أنتوني هوبكنز.. “الغبي” الذي توج بجائزتي أوسكار

تسير الضابطة الجديدة كلاريس (الممثلة جودي فوستر) في الممر نحو زنزانة الدكتور “هانيبال ليكتر” (أنتوني هوبكنز)، تتابعها الكاميرا من الخلف، وهي بحالة توتر متزايد، يتردد صدى صوت خطواتها عبر الممر، فيتصاعد الشعور بالعزلة والقلق.

أصوات النزلاء الآخرين في السجن صاخبة ومخيفة، لكنّه مجرد ضجيج في الخلفية مقارنة بالخوف والرهبة من اقتراب الضابطة الصغيرة، التي تتولى أولى قضاياها، لتصادف القاتل الوحشي وآكل لحوم البشر، والبروفيسور في الطب النفسي “هانيبال ليكتر”.

تصل “كلاريس” أخيرا إلى زنزانة “ليكتر”، تنتقل الكاميرا إلى لقطة مقرّبة للوحش اللطيف وهو يقف ساكنا تماما في منتصف الكادر، منتظرا إياها بالفعل، يبدو وجهه هادئا، وساكنا تقريبا، ويداه مستقرة بأدب على جانبيه، إنه تناقض صارخ بين سلوكه الهادئ الذي يظهره والسمعة التي تسبقه، هذه هي لحظة “هوبكنز” الممثل، التي استخدمها لنقل ذكاء “ليكتر” الشديد وطبيعته المفترسة معا دون كلمة واحدة.

لخص المشهد الذي لم يتجاوز أكثر من دقيقتين القدرات الإبداعية المذهلة لممثل حظي بالتقدير والجوائز، والاحترام من الجمهور والنقّاد، وصولا إلى الملكة السابقة لبريطانيا، والتي منحته لقب “سير” تقديرا لتفوقه في كل الفنون التي خاض غمارها.

شخص واحد فقط، لا يبدو أنه يحمل نفس التقدير لإبداع هوبكنز ولا يحمل نفس القدر من الانبهار بما يقدمه عبقري الأداء السينمائي والتلفزيوني والمسرحي في العالم، إنه هو نفسه “أنتوني هوبكنز”، الذي لا يري نفسه أكثر من “ممثل عامل”!

عمر مليء بالتناقضات

التناقض الذي نجح هوبكنز في إظهاره في مشهده الشهير من فيلم “صمت الحملان” 1991 (The Silence of the Lambs) هو جزء من عمر كامل مليء بالتناقضات، التي يعيشها ذلك الفتى الذي تحول إلى واحد من أشهر و أكثر الفنانين احتراما وتقديرا في العالم، ذلك بأن “أنتوني هوبكنز” المنضبط في عمله المهني كما لو أنه عقرب الثواني في ساعة بيغ بين، هو نفسه الشخص الذي سقط في براثن وحش الإدمان، وهو نفسه الشخص المتواضع إلى حد الإنكار لمواهبه المذهلة في التمثيل والإخراج والرسم والتأليف الموسيقي، وهو الشخص الهادئ كما يبدو للآخرين، بينما يثور في وجدانه بركان من المعاني التي تتجلى في أشكال مختلفة من الإبداع، ولعل طفولة الرجل الذي تجاوز الخامسة والثمانين عاما، تفسر جزءا من تلك التناقضات التي صنعت ممثلا نادرا.

مشهد يلخص الحالة النفسية للبطلة في لقائها الأول مع “أنتوني هوبكنز”

كانت الأزمة الكبرى للطفل “توني” أو “فيليب أنتوني هوبكنز” هي تلك العزلة التي فرضتها عليه نشأته، فهو الطفل الوحيد لوالده الذي كان يعمل خبازا، ويعيش في منزل صغير بالقرب من مصانع الصلب في “بورت تالبوت” بلندن، وكانت قناعته التامة بأنه “غبي” تلخص ذلك الضيق والملل الذي يشعر به عند متابعة مواده الدراسية، والتي كان يفضل عليها الرسم والتلوين.

