فايزة أحمد.. رحلة كروان الشرق المغرد بالأحزان والمواهب

ذات يوم علم الموسيقار رياض البندك من محمد العاقل -وهو عازف الإيقاع بفرقة الإذاعة- أنه سمع في مسرح سوريا صوت فتاة يراه من أجمل ما سمع من أصوات، وكان هذا المسرح من مسارح الدرجة العاشرة، تؤمّه طبقات شعبية.

وحين ذهب رياض في إحدى الليالي ليستمع لهذا الصوت، قدمها مذيع الحفل باسم فايزة أحمد. وقد غنت الفتاة النحيلة البسيطة أغنية أم كلثوم “ظلموني الناس”، وشعر رياض منذ الوهلة الأولى أنه يقف أمام مطربة ممتازة وواعدة.

وبعد الانتهاء من غنائها أرسل في طلبها، فجاءت مسرعة، واتفق معها على أن تنتظره صباح اليوم التالي عند باب الإذاعة، وفي العاشرة من صباح اليوم التالي وجدها تنتظره أمام باب الإذاعة. وقد تولى البندك تعريفها على المدير العام أحمد عسة، وأفهمه أنها موهبة كبيرة، تحتاج إلى رعاية.

ومنذ ذلك اليوم، بدأت “كروان الشرق” رحلة النجاح من دمشق، ثم لم تزل ترتقي في سماء الفن حتى بلغت أقصى ما يبلغ نجوم العصر، من النجاح الغنائي والسينمائي في هوليود الشرق.

إصرار موهبة تغلق في وجهها أبواب الإذاعات

وُلدت فايزة أحمد في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1930، وقد استحقت لقب “كروان الشرق” بجدارة، فقد كان صوتها الدافئ اختيارا مفضلا لكثير من الملحنين، ونالت إعجاب جمهور عريض، بفضل إجادتها فنون الغناء.

كانت فايزة طفلة صغيرة لم تبلغ عامها الحادي عشر، حين عادت مع أسرتها الكبيرة إلى سوريا، بلد والدها أحمد بيكو، وكانت قد وُلدت في لبنان، ثم تربت وكبرت في شوارع دمشق وأزقتها التاريخية، لكن والديها انفصلا، وتزوجت أمها رجلا يدعى أحمد الرواس، وهو اسم حملته فيما بعد بديلا عن اسم والدها الحقيقي، فعُرفت في بداية مسارها الفني باسم فايزة أحمد الرواس.

وقد كانت في لبنان حين قررت أن تغامر أول مرة بالتقدم إلى إذاعة بيروت، لتجتاز اختبارات الغناء لكنها لم توفق، وفي دمشق غامرت مرة أخرى، وتقدمت إلى لجنة لاختيار المطربين بإذاعة دمشق، لكنها أيضا لم توفق.

فايزة أحمد.. كروان الشرق

ثم سافرت بعدها إلى حلب بإصرار صلب غير قابل للكسر، فتقدمت مرة ثالثة لإذاعتها، ونجحت هذه المرة في نيل اعتراف رسمي بأنها مطربة، وبدأت في غناء مجموعة من الأغنيات القصيرة التي أسهمت في انتشار اسمها، وذلك ما دفع إذاعة دمشق لاستدعائها، لتعترف بها مطربة وتبدأ في تشجيعها بعدد من الأغنيات.

أُمِّية تغني موشح ابن هانئ الأندلسي.. بداية الطريق

يقول رياض البندك في مذكراته: أخذت على نفسي عهدا بأن أتولى العناية بمظهرها، والأخذ بيدها، حيث كانت حالتها المادية سيئة للغاية. كانت تسكن في غرفة بأحد الفنادق الرخيصة، وكانت في الثامنة عشرة من عمرها، واستطعت أن أنقل هذا الصوت والشكل من إنسانة فقيرة إلى فنانة قديرة. اخترت لها موشحا أندلسيا من شعر ابن هانئ الأندلسي، وقمت بتلحينه، ومطلعه:

امسحوا عن ناظري كحل السهاد
وانفضوا من مضجعي شوك القتاد

وخذوا مني ما أعطيتمُ
لا أحِب الجسم مسلوب الفؤاد

وفوجئتُ وأنا أقوم بتحفيظها للموشح بأن فايزة أمية لا تقرأ ولا تكتب، مما زاد في تصميمي على تبنيها، فبقيت معها نحو شهر كامل حتى حفظت كلمات الشعر. وسامحني الله كم أنّبتها وقسوت عليها حتى حفظت هذه الأبيات، وعندما أدت اللحن تأكدت أنها ستكون يوما ما من أعظم مطربات العصر، وذهبنا للأستوديو لإجراء البروفات قبل التسجيل.

