محمد رشدي.. مطرب الغيطان وشبح العندليب الأسمر

أعاد ضباط يوليو 1952 ضبط البوصلة الوطنية والاجتماعية طبقا لتوجهاتهم، وآمن أغلبهم بالفن كوسيلة لتشكيل وجدان المجتمع وصناعة تصوراته عن المرحلة التالية، فأحكموا السيطرة على الغناء والسينما، وكان المطرب الشاب محمد رشدي القادم من غيطان دسوق بمحافظة كفر الشيخ قد بدا لتوه في خوض مشوار بدا خياليا، بالنسبة لولد تحتل أسرته الدرجة الأدنى في السلمين الاجتماعي والاقتصادي.
وعلى التوازي، كان الشاب عبد الحليم حافظ القادم من قرية الحلوات، بمحافظة الشرقية، قد بدأ لتوه أيضا، ولكنه قرأ الواقع السياسي والاجتماعي، وحدد هدفه ودوره، بينما تاه محمد رشدي بموهبته الفطرية بين كلمات الأغاني والألحان، محاولا أن يصدق واقعه كمطرب ينتمي إلى نفس الطبقة التي ينتمي إليها محمد عبد الوهاب وليلى مراد وأم كلثوم.

ورغم “التوهة”، حقق رشدي نجاحات كبرى عبر ملحمة “أدهم الشرقاوي”، وأغاني مثل “عدوية” و”وهيبة”، لكن عبد الحليم حافظ كان يقف له بالمرصاد خلف كل باب، حيث طارده بعد نجاح أدهم الشرقاوي، وقدم الملحمة الإذاعية في فيلم رواه بصوته، لكن رد الجمهور كان قاسيا، إذ فشل الفيلم، وطارد عبد الحليم رشدي مرة ثانية بعد نجاح “عدوية”، لدرجة أنه حجز الملحن بليغ حمدي والشاعر عبد الرحمن الأبنودي وعيّن عليهما حراسا، ليصنعا له لحنا وكلمات تشبه تلك التي صنعاها لرشدي.
كان حليم صوت الثورة الذي تم اختياره لصناعة وجدان جيل جديد يغني “ظلموه” و”جبار” و” كل دقة ف قلبي بتسلم عليك”، ويشكل مشاعر طبقة مختلفة عن تلك التي تعيش في الغيطان، وتخلط ألحانها بطين الأرض وتغريد الطيور وآهات المحرومين، وقيم الأصالة، والتي جاء رشدي من هناك يحمل أمانتها.
كانت المحطة الأولى في مبنى ماسبيرو القابع على نيل القاهرة، حيث جلس أعضاء لجنة اختبار المطربين بمبني الإذاعة والتليفزيون في القاهرة في انتظار شباب المطربين لاعتماد من يصلح منهم للغناء.

استقبلت اللجنة شابين، أحدهما يدعى عبد الحليم علي شبانة والثاني محمد عبد الرحمن الراجي. لم يتردد أي من أعضاء اللجنة في اتخاذ القرار بقبول الثاني صاحب الصوت الجميل والقبول الواضح، بينما رفضت عبد الحليم شبانة.
كان الناجح هو الشاب الذي تغير اسمه فيما بعد إلى محمد رشدي، أما المرفوض فهو من تحول لاحقا إلى أسطورة الغناء والرومانسية في العالم العربي أو العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.
حاول عبد الحليم مرة ثانية ونجح وانطلق ليصنع أسطورة اكتملت بخلوده الفني وصموده أمام المطربين الأحياء رغم رحيله في مارس 1977، لكن رشدي الذي أجازته اللجنة من المرة الأولى اختفي فورا، وبالبحث عنه وجد جالسا في مقهى يواجه نافذة بيت يقيم فيه ابنه الوحيد الذي حرم من رؤيته بعد طلاقه لأمه.
صالونات وغيطان
كان الغناء في مصر، حتى خمسينات القرن الماضي، يشبه وجهي العملة، الوجه الأولى ينتمي إلى الصالونات حيث قصور الباشوات ونواديهم وكبار العاملين لديهم، والوجه الثاني يولد ويسمع هناك في الغيطان، وعلى جسور الترع وفي مواقيت الزرع والحصاد.
وحين قرر ضباط يوليو إعادة ضبط هندسة المجتمع المصري طبقيا، دفعوا بنماذج محددة في وسائل الاتصال الجماهيري لتكون الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه والشاب والفتاة المصرية، فكان الحب كما صوره عبد الحليم، الذي أصبح الفتي الذهبي لغناء الصالونات، وكان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم على رأس القائمة لهذا النوع من الغناء، والذي شكلت ملامحه حياة المدينة أو الحضر بمزيج من الموسيقى والغناء الغربي، وقائمة من طبقات التأثير، يتقدمها التركي الناتج عن سنوات الدولة العثمانية والبريطاني، والفرنسي أيضا.

