“عزيزة عثمانة”.. الأميرة التي حاربت أحزانها بإسعاد الفقراء عدة قرون
“عزيزة عثمانة أميرة الفقراء” فيلم وثائقي قصير من إخراج التونسي وليد الطايع، وإنتاج الجزيرة الوثائقية (2018)، يحاول أن يحيط بشيء من سيرة المرأة التي وهبت حياتها للمساكين من سكان الإيالة التونسية، ولم يهبها المؤرخون كبير اهتمام، لذلك لا تكاد معرفة التونسيّ بها تتجاوز اسمها المكتوب على لافتة مستشفى جامعي في قلب حاضرة تونس.
هي أميرة سليلة الدايات (لقب يحمله حكام الجزائر في الحكم العثماني)، وهم رجال العسكر الترك الذين حكموا تونس بعد تحريرها من الإسبان، ورسخوا نفوذ العثمانيين عليها في القرن السادس عشر، قبل أن ينقلب عليهم البايات (ولاة تونس الممثلون للدولة العثمانية).
تذكر المراجع التاريخية القليلة التي تعرض سيرتها، أنها عاشت في النصف الأخير من القرن السابع عشر والربع الأول من القرن الثامن عشر (1650-1725)، فعاصرت صراع الحكم بين البايات، وانتقاله من المراديين إلى الحسينيين سنة 1705.
وتأتي هذه الآثار على خبر اشتهارها بالعطاء وإيثار الفقراء، فأثر بعض عطاياها لا يزال قائما إلى اليوم. ولا شكّ أنّ حياتها تمثّل موضوعا مهمّا لفيلم وثائقي يسلط أضواء على جوانب معتمة من سيرتها ومن شخصيتها، ويجعلها واجهة تدرك من خلفيتها السياق الحضاري والتاريخي الذي عاشت فيه. فكما يبحث المخرجون عن مواضيع لأفلامهم، فإن بعض الأفلام تبحث مبدعين يمنحونها فرصة الظهور للملأ.
التأريخ للنساء.. موضوع حساس في الثقافة العربية
تكاد المصادر التاريخية تتجاهل سيرة عزيزة عثمانة، فلا تعرضها إلا بإشارات وجيزة دُوّنت في مراحل متأخرة، نذكر منها مؤلف حسن حسنى عبد الوهاب “شهيرات تونسيات”، ومقالة المنجي الشملي في الحوليات التونسية “نقد كتاب شهيرات تونسيات”، وأثر الصادق الزمرلي الذي عُرّب بعنوان “أعلام تونسيون”.. وقد يبدو الأمر مفهوما.
فمعلوم أنّ التأريخ بدقة للمرأة في الثقافة العربية يبقى موضوعا عصيّا، كاستعصاء القول فيها عند شعراء الرثاء. والأسباب واحدة، وهي الضن بأخبارها على الأجنبي، وقلة ظهورها في الفضاء العام أو فعلها فيه.
ولعلّ لهذا المعطى أثره في حرصي الشخصيّ على مشاهدة الفيلم، بعد أن بلغني صدى إنجازه، فقد كنت أعلم أنّ المخرج وليد الطايع اختار ركوب الموضوع الصعب، وأنّ هذا الاختيار يكشف عن جرأة تحسب له. ولكن هل تشفع الجرأة في اختيار المواضيع وحدها لأصحابها؟
لا شكّ أنّ الأمر يقتضي جرأة فنيّة في الطرح والتناول أيضا.
عزيزة عثمانة.. شهادات من أيام التاريخ الوسيط
بدا حرص الفيلم على تقديم أكبر قدر من المعلومات حول موضوعه جليّا، فقد جعل بناءه وفق أساليب مختارة بعناية، غايتها رسم صورة لعزيزة عثمانة وعرض سيرتها، ولعلّ ذلك يظهر بجلاء في اختياره لشهادات المؤرخين منطلقا.
فقد عاد الفيلم إلى أساتذة مختصين في التاريخ الوسيط أو تاريخ العهد العثماني، واستدعى منهم ليلى تميم البليكي ومحمد عزيزي ونعيمة الطبابي وقمر بن دانة.
