“خواكين فينيكس”.. مسيرة المهرج الذي أبكى العالم بضحكته ونال الأوسكار
أراد المذيع الشهير أن يتخذ ضيفه نكتة، وأن يجعل إذلاله مادة للضحك في حلقته تلك الليلة، لكن هذا المهرج -الذي تعلم الحقد من قسوة العالم عليه- ارتكب أشد الأفعال جنونا، فأطلق عليه الرصاص في الأستوديو، وكانت الكاميرا تنقل ما يحدث على الهواء مباشرة، ثم أطلق ضحكاته الجنونية، وبكى الجمهور.
لعله المشهد الأشهر في فيلم “الجوكر” (Joker) الذي دفع بالممثل “خواكين فينيكس” إلى القمة، ومنحه جائزة الأوسكار عام 2020، ومع أن المخرج “تود فيليبس” كان له الفضل الكبير في ذلك، فإن أداء “فينيكس” جاء ليثبت البديهة السائدة حول رحم المعاناة الذي يجعل الإبداع فريدا من نوعه.
فقد ولدت قدرة “فينيكس” على التجسيد من ذلك الرحم، الذي بدأ بميراث غامض حول انسلاخ الأبوين والأطفال من طائفة دينية، بعد اكتشافهم لحقيقتها، ثم الموت المأساوي للأخ الأكبر الذي كان ملء السمع والبصر.
“اركض إلى الإنقاذ بسلام، وسيتبعك الحب”
“ريفر فينيكس”.. صدمة توقف قارب الفن إلى حين
بصوت مرتعد، يتحدث مراهق لم يتجاوز عمره 19 ربيعا، من هاتف عمومي أمام أحد النوادي الليلية في لوس أنجلوس، إلى موظف الطوارئ في النجدة، طالبا سيارة إسعاف، لأن أخاه أصيب بنوبة غريبة، ويكاد يتوقف عن التنفس.. كان “خواكين فينيكس” الصغير يستغيث طالبا إسعاف لأخيه الممثل الموسيقي “ريفر فينيكس”.
شعر موظف الطوارئ أنها ليست مكالمة عادية لإنسان يطلب إسعافا لإنسان آخر، بل إنسان يعيش كابوسا حقيقيا ويستغيث للخلاص منه، وأنه إذا كان هناك خطر على حياة إنسان ما، فهو بلا شك خطر على حياة ذلك المتصل.
مات “ريفر” بعد وقت قصير، وكان يومئذ لم يتجاوز 23 عاما، ومع ذلك فقد رُشح لجوائز الأوسكار و”الغولدن غلوب” وغيرها.
ومع أن أخاه الأصغر “خواكين” المراهق كان معروفا نسبيا في عالم الفن حينها، فإن الرحيل المأساوي لأخيه الممثل الشهير أوقف مسيرته كلها، فترك كل شيء، واعتزل التمثيل مؤقتا خلال هذه الحقبة التي قضاها في الحزن والتأمل، ولعل ذلك ما أضفى على أدائه -فيما بعد- عمقا عاطفيا خالصا.
تقلبات الطفولة.. أمواج ترسم معالم الموهبة القادمة
لم تكن تلك مأساة وفاة “ريفر” التي ملأت حياة “خواكين” حزنا هي الوحيدة التي مر بها، فقد وُلد في عائلة من الفنانين والمبشرين في جماعة “أبناء الله” الدينية، وسافر والداه “أرلين” و”جون بوتوم” أسفارا كثيرة مع أطفالهما في أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة.
لكنهم في النهاية تركوا تلك الطائفة، حين خاب أملهم فيها وفي ممارساتها، وغيروا لقبهم إلى “فينيكس”، محاوِلين تغيير معالم الماضي والبدء من جديد، وقرر الأطفال الخمسة بعدها المبادرة بالعمل والخروج إلى الحياة، فخاضوا تجربة تقديم العروض في شوارع لوس أنجلوس لدعم الأسرة، واستعرضوا مواهبهم في الغناء والرقص.