يقول “هوبكنز” في حوار صحفي مع “الديلي تيليغراف”: كان حلمي أن أكون شخصا غير الذي كنت عليه، لم أكن سعيدا جدا في المدرسة، فقد كنت بطيء الفهم وغبيا بعض الشيء، ربما كنت أعاني من عسر القراءة، ولكنني كنت أصنف على أنني غبي، كنت حالما وكنت أرسم وأعزف على البيانو، كنت أرغب في الخروج ليس من “بورت تالبوت” ولكن من المشهد الخاص بعقلي”.

وبقدر ما كان لتلك القناعة الغريبة بغبائه من أثر على سنواته الأولى في عالم التمثيل، وخاصة فيما يتعلق بضعف الثقة في النفس، فإنها دفعت به حين أصبح الأكثر تميزا في عالم الفن نحو مساحة من التواضع، حقق بها “أنتوني هوبكنز” صورة متكاملة لما ينبغي أن يكون عليه الفنان، ولعل ذلك التناقض الأول في حياته بين عبقرية فنية وقناعة شخصية بالغباء هو ما أنتج أيضا ممثلا منضبطا للغاية، يشتهر بنهجه الدقيق في التعامل مع حرفته، في مقابل رجل يصارع الشيطان الداخلي، بدءا من إدمان الكحول إلى الوحدة في حياة مكرسة لفنه.

الهروب من العزلة إلى التمثيل

هل كان “أنتوني” المراهق يحاول أن يهرب من وحدته وعزلته حين التحق بالأكاديمية الملكية للفنون المسرحية؟ هل كان يدعو الآخرين لاكتشاف ما لديه من مواهب تنفي عنه صفات الغباء والحماقة؟ هذا ما حدث بالفعل، إذ سرعان ما لفتت موهبته نظر أسطورة التمثيل البريطاني “لورانس أوليفييه”، الذي رأى فيه قدرات واعدة، رفع هذا الاعتراف المبكر سقف التوقعات إلى عنان السماء، وسمح تفاني “هوبكنز” في عمله بتلبية تلك التوقعات، بل وتجاوزها في كثير من الأحيان.

ومع ذلك خلف الكواليس، لم يكن “هوبكنز” دائما منضبطا كما قد توحي شخصيته على الشاشة، فقد كانت معاناته مع إدمان الكحول جزءا مؤثرا في حياته لسنوات عديدة، وهي معركة كادت أن تكلفه حياته المهنية، إنه صراع يضيف عمقا إلى أدائه، خاصة في الأدوار التي تستكشف الجوانب المظلمة من الطبيعة البشرية.

فيلم “صمت الحملان”

إن قدرة “هوبكنز” على نقل المشاعر المعقدة والمتناقضة في كثير من الأحيان بمجرد لمحة أو تغيير طفيف في نبرة الصوت، تشير إلى تجربة شخصية طوال حياته مع تلك المشاعر بالذات.

ربما وصل هذا الاضطراب الداخلي ذروته في تجسيده لشخصية الدكتور “هانيبال ليكتر” في فيلم “صمت الحملان”، حيث يجلب “هوبكنز” هدوءا رهيبا للشخصية، ويستنكر عاصفة العنف والجنون الكامنة تحته، لقد تطلب منه هذا الدور أن يصل إلى أحلك أجزاء النفس البشرية، وهو أمر استطاع القيام به بسهولة مقلقة.

كان التدريب الذي تلقاه “هوبكنز” في الأكاديمية الملكية للفنون المسرحية (RADA) في لندن هو المحفز لرحلته في عالم التمثيل، فقد أمضى سنواته الأولى في المسرح، حيث صقل موهبته في الأدوار الكلاسيكية، تحت إشراف السير “لورانس أوليفييه” في المسرح الوطني.تعلم “هوبكنز” في المسرح كيف يجذب انتباه الجمهور، وهي مهارة ترجمها لاحقا في مسيرته السينمائية، والتي شهدت أداء بخيلا بالحركة والكلام، كريما بالإيماءات، ولعل أفضل مثال على ذلك هو تجسيده لدور الدكتور “هانيبال ليكتر”، والذي أخاف جيلا كاملا من عشاق السينما، وهو الدور الذي أكسبه جائزة الأوسكار وعزز مكانته في تاريخ السينما.