فتطرق لنشأتها في كنف العائلة، وانتسابها إلى نسل عثمان داي الحاكم التركي الأول لتونس، وعرض شيئا من مآثرها من هبات وأوقاف، وأشار إلى معارفها من علوم دين وأدب، وإلى ما ميّزها من حس جمالي وذوق مرهف، ثم عاد إلى عطاياها التي تجاوزت حاضرة تونس حتى بلغت ربوع صفاقس والمهدية، ثم إلى حدث موتها وما خلّفه من ألم في نفوس الفقراء والمعدمين.
وعلى هذا النحو بدا المخرج أميل إلى الوظيفة المعتادة في الفيلم الوثائقي، وهي أن يكون وسيطا يوثّق معطيات خاصة بالأفراد أو المجموعات أو القضايا، وأرشيفا يحفظها بعيدا عن متناول اليد وخارج الاستعمال اليومي.
السياسة النبيلة.. أغصان العطاء الممتد في الزمان والمكان
وينتهي الفيلم بدفع المستجوبين إلى التعبير عن مواقف من هذه المرأة، فيتحوّل المؤرّخ من التسجيل إلى إبداء المواقف نحو كونها امرأة طلائعية، مارست السياسة –بعطاياها تلك- في معناها النبيل، فصنعت السعادة لدى المحرومين، وفكرت في مستقبل أجيال القرون اللاحقة، ووفرت لهم سبل الحياة الكريمة.
والأمر هنا يتعلق باشترائها البحر في جزيرة قرقنة، ثم اتخاذه ملكية خاصة للصيادين، لا تزال قائمة حتى اليوم، تضمن للصيادين قوتهم.
فكان “في موتها حياة، خلافا لآخرين غيرها جعلوا في حياتهم موتا”، وكان المؤرّخ هنا يعبّر -من حيث لا يعلم- عن وجهة نظر المخرج، ولكن بشكل موارب، وهذا مما يجعل الفيلم أكثر إتقانا. أوليس الوثائقي وجهة نظر جمالية وفكرية عن الحقيقة، أكثر مما هو تقديم للحقيقة نفسها؟
تعاضد الشهادات التاريخية.. محاولة لتغطية الفقر البصري
كيف للفيلم أن يوثّق سينمائيّا حياة عزيزة عثمانة، والحال أنّ الوثائق من مخطوطات وصور وخرائط وسجلات وفيديوهات تكاد تنعدم؟ وما الوثائقي إن لم يكن خطابا بصريّا يوظّف عبقرية الصورة بالأساس؟
من هنا وجدنا المخرج يحاول النّفاذ إلى الموضوع، ولكنّ جدرانه منيعة وأبوابه موصدة بشكل محكم، فلم يجد منفذا غير شهادات المؤرخين، وحتى لا يتسم الإيقاع بالبطء ولا يصاب المتفرّج بالضجر، فقد كان الفيلم ينوّع بينها، ويجعل الموضوع الواحد يقدّم من قبل ثلة منهم، فيشير إليه الأوّل، ثم يتداول الآخرون تفاصيله في ضرب من التعاضد غير المعلن.
ففي 3 دقائق يعرض الفيلم مسيرة عزيزة عثمانة بشكل برقي، فيذكر طارق حسين نشأتها في دار عثمان داي وتعلمها هناك وزواجها، ثم تذكر ليلى تميم البليكي هوية هذا الزوج، ويذكر محمد العزيزي صلتها بحكم عثمان داي، ثم استقرار أمر الحكم للمراديين في عهد حمودة باشا.
ولم يكن الأمر إلا تمهيدا لخبر قتل ابنه مراد الثالث ابنَها، وتأتي نعيمة الطبابي على أثر هذا الفقد في انصراف عزيزة عثمانة إلى حياة العطاء، بعد ترملها وثكل أبنائها. وتترابط الشهادات عضويا مع تعددها، وتتكامل ضمن رؤية واحدة، ومردّ ذلك أنها تعود جميعا إلى ما تجود به المصادر التاريخية القليلة.
