“نيلما كوداما”.. الصعود الخارق والسقوط المدوي لملكة الأموال الفاسدة في البرازيل
حين تعرف مسار هذه المرأة اللغز، ستطرح سؤالا جوهريا على نفسك أو على غيرك: ما الذي يحدث في البرازيل؟
وهو سؤال مشروع في ظل الأحداث والوقائع الجسام التي شاركت فيها، فقد أسست إمبراطورية فساد تشكلت منها سلسلة طويلة من رجال المال والأعمال والسياسية والتجار وأصحاب المال الفاسد والمنهوب، داخل البلاد وخارجها، بل إنها دخلت صفقة دولية كبيرة لتجارة المخدرات. فمن هي “نيلما كوداما” الملقبة بملكة الأموال الفاسدة؟
كثيرة هي وقائع الفساد التي تنتشر في دول أمريكا اللاتينية، لا سيما تلك التي تتغوّل فيها عصابات الجرائم المنظمة، ممن يرتدون البدلات الرسمية، وينتشرون في كل جزئية من أركان الدولة ومراكزها.
ومن بين تلك الدول البرازيل، فقد استفحلت فيها أذرع الجرائم المنظمة، وباتت تتحكم بالاقتصاد وحركة رؤوس الأموال، وتشارك في صنع القرارات السياسية، ولقد أطلعتنا عدة أفلام وثائقية على جزء من تلك الوقائع السوداء، أحدثها الفيلم الوثائقي “نيلما كوداما.. ملكة الأموال الفاسدة” (Nelma Kodama: The Queen of Dirty Money).
أخرج هذا الفيلم المخرج البرازيلي الشاب “جواو واينر” (2024)، وقد تتبع فيه إحدى أكبر قضايا الفساد التي شهدتها البرازيل في السنوات الماضية، ويتعلق الأمر بشبكة واسعة من السياسيين ورجال القضاء والشركات الذين تورطوا في سلسلة من الرشاوي والفساد وبيع الأحكام القضائية.
عرفت هذه القضية باسم “مغسل السيارات”، لأنها كانت تُدار من “مغسل السيارات”، وقد تورط فيها الرئيس البرازيلي “لولا دا سيلفا”، فحُكم عليه عام 2018 بالسجن عاما ونصفا، وقد نفّذ عقوبته وأصبح رئيس البرازيل مرة أخرى إلى غاية كتابة هذه الأسطر.
أما محرك هذه القضية، فهو اسمي نسوي، دخل عالم المال والأعمال عن طريق الصدفة، وهي “نيلما كوداما”، وكانت متخصصة ببيع الدولار، حتى لُقبت بملكة الدولار، ثم أصبحت فيما بعد ملكة الأموال الفاسدة.
“نيلما كوداما”.. امرأة زاحمت الرجال في تجارة العملة
كان حلم “نيلما كوداما” في بداية شبابها يسيرا، أن يصبح دخلها الشهري 5 آلاف دولار، وأن تمتلك سيارة ومنزلا، لكن سرعان ما ذابت هذه الأحلام وتلاشت، واستبدلتها بأحلام أكبر، حين بدأت عملها في تجارة العملة الصعبة صدفة، وقد بدأت العمل في أحد مكاتب الصرف، ثم فتحت مكتبا خاصا بها، ووظفت خبراء في المجال، حتى أصبحت رائدة في هذا العمل.
أثبتت “نيلما كوداما” نفسها أمام رواد الأعمال، حتى أصبحوا يعتمدون عليها، بحكم أن عملة الدولار في صعود مستمر، على عكس عملات البرازيل التي استُبدلت 5 مرات، وأصبحت مع الوقت عملة غير معتمدة، لأنها تسبب الخسائر لكل فئات المجتمع، لا للتجار فقط.
ومن هنا بدأ عملها يزدهر، وأصبح اسمها معروفا في السوق، لا سيما أنها المرأة الوحيدة التي اقتحمت هذا المجال، وكان يهيمن عليه الرجال، لا سيما ذوو العلاقات المتشعبة مع السلطة ورجال القانون والأمن والعصابات المنظمة.
وتلك العصابات هي العمود الفقري لنشاطهم المزدهر والمربح، فهم يجنون من خلالهم مالا كثيرا، من تبييض أموالهم وجعلها شرعية، وليس ذلك إلا عن طريق شراء العملات وتحويلها وربطها في مشاريع وحمايتها من المراقبة، ومعظم هؤلاء من رجال السياسة ذوي الطموح الكبير، الذين يخافون أن تنقلب عليهم الأمور، مثل ما حدث للكثيرين.