وكان من الطبيعي أن تطبع تلك التحولات والمنعطفات الحادة في حياة “خواكين” آثارها على شخصيته أولا، ثم على أدائه الذي بدا كأنه طبخة سوّيت على نار هادئة.
حصد “خواكين” ذو الشخصية الغامضة 11 جائزة عن أدائه في 15 فيلما، ومن بينها جائزة أوسكار أفضل ممثل في عام 2020، وذلك عن أدائه المذهل في الجزء الأول من فيلم “الجوكر”، وهو يستعد لتصوير الجزء الثاني منه حاليا.
“خواكين فينيكس”.. بداية مبشرة في عالم التلفزيون والسينما
كانت انطلاقة “خواكين” الأولى المهمة في سن مبكرة، عندما ظهر في بعض المسلسلات التلفزيونية الشهيرة، منها مسلسل “سبع عرائس لسبعة إخوة” (Seven Brides for Seven Brothers) الذي عُرض عامي 1982-1983، ومسلسل “هيل ستريت بلوز” (Hill Street Blues) الذي عُرض ما بين 1981-1987.
وقد تميزت مسيرته المهنية المبكرة بتعاونه مع أخيه الأكبر “ريفر”، وكان “خواكين” يُعرف في البداية باسم “ليف فينيكس” في عدد من المسلسلات التلفزيونية والأفلام خلال الثمانينيات، وهو اسم اعتمده مؤقتا ليتناسب مع أسماء إخوته التي تحمل طابع الطبيعة، لكنه غيّره بعد عودته للتمثيل.
وفي فيلم “الأبوة” (Parenthood) عام 1989، أظهر أداء يشي بممثل واعد، وأبرز إمكاناته الفنية القوية، مع أنه لم يكن يومئذ قد تجاوز 15 عاما.
“المصارع”.. إشعاع لامع في سماء النجومية
عاد “خواكين” إلى التمثيل في منتصف التسعينيات، وتخلّى عن اسم “ليف” واستعاد اسمه، وقد حظي أداؤه بإعجاب النقاد في عدة أفلام، منها “أن تموت في سبيله” (To Die For) الذي أخرجه “غاس فان سانت” (1995)، و”تحقيق الأبوت” (Inventing the Abbotts) الذي أخرجه “بات أوكونر” (1997).
ومع ذلك، فإن أداءه لدور “كومودوس” في ملحمة “المصارع” (The Gladiator) للمخرج البريطاني “ريدلي سكوت” (2000)، هو ما دفعه إلى النجومية العالمية، وقد أكسبه تجسيده لدور الإمبراطور الروماني المتعطش للسلطة ترشيحا لجائزة الأوسكار، عن فئة أفضل ممثل مساعد، وأثبت أنه موهبة هائلة في هوليود.
“السير على الخط”.. دور موسيقي أسطوري يخطف استحسان النقاد
شهد العقد الأول من الألفية تقديم “فينيكس” سلسلة من العروض القوية، ففي فيلم “علامات” (Signs) الذي أخرجه “أم. نايت شيامالان” (2002)، لعب دور لاعب بيسبول سابق في دوري البيسبول الثانوي، فأضفى على الدور ضعفا وقوة في آن واحد.
ثم استمر تعاونه مع “شيامالان” في فيلم “القرية” (The Village) الذي أخرجه عام 2004، فجسّد شخصية “لوسيوس هانت”، وهي شخصية تتميز بالعزيمة والشجاعة.
وكان أكثر أدواره تحولا في فيلم “السير على الخط” (Walk the Line) الذي أخرجه “جيمس مانغولد” (2005)، فقد جسّد دور الموسيقي الأسطوري “جوني كاش”. وكان التزامه بالدور واضحا، فتعلم عزف الغيتار والغناء، وأدى جميع الأغاني في الفيلم، وقد أكسبه ذلك استحسان النقاد، ونال جائزة “غولدن غلوب” عن فئة أفضل ممثل في فيلم موسيقي أو كوميدي، ثم رُشح لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل.