ومن هنا بات هذا التنوع في الشهادات ظاهريّا، لا يتجاوز السّطح، ولا يضفي على العمل ثراء، ولا يزيده عمقا.
أمّا الالتجاء إلى الموارد البصرية فقد كان فقيرا، فيكاد يقتصر على مشاهد تمثيلية قصيرة صامتة، وصور قليلة لوثائق في لقطات عامة، لا تكشف شيئا من محتواها، ومشاهد مختلفة من بعض الدور التي مرت بها عزيزة عثمانة، أو من حاضرة تونس التي عاشت فيها، وهي مشاهد غير وظيفية لا ترتقي إلى مستوى الحجة على ما في الشهادات من زعم، وهذا ما يجعل خطاب البصري عالة على الخطاب اللغوي لا قوام له ولا دلالة بدونه.
ملامسة الكمال.. أسلوب تاريخي تجاوزته السينما
انخرط الفيلم في سياق مدحي يعرض مآثر عزيزة عثمانة، ويجعلها نموذجا للخير الصّرف والجمال الكامل، من علم بالأدب وحس مرهف ينبسط إلى الموسيقى وتديّن وإيثار وحسن، آيته تلك الفتاة البالغة الجمال التي أدت دورها وهي صغيرة، تتلقى تعليمها في الكتاتيب.
وكثيرا ما تعسّف ذلك على السياق، فردّ فضل المداواة بالموسيقى إليها، وجعل في قرار أحمد باشا الأول بإلغاء الرق في تونس سنة 1846 شيئا من تأثيرها، بحكم أنها أعتقت جميع عبيدها وجواريها إثر عودتها من الحج، قبل ذلك بقرنين تقريبا.
ويلمس المتفرّج اليقظ نزعة جلية للارتقاء بها من بُعدها البشري الذي يجعلها تتأثر بالسياق الخارجي، وتتفاعل معه سلبا وإيجابا، وضعفا وقوة، وكرها وحبّا، إلى ملاك يتعالى على مشاغل الدنيا وحبائلها.
والحال أنّ السينما اليوم بعد فتوحات العلوم الإنسانية المختلفة، قاطعت التصور المثالي للإنسان، وجعلته متأثرا بمعيشه متفاعلا معه، فلا يكون خيرا صرفا ولا شرّا محضا، وإنما هو تفاعلات معقدة لمعطيات عدة ونزعات كثيرا ما تتداخل، فلا نستطيع أن نحدّد الخير من الشّر فيها، أو الذاتي من الموضوعيّ منها.
تقلبات شخصية عزيزة عثمانة.. أسئلة مطروحة تجاهلها الفيلم
قد تُطرح على المتفرّج أسئلة لا نقدّر أنّ الفيلم وضعها في الحسبان أو انتبه إليها، مع أن بعض المؤرخين أشار إليها إشارات سريعة، ومنها التساؤل عن تنازل عزيزة عثمانة عن أملاكها، وما صلة موت أبنائها وافتقادها لورثة من رحمها بذلك؟ ومتى انصرفت إلى العطاء وأوقفت بعض أملاكها على مشاريعها الخيرية؟ هل كان ذلك في حياة زوجها وأبنائها، أم بعد 1699، أي بعد أن قتل مراد الثالث آخر أبنائها وقطع نسلها بموته؟
لا شك أن معرفة هذه المعطيات تزيد فهمنا لشخصيتها، فنكون مع امرأة زاهدة بطبعها في الحالة الأولى، ونكون أقرب إلى امرأة تعيش حدادا عميقا في الحالة الثانية، فتعرض عن الدنيا وتولّي وجهها شطر الآخرة، وتبحث عن عزاء لفقدها في سعادة الفقراء. وربّما مثّل انصرافها إليهم انصرافا عن تهافت حياة الطبقة الأرستقراطية المليئة بالأحقاد والاضطراب والدماء، وقد كان ابنها ضحية لدمويتها هذه.