ملكة الدولار الفاسد في البرازيل.. أساليب مبتكرة
لم تكتفِ “نيلما كوداما” بصرف وبيع العملات، بل أصبح لها دور أكبر وأوسع، فقد أسست شركة باسم “الصرافة والسياحة”، حتى تمنح عملها بُعدا قانونيا، كما نقلت مكتب أعمالها لأكثر شوارع البرازيل تجارة وحركة للأموال، وأصبحت تبيع الدولار للتجار، ليشتروا سلعهم الصينية والأمريكية من الدول المجاورة كالباراغواي.
لكن التجار كانوا يتعرضون للسرقة خلال تنقلهم في الحافلات لتلك الدولة، ومن هنا وجب على “نيلما كوداما” إيجاد حل لهذه المعضلة، فأصبحت تهرّب الدولار عن طريق الجسر الرابط بين الدولتين الحدوديتين، من خلال استعمال الأطفال.
ومع الوقت ازدهرت التجارة أكثر، وبدأت الأموال تتدفق عليها من كل جهة، لهذا ابتكرت مع زملائها في المهنة طريقة جديدة، وهي كتابة صك أو ورقة بالمبلغ المطلوب للشخص الذي يريد اقتناء الدولار، بعدها يسافر إلى البلد المطلوب، وهناك يسلمه للشخص المراد، وبذلك يسحب أمواله بطريقة آمنة، وتستقطع هي مبلغا من المال عمولةً من البائع والمشتري كليهما. وبهذه الطريقة أصبحت “نيلما كوداما” فاحشة الثراء.
وسّعت “نيلما كوداما” علاقاتها الاجتماعية والمهنية، وأصبحت عشيقة لأحد أكبر وأمهر تجار العملة في البرازيل، وهو “ألبرتو يوسف”، وقد اعتُقل فيما بعد مع “نستور سيرفيرو” وآخرين في قضية “مغسل السيارات” المعروفة، التي أحدثت ضجة لا تزال آثارها عالقة إلى اليوم.
حذاء جديد لكل يوم تطلع فيه الشمس.. سيدة الموضة
مرت الشهور وأصبحت الأموال الفاسدة تتدفق من كل جهة، لتصبح “نيلما كوداما” ملكة الأموال الفاسدة، لهذا أصبحت تبتكر أشياء تنفق من خلالها تلك الأموال، وذلك ما جعلها تسافر إلى باريس، وتنزل في أفخم الفنادق، وتقصد دور الموضة.
حتى أن محلات “شانيل” الشهيرة صارت تغلق حين تدخلها “نيلما”، لأنها كانت تشتري أحدث ما صدر وصمم، من الفساتين والقمصان وحقائب اليد والأحذية الفاخرة.
وفي المقابلة التي أجرتها بالفيلم قالت إنها تلبس حذاء مختلفا كل يوم، بمعنى أن لديها حذاء لكل يوم من السنة، وهذا ما يعكس الثراء الفاحش الذي وصلته له، انطلاقا من الطرق الملتوية والفساد الكبير الذي انتهجته.
لكن هذه الإمبراطورية سرعان ما زالت بعد أن ذُكر اسمها في قضية “مغسل السيارات”، فأدى بها إلى السجن، وبعد مدة استطاع محاميها أن يخرجها بكفالة، وقد وُضع جهاز تعقب في قدمها، وأصبحت صورتها تحتل الجرائد يوميا، حتى أنها غطت على رجال السياسة، بعد أن أخذت تعقد جلسات تصوير مع جهاز التعقب.
وبعدما تبين أن المدعي العام كان يضع أجهزة تنصت على أقدام المساجين، حكم القضاء بأنها طريقة غير قانونية، وأصبحت قضايا أخرى باطلة، فأُطلق كثير من المساجين، منهم الرئيس الحالي للبرازيل “لولا دا سيلفا”، كما نُزع أيضا جهاز تعقب “نيلما”.
ابنة العائلة الثرية.. طبيبة أسنان تقتحم عالم المال
بعد أن انتشرت صور “نيلما كوداما” على الجرائد، عرفها زملاؤها ومعارفها، لا سيما من درسوا معها في الجامعة، فتقرب منهم مخرج الفيلم، وجعلهم ضيوفا على العمل.