وظهرت صورة الفتاة -في تلك المرحلة- كما طرحت في أفلام سعاد حسني وحسن يوسف، وغيرهم ممن شكلوا الصور المثالية لشباب الستينات فيما بعد، وعلى عكس كل هذا العمق والتخطيط، كان محمد رشدي يتلمس طريقه بالكثير من الفن والسذاجة، وعدم التصديق.
ولد رشدي لأب صاحب مزاج فني يعشق المواويل ويطاردها في البلدات المحيطة بدسوق، وأم مظلومة بزواجها من رجل مزواج سرعان ما أغرق فيضان النيل “قمينة الطوب” التي كانت مصدر رزقه الوحيد، فمنع ابنه من الدراسة، ليعمل الصغير في العديد من المهن حتى استقر مطربا في أفراح المنطقة.
مشروع قومي
كانت دسوق في فترة طفولة محمد رشدي بلدة صغيرة أو أقرب إلى قرية، وكان الشاب المهووس بالغناء معروفا، خاصة أنه كان يقضي أغلب وقته في دار السينما الوحيدة، لمشاهدة والاستماع إلى ليلى مراد التي ظل مغرما بها حتى آخر يوم في عمره، ولفت صوته نظر صديق والده الذي طلب أن يكفله ويعلمه الموسيقى والمقامات، وهو ما حدث بالفعل، وشكل الولد فرقته الغنائية.

