المراحل لخمسة فصول، لكلٍ منها عنوان أغنية من أغاني “أزنافور”، لإبداء مدى ارتباطه بحياته الشخصية والعامة.

ابن المهاجرين.. بيئة دافئة تثري الميول الفنية

استُهلّ الفيلم بصور سريعة -بعضها نادر- من هجرة الأرمن وهربهم من الإبادة، ومنهم عائلة “أزنافور” الفقيرة التي وصلت إلى فرنسا، ثم يرسم صورة مبهجة لجماعة مرحة مترابطة، تحب الغناء والاجتماع مع الرفاق، على ما بها من وضع سيئ.

“أزنافور” مع الفرقة لموسيقية

سعى “أزنافور” للغناء وهو ابن 9 سنوات، في بيئة أغنت ميوله الفنية، وقد كان مصمما على النجاح، لا تقف العوائق الكثيرة في طريقه، لا في الصغر ولا في الكبر.

وكان الفيلم في كل مرحلة لا يغفل تأثير محيط المطرب عليه، ومدى ظهور الشخص المناسب في المرحلة الحاسمة.

خذلان أصدقاء البدايات.. جانب سيئ أبرزه الفيلم

مع أن الفيلم قد تعاطف مع “أزنافور”، فإنه لم يتوان عن إظهار ملامح بغيضة من شخصيته، منها تخليه عن أصدقاء كانوا سببا في صعوده؛ منهم “بيار روش”، وقد كان له دور كبير في بداياته، فقدمه للمجتمع وأوساط المسارح. وقد أدى دوره الممثل “باستيان بويون” أداء رائعا يلامس المشاعر.

وكذلك صديقته المغنية الفرنسية “إديث بياف”، التي كان لها تأثير على دخوله عالم الكبار بسبب دعمها له، لكن الفيلم لا يغفل “استخدامها” له أيضا. وقد أدت دورها الممثلة “ماري جولي بوب” بأسلوب مبتكر، أظهر روح دعابة غير معروف لدى هذه المغنية الفرنسية الشهيرة.

لقد اتخذ “أزنافور” طريقه في عالم الفنّ والغناء، بعيدا عن هؤلاء الذين دعموه في بداياته، لكن الفيلم أبدى ذلك بتسامح وعين حانية مبررة، فأظهر -فيما بعد- مصالحاته معهم، وكأنه يبرز حقيقة الإنسان بضعفه وأخطائه وهوسه بالنجاح، خلال مرحلة كفاح طويلة للوصول.

أساليب المساومة وغريزة التجارة.. ثقافة الرجل الشرقي

اختار السيناريو سمات أخرى من شخصية البطل ليركز عليها، منها مهارته وجرأته في المساومة على عقود فنية وتحقيق أجور مرتفعة، مثيرا دهشة وإعجابا لدى صديقه الفرنسي الأقل جرأة في هذا المضمار، والأكثر تقبلا لما يفرض عليهما.

وكأن من ميزات الشرقيين التحلي بهذا الحسّ التجاري الغريزي، وكذلك ارتباطهم العائلي القوي ومساعدتهم التلقائية لأهلهم بما يجعلهم يعيشون حياة تليق بهم.

يستكشف الفيلم أجواء باريس تلك الحقبة، عبر تناوله شتى مراحل حياة “أزنافور” وسنواته الشاقة قبل النصر الساحق، فقد كان على الفنان يومئذ الاحتكاك بالجمهور للاعتراف به، وكان طريق ذلك الغناء في ملهى أو مطعم أو شيء من هذا القبيل.

طاهر رحيم.. تدريب مكثف وتحليل نفسي للشخصية

يتابع الفيلم صعود “أزنافور” من مؤدي أغنيات شهيرة إلى مؤلف موسيقي، يكتب الكلمات المرهفة ويجول العالم. وكان حضور الممثل طاهر رحيم مهمّا في تقريب الشخصية، فقد سعى للتوافق مع الشخصية جسديا، ففقد كثيرا من وزنه ليشبه “أزنافور”، وشاهد كل مقابلاته، واستعان بمدربين لإجادة حركات جسده المميزة على المسرح.

وللاندماج في الدور، تلقّى طاهر رحيم دروسا في العزف على البيانو، وتدرّب على الغناء قبل التصوير ما بين 6-8 ساعات أسبوعيا لمدة 6 أشهر، وأدى الأغنيات بصوته، فلم يرد دبلجة صوته في المشاهد الموسيقية، مع دمج صوته أحيانا بصوت “أزنافور” في الطبقات الصوتية الصعبة في نفس الأغنية.

طاهر رحيم في دور “أزنافور” مع “أديث بياف”

كما أنه حلق شعره لوضع شعر مستعار قريب من تسريحة “أزنافور”، وجعل عالِما نفسيا يقرأ النص السينمائي، ليحلل شخصية “أزنافور” من خلاله، ليفهم سبب عصبيته، وإماطة اللثام عن شخصية الإنسان بعيدا عن الفنان. ومن حسن الحظ أن كل هذا لم يجعله مقلدا لـ”أزنافور”، بل شخصية تؤدي دورا.

مراحل حياة البطل.. أسلوب يقرب من الشخصية

اختار “السيد أزنافور” تقديم معظم مراحل بطله كما عُرف، وفي ذلك مخاطرة تقود للمبالغة في الإيجاز أحيانا، وإهمال جوانب مهمة، وهي هنا عدم التطرق كثيرا لحالة “أزنافور” النفسية، أو التعمق في شخصيته، وربما كان ذلك أكثر ما أثر على نوعية الفيلم، وإن حاول تلافي ذلك في المشاهد الأخيرة، لكنه لم ينجح تماما.

لكن مع ذلك، يمكن القول إن الفيلم سمح بفهم أفضل لشخصية “أزنافور” وعلاقاته مع عائلته، كما أن تعامله معه -وإن كان بحبّ وإعجاب بفنه- لم يصبغ عليه هالة من التقديس، بل صوّره بنقاط ضعفه وقوته.

ومع تكفّل أغانيه بما بقي، فقد متّع الفيلم المشاهدين، وأثار رغبة الاستماع من جديد إلى هذا المطرب، وقرّبه من بعضٍ لم يكونوا مغرمين به تماما.

أليس هذا دليلا على نجاح عمل؟


إعلان