وقد قالوا إنها كانت طالبة مجتهدة، وقد درست طب الأسنان، وكانت تنحدر من عائلة ثرية، حتى أن عائلتها كانت تملك طائرة خاصة، وكانت عندما لا تجد ما تفعله تأخذ زملاء الدراسة في جولة بالطائرة، وكانت هي من تقودها.
لقد كانت فتاة طائشة، لكنها في نفس الوقت كانت طموحة، فلم ترضَ بمهنتها، وقررت سلوك درب المال والأعمال وحتى الفساد، وبذلك استطاعت طبيبة الأسنان أن تقوّم سوق العملات الصعبة، لا سيما الدولار الفاسد.
تجارة المخدرات الدولية.. عثرة تؤدي إلى السجن مرة أخرى
بعد أن أفرج عنها، وجدت “نيلما كوداما” نفسها مُعدِمة لا مال لها، فبدأت تبحث عن طرق جديدة، لكن أُوقع بها وهي على درجات الطائرة، محاوِلة تهريب 200 ألف دولار.
بعدها بدأت بتجارة المخدرات الدولية، لكنها اعتُقلت وهي في أحد فنادق البرتغال، ووجهت لها تهمة الاتجار الدولي بالهيروين، وهذا بعد حجز الشحنة، وقد ذُكر اسمها من طرف صديقها السابق، وهو محامٍ، لكنها نفت كل تلك التهم.
وبعد فترة حُولت إلى البرازيل لاستكمال التحقيقات، وقبلها مكثت في سجون الباراغواي 3 أشهر، ثم استقر بها المقام في البرازيل، ولا تزال قضيتها عالقة إلى اليوم، فما تزال محاكمتها جارية، في انتظار ما سيسفر عنه حكم القضاء مستقبلا.
وبين هذا وذلك ما تزال “نيلما كوداما” تعيش حياتها المختلفة، في شقتها الفارهة، بعد أن صنعت مجدها من المال والفاسد والدولار المهرب خارج أنظمة الصرف.
صناعة الفيلم.. بناء سينمائي محكم وشخصيات مميزة
على مدار ساعة و34 دقيقة، استطاع المخرج البرازيلي الشاب “جواو واينر” أن يقدم فيلما وثائقيا مثقلا بالمعلومات والإحاطة الشاملة، ومزودا بالمنطلقات الأساسية التي تبني وتهندس الفيلم الوثائقي، بعد صحبة طويلة لازم فيها الشخصية الأساسية لفيلمه “نيلما كوداما”، في بيتها وخلال سفرها وحتى داخل السجن.
وقد أجرى معها مقابلات كثيرة، وأقنعها بأن تجيب أسئلة محورية صنعت الفارق في الفيلم، وفي ملف الفساد التي تورطت فيه مع عدد من الأسماء، معظمهم ما زالوا أحياء.
بل إنه استطاع أن يجري مقابلات مباشرة مع متهمين آخرين عملوا معها، ناهيك عن محبيها وأصدقائها وأقاربها، مما أعطى للفيلم بعدا شاملا، وإحاطة متعددة بالشخصية المستهدفة، وهو أمر ليس بالهين، لأن المخرج استطاع إقناع كل تلك الأسماء بالظهور، لتقديم شهاداتهم حول موضوع شائك ومعقد وخطير في نفس الوقت.
ومن الجانب الأسلوبي، اعتمد المخرج على خاصية البناء التقليدي، من خلال رسم أبعاد البداية والعرض والنهاية، مع إحاطة كل عنصر بمنطلقات التشويق والإثارة، لا سيما أن الفيلم يصنف فيلم جريمة، وذلك ما سهل التعاطي مع هذا الموضوع، وتقديمه بطريقة سلسلة وواضحة ومفهومة، جعلت المتلقي يعرف أبعاد ومنطلقات القضية في كامل صورها، وهو جهد محترم من المخرج، لأن الغاية دائما هي تقديم منتج فني واضح ومفهوم، في قالب فني وجمالي.
من هنا كان فيلم “نيلما كوداما: ملكة الأموال الفاسدة” من الأعمال السينمائية المهمة التي استطاع مخرجها موازنة الجهد الفني وتقديم المعلومة، مع الاتكال على جهد وثائقي سمعي بصري ضئيل، لكنه صنع به الفارق، وأحاط بموضوعه من كل جهة.