والتحق محمد رشدي بمعهد فؤاد الأول للموسيقى نظير جهوده في الدعاية لمرشح على منصب “العمدة” في ذلك الوقت، لكنه لم يستكمل دراسته، فقد انشغل بالعمل لكسب الرزق.
ثم اعتمد في الإذاعة ليسجل أغنية واحدة شهريا ويحصل في المقابل على سبعة عشر جنيها، لكن قوات ثورة يوليو حاصرت مبنى الإذاعة في أحد أيام التسجيل، وطلب منه الحراس مغادرة المكان، فرفض مؤكدا أنه سيموت من الجوع لو لم يسجل الأغنية، وشاءت الصدفة أن تكون القوة في ذلك الوقت تحت قيادة محمد أنور السادات، الذي صار رئيسا لمصر فيما بعد، وسمح له بالغناء ولكنه طلب أغنية محددة وهي “قولوا لمأذون البلد”، وانتشرت بشكل مبهر، وتحولت إلى محطة رئيسية من محطاته الفنية.
شبح النهاية
كان محمد رشدي قد قرر المشاركة في حفلات المجهود الحربي، وفي الطريق إلى واحدة من هذه الحفلات بالسويس عام 1959 مع عدد من الفنانين وفى طريق العودة، كان يجلس بجوار الراقصة نادية فهمى، وفجأة طلبت منه نادية أن ينتقل ليجلس في الناحية الأخرى وأن يترك لها كرسيه لتنام عليه، وبعد دقائق اصطدم الأتوبيس بسيارة أنابيب مسرعة جاءت من الاتجاه الآخر في الناحية التي جلست فيها الراقصة نادية فهمى لتلقى مصرعها على الفور، وطار رشدي من الشباك، وأصيب إصابات خطيرة حيث كسرت ساقه وأصيب بجرح قطعي في وجهه وحاجبه واحتاج إلى العديد من الجراحات لتركيب شرائح ومسامير، وتسربت إليه قناعة -حينها- أنه لن يعمل بالغناء ثانية، وخاصة بعد أن تسبب الحادث بنسبة عجز في ساقه وإصابة في وجهه.
وأرادت الإذاعة المصرية تقديم ملحمة أدهم الشرقاوي في سياق تعميق معاني البطولة في الوجدان الشعبي، وعرضت على مستشار الموسيقى والغناء في الإذاعة أحمد حسن الشجاعى أسماء كل المطربين في هذا الوقت ولكنه اختار اسم محمد رشدي الذي كان يعاني من إصابات الحادث.
وسأل الشجاعى عن ورشدي ليغنى ملحمة أدهم الشرقاوي، فأخبروه أنه مصاب في حادث ويرقد في البيت، فقال الشجاعى: “هو مصاب في ساقه وليس في حنجرته”، وجاءوا به على كرسي، وأعطى الشجاعى لرشدي 84 موالا من ملحمة أدهم الشرقاوي، واجتهد المطرب وعندما سمعه الشجاعى قال له: ستكون علامة كبيرة في الغناء الشعبي بمصر والعالم العربي.
فيلم أدهم الشرقاوي والمثلث الذهبي
لم يستطع محمد رشدي أن يجد لونه الخاص رغم نجاحه المبهر في تقديم ملحمة أدهم الشرقاوي إذاعيا، وتحولها إلى حالة شعبية، ولكن عبد الحليم حافظ هو من أرشده من حيث لا يدري. كان عبد الحليم يعتقد أن بروز أي مطرب أو مطربة يعني انتقاصا من رصيده، وبالتالي كان يخصص الكثير من وقته للخلاص منه، وهو ما فعله حين عاد من إحدى رحلاته في لندن، فوجد حالة شعبية اسمها “أدهم الشرقاوي” يتردد صداها من شمال مصر إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.
قرر العندليب تسجيل ذلك النجاح باسمه، فتم تحويل الملحمة إلى فيلم بطولة عبد غيث وأسند غناء القصة والمواويل لعبد الحليم حافظ، وسبقت الفيلم حملة دعاية عبر الصحف، لكن الجمهور أدرك المكيدة، وفشل الفيلم، وعاد محمد رشدي إلى الواجهة كمنافس قوي لعبد الحليم حافظ، وانتشرت المقولات التي تتردد حتى الآن وملخصها أن عبد الحليم لا يمكن أن يترك نجما على الساحة سواه.
أفاق رشدي ليجد أن رصيده الجماهيري قد تضاعف، ورغم ذلك لا يستطيع أن يجد صوته الخاص، فهو مجرد صدى لبيئته الأولى، لكنه فوجئ أيضا بشخص يجلس إلى جواره في أحد مقاهي شارع محمد على بالقاهرة، قال إن اسمه عبد الرحمن الأبنودي، وأن عليه، إذا أراد أن يجد صوته الخاص، أن يغني كلماته.