“تأكدت أنها ستكون يوما ما من أعظم مطربات العصر”

سُجل الموشح وأذيع، ثم انهالت المكالمات الهاتفية على فايزة من جميع أنحاء سوريا. وبعد نجاح لحنه الأول لها، لحّن لها موشحا آخر للشاعر الفلسطيني حسن البحيري، يقول مطلعه:

أنت طيف أحسه في الأماني
يا بعيدا وأنت في وجداني

فجاءت اتصالات من عمان وبغداد وبيروت، تطلب تسجيل الموشحين في إذاعات هذه البلدان.

نجحت فايزة أحمد وأصبحت مطربة معروفة في سوريا، لكنها سرعان ما سافرت إلى العراق والتقت الموسيقار العراقي الكردي رضا علي، الذي كتب أغنيات كثيرة باللهجة العراقية، ثم لحنها خصيصا لفايزة أحمد، لكنها كانت تدرك جيدا أن أي نجاح لها في العراق أو سوريا أو لبنان لن يعادل نجاحها في هوليود الشرق القاهرة، فأصرت أن تسافر إلى مصر، لتشق طريقها هناك.

فايزة أحمد وولداها التوأم طارق وعمر من زوجها محمد سلطان

كانت تحلم بنجاح حققته مطربات عربيات أخريات في مصر، منهن صباح وأسمهان ونور الهدى وغيرهن. وما إن وصلت إلى القاهرة عام 1956 حتى تقدمت للإذاعة المصرية، وفي مبنى الإذاعة بالقاهرة تعرفت على الإذاعي صلاح زكي، الذي قدمها في أغنية من ألحان محمد محسن.

“صوت العرب”.. بداية النجومية في هوليود الشرق

لم تنقطع صلة رياض البندك بجوهرته التي اكتشفها. ودرءا للنهايات الدرامية، التقى معها في فندق العتبة الخضراء، وحدث مدير إذاعة “صوت العرب” أحمد سعيد عنها وعن صوتها، فرحب بها في الإذاعة، وكان من أهدافها الأولى يومئذ تقديم الفنانين العرب.

ساعد أحمد سعيد الفنانة فايزة أحمد على أن تشق حياتها الفنية، فأحضر لها أقوى فرقة موسيقية، ألا وهي “الفرقة الماسية” بقيادة أحمد فؤاد حسن، وكانت التدريبات في حجرة من حجرات معهد الموسيقى العربية (النادي الشرقي) بشارع رمسيس.

حضر كمال الطويل وبليغ حمدي، ليستمعا لصوت فايزة أحمد، والتقى مع الموسيقار رياض السنباطي، فبادره بحديثه عن فايزة أحمد، وقال له: “دا صوت الواحد يتمنى يلحن له”.

بدأت فايزة تتنقل بصوتها بين كبار الملحنين، ومنهم محمد الموجي، الذي لحن لها من كلمات مرسي جميل عزيز أغنيات “أنا قلبي ليك ميال”، و”بيت العز” و”يمه القمر ع الباب”.

كما تعاونت فنيا مع محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وكمال الطويل ورياض السنباطي، ثم الملحن محمد سلطان الذي تزوجها 17 عاما، فأنجبت منه ابنيها التوأم طارق وعمرو، ثم افترقا في 22 مايو/ أيار 1981.

وتعد أغنية “ست الحبايب” إحدى أشهر الأغنيات على الإطلاق في مدح الأم، تذاع باستمرار في عيد الأم بالراديو والتليفزيون. غنتها المطربة الراحلة فايزة أحمد عام 1958. وهي من كلمات حسين السيد وألحان محمد عبد الوهاب

“أنا قلبي إليك ميال”.. قصة أغنية تقطر بالأحزان الشخصية

من أبرز الأغاني التي قدمتها خلال مسارها الفني أغنية “أنا قلبي إليك ميال”، وقد تغنى بها كثيرون بعدها، وعندما يسمعها الجمهور يظنها أغنية عاطفية، ولكن ظروف تلك الأغنية مختلفة، فقد تأثرت بها كثيرا، لأنها تعبر عن مأساة في حياتها.

فقد كانت تزوجت في بداية حياتها شابا أحبته حبا كبيرا، وفرحت حين شعرت بجنين يتحرك في أحشائها منه، وأسرعت لتزف له البشرى، ولكن كانت صدمتها كبيرة حين قابل هذا الخبر بغضب، وطلب منها أن تسقط الجنين، لأنه لا يريد أطفالا في ذلك الزمن.