اعتزال التمثيل والتفرغ للموسيقى.. مشروع فيلم ساخر
نجح “فينيكس” نجاحا مبهرا في عالم السينما، لكنه كثيرا ما أعرب عن عدم ارتياحه لزخارف الشهرة، وقد تجلى ذلك بشكل صارخ في إعلانه اعتزال التمثيل عام 2008، لمتابعة مهنة موسيقى “الهيب هوب”.
لكنه كشف عن حقيقة ذلك فيما بعد في جزء من مشروع فيلم ساخر بعنوان “ما زلت هنا” (I’m Still Here)، من إخراج صهره “كيسي أفليك” (2010).
وقد طمس الفيلم الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال، وأظهر التزام “فينيكس” باستكشاف حدود مهنته ونظرة الجمهور إليه.
“السيد”.. فاتحة أفلام قوية تنعش المسيرة السينمائية
انتعشت مسيرة “فينيكس” المهنية بسلسلة من العروض التي نالت استحسان النقاد بعد عودته. ففي فيلم “السيد” (The Master) الذي أخرجه “بول توماس أندرسون” (2012)، قدم “فينيكس” دورا مؤثرا لـ”فريدي كويل”، وهو من قدامى المحاربين في الحرب العالمية الثانية، ويعاني من صدمة نفسية وإدمان الكحول.
وقد أكسبه هذا الدور ترشيحا آخر لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل. واستمر تعاونه مع المخرج “أندرسون” في فيلم “نائب أصلي” (Inherent Vice) الذي أخرجه عام 2014، وقد لعب دور المحقق الخاص الأشعث المحبوب “دوك سبورتيلو”.
وفي فيلم “هي” (Her) للمخرج “سبايك جونز” (2013)، قدم “فينيكس” أداء رقيقا ودقيقا في دور “ثيودور تومبلي”، وهو كاتب وحيد يقع في حب نظام تشغيل ذكاء صناعي. وقد استكشف الفيلم موضوعات الحب والعزلة والتكنولوجيا، وكان أداء “فينيكس” محوريا في صداه العاطفي.
“الجوكر”.. عصارة التجربة التي حصدت جائزة الأوسكار
كان دور “فينيكس” الأشهر حتى الآن في فيلم “الجوكر”، وقد جسّد شخصية “آرثر فليك”، وهو ممثل كوميدي فاشل ينحدر إلى الجنون، ويصبح شرير سلسلة “باتمان” (Batman) الشهيرة، وجاء أداؤه مروعا ومُحدثا للتحول في آن واحد.
فقد “فينيكس” قدرا كبيرا من وزنه من أجل هذا الدور، وانغمس في العذاب الجسدي والنفسي للشخصية، وقد حظي أداؤه بإشادة واسعة النطاق، وأكسبه جائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل، ونال أيضا جائزة “غولدن غلوب” وجائزة “بافتا”.
ولم يكن دور “الجوكر” مجرد دور محدد لمسيرة “فينيكس” المهنية فحسب، بل كان أيضا ظاهرة ثقافية، فأثار نقاشات حول الصحة النفسية والإهمال المجتمعي.
حماية الحيوان.. أنشطة إنسانية خارج الشاشة الكبيرة
بعيدا عن أعماله السينمائية، يعرف “فينيكس” بنشاطه في مجال حقوق الحيوان والقضايا البيئية. وبما أنه نباتي منذ وقت طويل، فقد استخدم منبره للدفاع عن الرفق بالحيوان، فعمل مع منظمات حقوقية مثل “بيتا” (PETA) المدافعة عن حقوق الحيوانات.
كما شارك أيضا بصوته في الفيلم الوثائقي “أبناء الأرض” (Earthlings) الذي أنتج عام 2005، ويكشف عن معاناة الحيوانات في مزارع المصانع والبحث العلمي وغيرها من الصناعات.
ويُعرف “فينيكس” في حياته الشخصية بطبيعته المنعزلة في كثير من الأحيان، وهو متزوج من الممثلة “روني مارا” منذ عام 2016، وقد أطلق على طفله الأول اسم “ريفر”، تكريما لأخيه الراحل.