بالفعل كتب الأبنودي ولحن بليغ حمدي وغنى محمد رشدي، فاهتز عرش العندليب واهتز الجمهور طربا، فقد اقتربت كلمات الأبنودي وألحان بليغ من وجدان الشعب الذي تتشكل أغلبيته من الفلاحين ولا يمثل سكان الحضر فيه سوى نسبة ضئيلة، فكانت “عدوية” و”تحت الشجر يا وهيبة” و”وسع للنور” و”بلديات” و”يا ناعسة وخبريني”، فكان رد عبد الحليم حافظ هو محاولة السير على نفس الخط الغنائي الذي أطلق عليه “الشعبي” بأغنية ” التوبة” كلمات الأبنودي وتلحين بليغ حمدي أيضا.
نجح عبد الحليم في السطو على التوجه الشعبي الذي يمثله محمد رشدي، وعاد بعد ذلك إلى عالمه الرومانسي لأهداف تتعلق بالمنافسة، لكنه، من حيث لا يدري- قضى على غناء أصيل ينتمي للأرض والطين في مقابل غناء قد يبدو حضريا، لكنه مزيج من ظلال خارجية.
ظهرت نتيجة إضعاف محمد رشدي في ظهور (غناء شعبي) آخر، لكنه هذه المرة قادم من حواري المدينة وأطراف الحضر، تمثل في أغنيات عدوية التي اضطر حليم بعد ذلك للتعاطي معها ومجاملتها لاعتبارات تتعلق بتأثير الزمن عليه وإدراكه أنها قادمة لا محالة.
ولم يكن المثلث الذهبي (رشدي -بليغ – الأبنودي) بمعزل عن توجيهات وسياسات ضباط يوليو التي حاولت صياغة نموذج مختلف للفتاة المصرية التي تجرؤ على الاعتراف بحبها، وتتلقى الغزل من حبيبها، وتواجه والدها تمسكا بحبها، وهو يكاد يكون محتوى أغاني الثلاثي، ولكن الغياب الإجباري لمحمد رشدي عن حفلات الثورة والمناسبات الوطنية المختلفة جعل منه خارج حسبة السلطة الغنائية في مصر.
نجح عبد الحليم في فصل المثلث الذهبي، فشعر محمد رشدي أنه عاد إلى مرحلة الضياع مرة أخري.
كان محمد رشدي الذي رحل عام 2005 عن 76 عاما رجلا طيبا بالمفهوم الشعبي للكلمة، لذلك لم يكن محظوظا بالقدر الذي يستحقه صوته وموهبته، خاصة في مواجهة العندليب الذي استطاع أن يمنعه من الغناء في حفل عيد الثورة عام 1965 بحجة أنه من غير المعقول أن يغني اثنان من المطربين في حفل واحد، وأنه يفضل مطربة.
لم يكن ضعف رشدي يتعلق بالصوت أو اللحن أو الكلمات، وإنما بالدائرة المحيطة به، فبينما كانت قائمة أصدقاء حليم تبدأ بمصطفى أمين وإحسان عبد القدوس والصحفي الشهير جليل البنداري وغيرهم من عتاة الصحفيين والمثقفين، فإن الصديق الوحيد الذي عرفه رشدي هو الروائي والصحفي محمد جلال الذي عرّفه بدوره على شاب يدعى حلمي بكر ويعمل بالتلحين، فأعطاه رشدي كلمات لأغنيتين كتبهما “حلاق رجالي” اسمه حسن أبو عتمان بعنوان عرباوي وحسن المغنواتي، ورغم القلق والتشاؤم استمر المطرب والملحن في الإعداد للغناء.
قدم رشدي الأغنيتين في حفل بنادي الضباط في الاسكندرية بمصر، وكان رد فعل الجمهور بمثابة قرار يربط بين رشدي وحلمي بكر حتى النهاية، ليقدما معا أكثر من ثلثي ألحان أغنيات رشدي.
نهايتان
في 30 مارس/آذار1977، كان عبد الحليم حافظ يرقد في إحدى مستشفيات لندن، بينما يجلس محمد رشدي في بيته يعاني من تجاهل يكاد يقضي عليه نتيجة ذلك التأميم الذي قام به حليم لأسلوب رشدي، ومن ثم العودة إلى الرومانسية، فلا هو ترك الرجل ولا استمر في غناء الشعبي.
في نهاية اليوم نفسه، كان حليم محمولا في صندوق إلى القاهرة. ورغم كل شيء، انهار رشدي حزنا على رفيق الدرب اللدود الذي التقي به مصادفة قبل نحو أربعين عاما وربط بينهما القدر.

وجاءت نهاية رشدي كما تمني بعدها بـ28 عاما، حيث كان قد قدم آخر ألبوماته “دامت لمين”، والذي حقق نجاحا كبير وجعل منه منافسا لكبار مطربي المرحلة في سوق الكاسيت، وكان الرجل يصور “فيديو كليب” لإحدى أغنيات الألبوم، حين شعر بالإعياء، فتقل إلى المستشفى وبعد أسابيع قليلة رحل رشدي تاركا تراثا فنيا وانسانيا ثريا.
قدم محمد رشدي مئات الأغاني، لعل أبرزها، هي “قولوا لمأذون البلد”، و”عدوية”، و”عرباوى” و”ميتا اشوفك” و”تحت السجر ياوهيبه” و”كعب الغزال” و”طاير يا هوا” و”يا عزيز عينى” و”يا ليلة ما جاني الغالى” و”دق عليا الباب” و” الاوبريت الاذاعى و”أدهم الشرقاوى” و”عشرية” و”مغرم صبابه”.
أما الأعمال الدرامية التي شارك فيها، فتبلغ 14 عملا، وأشهرها فيلم” القرش” 1981، و”فرصة العمر” 1976، و”ورد وشوك” 1970، و”فرقة المرح” 1970، وفيلم “عدوية” 1968، و”السيرك” 1968.