وقد عارضت فايزة ذلك، ورفضت طلبه متمسكة بالمولود، وقالت إنها لن تتخلص من ثمرة حبهما، مهما كان الثمن، فهددها بالطلاق إذا لم تستجب لإرادته.

وقد حسمت النقاش والقرار، فتمسكت بجنينها وفارقت زوجها، ثم قررت السفر إلى القاهرة، وبعد تقدمها للإذاعة المصرية ونجاحها في الاختبار، عرضوا عليها أغنيات لعدد من الملحنين الكبار، كان منهم الملحن محمد الموجي، الذي قدم لها لحن أغنية “أنا قلبي إليك ميال”، من كلمات مرسي جميل عزيز.

اختارت فايزة تلك الأغنية، وأهدتها لجنينها الذي كان في الشهر السابع من عمره، وغنت بإحساس مختلف، وقد وجدت في كلمات الأغنية خير تعبير عن حالها.

وفي تصريح لها، قالت إن بطل الأغنية لم يكن رجلا في خيالها، بل كان هذا الجنين الذي يتحرك في أحشائها. وقالت: حين غنّيتها، ملأت الدنيا عليّ ودا وحبا وحنانا، وجعلتني أحب الدنيا طوال أيامي وليالي، بكيت بشدة وغسلت الدموع وجهي، وظهرت بحة البكاء في صوتي. نجحت الأغنية لأني عشت فيها، وكأنها حياتي التي تجسدت في هذه الأغنية لحنا وكلمات.

وبعد شهرين وضعت مولودتها، وكانت طفلة جميلة فرحت بها وسمتها غادة، وقد ملأت حياتها حبا وحنانا، ولكن الصدمة الكبرى أنها حين بلغت خمسة أشهر خطفها الموت، فكانت أكبر مأساة في حياتها، وأظلمت الدنيا في وجهها، وكادت الوحدة ومشاعر الحزن أن تقتلها.

وتقول “كروان الشرق” إن الموجي ومرسي جميل عزيز شعرا بما كانت فيه من أحزان، وعبّرا عن حالها في أغنية جديدة كما فعلا في أغنية “أنا قلبي إليك ميال”، وقد كتب مرسي جميل عزيز أغنية:

يا وحدتي يا أنا
يا أنا يا حيرانة
اللي طفى شمعتي
وفاتني في وحدتي
خدي على مخدتي
وهمومي سهرانة
يا وحدتي يا انا

ووضع لحنها محمد الموجي، لتجسد أحزان فايزة الشخصية.

جدل في مجلس الشعب حول أغنية مائعة!

حين خرجت أغنية “يمه القمر ع الباب” إلى النور، أحدثت ضجة ومشكلات واسعة، ووجدها كثيرون أغنية مائعة خادشة للأخلاق، تتنافى مع الآداب العامة، حتى أنها أثارت احتجاجات في مجلس الشعب المصري.

فقد تقدم النائب الشهير وشيخ البرلمانيين سيد جلال باستجواب لوزير الإرشاد المصري، بسبب الأغنية، وطالب بعدم إذاعتها، ووصفها بالأغنية المائعة التي تثير الشباب، وتحض على الانحلال.

ومع أن الأغنية بقيت ولم تُمنع، فإنها أثارت سيلا من الانتقادات، ثم مُنعت في الأردن بعدما أصدرت وزارة الأنباء الأردنية قرارا بمنع إذاعتها، بناء على توصيات جهات دينية.

7 أفلام مع عمالقة الغناء والسينما

اتجهت فايزة أحمد إلى السينما، وشاركت في 7 أفلام، كان أولها “تمر حنة” (1957) أمام نعيمة عاكف ورشدي أباظة، وقد قدمت فيه عدة أغنيات من تلحين بليغ حمدي.

ثم أتبعته فيلم “امسك حرامي” (1958)، فثبّت أقدامها وجعلها في العام التالي 1959 تقدم ثلاثة أفلام دفعة واحدة، هي “المليونير الفقير” و”ليلى بنت الشاطئ” و”عريس مراتي”.

وفي عام 1961، شاركت في بطولة فيلم “أنا وبناتي” أمام زكي رستم وزهرة العلا. وفي عام 1963 كان آخر أفلامها “منتهى الفرح”، وقد شاركت فيه مطربين كبارا، منهم محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وصباح، وشادية.

تركت فايزة أحمد إرثا غنائيا كبيرا، فقد سجلت أكثر من 320 أغنية لإذاعة القاهرة، و80 أغنية تليفزيونية، وعشرات الحفلات في مصر والعالم العربي.

وقد تزوجت 5 مرات، وعانت طويلا من مرض السرطان، حتى غيبها الموت عام 1982، عن عمر يناهز 52 عاما.


إعلان