وهناك باب آخر لم يطرق، وسؤال آخر وجيه لم يطرح، ومداره على الشأن السياسي، فسيرة عزيزة عثمانة عطاء وإيثار وقيم ترسّخ في أذهان المتفرّجين، وشخصيتها نموذج يحتذي بلا شك، ولكن خلف هذه الشجرة العملاقة غابة لا يمكن أن تحجب.
تونسيات السياسة.. شجرة بهية حول الغابات الموحشة
وهبت عزيزة عثمانة ضيعات زيتون كثيرة في المهدية وصفاقس ومرناق، واشترت بحر قرقنة ليضحي ملكية خاصة للصيادين هناك، وبنت مستشفى ووقفت أملاكا كثيرة حتى يُنفق ريعها على أعمالها الخيرية، وأعتقت العبيد ثم تنازلت فيما بعد عن جميع مالها، وكل هذا يوضح أنها كانت لديها أموال طائلة تحت تصرّفها، ولا شك أنّ أملاكها شيء قليل من أملاك العائلة.
ومع أن هذه المرأة تحيط بها النيات الطيبة، ومع أن شجرتها جميلة بهية، فإن وراءها غابة موحشة وأدغالا وأشواكا، وهي الوجه البشع لحكم الأتراك للشعب التونسي، واستئثاره بخيرات البلاد، لما يفرض عليها من الضرائب والمكوس.
وليست ثورات القبائل المتعاقبة على نظام الجباية إلا دليلا على ذلك، ومن هنا جاء لفظ التتريك في العامية التونسية، فتُرّك الرجلُ بمعنى أفلسه الأتراك، وجعلوه على هاوية العُدم والفقر، وتُرّكت المدينة بمعنى خُربت.
وأما زهد عزيزة عثمانة وانصرافها إلى الأعمال الخيرية، فهو شجرة أخرى باسقة، تحقّق وجها مضادا لصورة المرأة في الإيالة التونسية.
فليس يخفى على العارفين بتاريخ الحكم العثماني بتونس دور المرأة الكبير في الصراعات السياسية، وإسهامها من خلف الحجُب في نسج المكائد والدسائس، ولتأجيجها الاضطراب السياسي والصراع بين الأجنحة والعائلات، بحثا عن الاستئثار بالحكم، ومع أنه لم يكن دورا خفيا في أي مرحلة من التاريخ، فإنه كان أبرز في الخلافة العثمانية كما في الإيالة التونسية.
“عزيزة عثمانة”.. فرصة غير مستغلة لنبش التاريخ
لا شك أنّ الوثائقي أنماط واختيارات جمالية ومضمونية ووجهات نظر، وتقديرنا أنّ الفيلم لم يوفّق في اختياره النمط التوثيقي العتيق الذي يقدّم أقصى قدر من المعلومات بأدنى قدر من المعالجة الجمالية.
فهو لم يقدم وثائق جديدة، ولم يظهر رؤية مختلفة لمقاربة الأحداث التاريخية، بقدر ما التجأ إلى مشافهة قوامُها خبير يقرأ كتبا معروفة، ثم يلخّص محتواها للمتفرّج، فكان يطرق أبوابا موصدة ليست مفاتيحها الموارد البصرية أو الوثائق التي بحوزته.
فربما كان أولى به أن يحفر في الماضي، لا سيما وقد وجد وثائق تضبط الأملاك التي تبرعت بها، فلا شك أن في العقود تواريخَ تكشف عن التدرّج في سلوك المرأة وفي نسق عطاياها.
وربما كان أولى به أن يقارن نسق هذه العطايا مع خط تحولات تاريخها الشخصي من ترمّل وثكل وحج وغيره، لا سيما أنه وجد أغلب العقود والوثائق، وبدل أن يجعل منها منطلق بحث، فقد اكتفى بعرض صورة الصندوق في لقطة عامة سريعة.
لن ننوب عن المخرج في تحديد اختياراته، ولكننا كنّا نتطلع لنرى عزيزة عثمانة تُنزّل ضمن تجربة حياة متفاعلة مع المعيش بكامل نبضها الإنساني، لا أن تقدّم ضمن رؤية بدائية للعالم، تقسم البشر إلى ملائكة وشياطين.