إن نهج “هوبكنز” في التمثيل متجذر بعمق من فهمه لعلم النفس، وهي معرفة يطبقها بدقة في كل دور من أدواره، وقد تحدث كثيرا عن افتتانه بالجوانب المظلمة للعقل البشري، وهو اهتمام قاده إلى تجسيد شخصيات معقدة، وغالبا ما تكون معيبة للغاية، وأحيانا شريرة للغاية، ومع ذلك، حتى في هذه الأدوار هناك إنسانية كامنة، وهي تذكير بأنه لا توجد شخصية طيبة أو شريرة بالكامل، بل هي مزيج من الاثنين.

جائزة الأوسكار الثانية

في فيلم “الباقي من اليوم” 1993 The Remains of the Day))، يلعب “هوبكنز” دور “ستيفنز”، وهو خادم يعميه ولاؤه الثابت لصاحب العمل عن الظلم المحيط به، ويقدم أداء يتسم بالذكاء الشديد والإيماءات المختزلة شكلا والثرية موضوعا، إذ ينقل “هوبكنز” موجة من الندم والفرص الضائعة من خلال أصغر التعبيرات، ويجبر “هوبكنز” المشاهد على التفاعل في مشهد حب غير معلن، حين يكشف “ستيفنز” أو “هوبكنز” بهدوء عن مشاعره المكبوتة تجاه الآنسة “كينتون” (تلعب دورها الممثلة إيما تومسون) وذلك من خلال لغة الجسد الخفية وبعض الكلمات المختارة بعناية.

فيلم “الباقي من اليوم”

لا تقتصر هذه القدرة على التحول بين أدواره الأكثر جدية، فقد أظهر براعة طوال مسيرته المهنية؛ إذ يتنقل بين الأنواع الفنية دون عناء، ففي فيلم “قناع زورو” 1998 (The Mask of Zorro)، يلعب دور المعلم المسن لزورو الجديد، ويترك بصمته في أفلام الحركة الخفيفة وهو الذي عرف بتقديم الدراما قبل ذلك، وفي فيلم “ثور” 2011 (Thor)، يقدم “هوبكنز” دور “أودين”، بشكل يضفي على الشخصية سلطة ملكية تليق به كملك، ولكنه يضفي أيضا دفئا وإنسانية على الدور مما يجعل علاقة أودين بأبنائه أكثر تأثيرا.

ويجسّد في فيلم “الأب” 2020 (The Father) دور رجل مسن يصارع الخرف، أكسبه هذا الدور جائزة الأوسكار الثانية، ومن السهل معرفة السبب؛ إذ يصور “هوبكنز” تفكك عقل شخصيته بصدق وضعف شديدين، لدرجة أنه من المستحيل ألّا يتأثر بهما المشاهد.

وفي مشهد شديد القسوة، يصور “هوبكنز” الارتباك والخوف من فقدان الرجل لذاكرته، مجسدا التأثير المدمر للخرف بضعف شديد، وهو أداء يعد درسا في التمثيل، وتتويجا لعقود من الخبرة، وتذكيرا بالسبب الذي يجعل “هوبكنز” أحد أعظم الممثلين في جيله.

يظهر الدور جانبا جديدا من “هوبكنز” الممثل، حيث يبدو أكثر ضعفا، ويميل إلى محاورة ذاته حول نقاط ضعفه وانهياره، وهو دور يبدو أنه كُتب خصّيصا من أجل “هوبكنز”، الذي تمكّنه خبرته الطويلة في الحياة الشخصية والمهنية على حد سواء من أدائه بالشكل الذي ظهر به.

تزوج “هوبكنز” ثلاث مرات، وقد شابت حياته الزوجية العديد من الأزمات التي تعود بشكل أساسي إلى انشغاله في عمله، والتزامه به، وقد تزوج “ستيلا أروياف” عام 2003 وهي الثالثة بعد “جينيفر لينتون” التي ارتبط بها من 1973 إلى 2002، وتزوج “بترونيلا باركر” من 1966 إلى 1972.


إعلان