أورسون ويلز.. شكسبير السينما العالمية المطرود من هوليوود
تحولت شوارع الكثير من المدن والريف الأميركي إلى ممرات للهروب والجري بلا هدف، وامتلأت الساحات بوجوه كساها الذعر مساء الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1938، فقد تلقى الأميركيون عبر نشرة إخبارية إذاعية، تم بثها بصوت الممثل والكاتب الشاب “أورسون ويلز” خبرا عن غزو فضائي قادم من المريخ، وهجوم بأسلحة غامضة، وسقوط عدد من الضحايا.
ورغم أن التقرير كان عبارة عن حلقة تحت اسم “حرب العوالم” من المسلسل الإذاعي “مسرح عطارد على الهواء” من إخراج ورواية “أورسون ويلز”، وجاء كتقليد لرواية ه. ج. ويلز “حرب العوالم” 1898، إلا أن “ويلز” لم يحاول أن ينبه المستمع بمقدمة توضيحية تشير إلى هذا الأمر، بل بدأ مباشرة بمراسل ينقل مشهدا لهجوم الفضائيين على سكان الولايات المتحدة.
البداية الحقيقية لشهرة ويلز
كانت الدراما الإذاعية المثيرة والمتهورة هي البداية الحقيقية لشهرة الشاب المهووس بشكسبير، والذي لم يكن قد تجاوز الثالثة والعشرين من عمره حينها، فانطلق ليصبح واحدا من الوجوه الفنية والثقافية للقارة الأميركية، وأحد العباقرة الذين أثروا الفنون بمختلف مجالاتها خلال العقود التالية، ورغم ذلك لم تحتمل هوليوود شجاعته، وطردته إلى أوروبا.
حقق “أورسون ويلز” إبداعا استثنائيّا في كل أنواع الفنون؛ من التمثيل إلى التأليف والإخراج والكتابة، والإنتاج الدرامي والتلفزيوني والسينمائي والمسرحي، وكانت التراجيديا العائلية المبكرة التي عاشها أورسون الصغير قد أدت إلى طفولة لا تشبه غيرها، وتكاد التقلبات التي شهدتها حياة مخرج “المواطن كين” 1941 (Citizen Kane)، والأدوار التي لعبها على مسرح الحياة في تلك المرحلة، تؤكد أن هذا العبقري الذي يعد أحد أعمدة الإبداع في القارة الأميركية، لم يمر بمرحلة الطفولة -من الأصل- مثل باقي البشر، وإنما ولد كبيرا بما يكفي لتولي المسئولية عن نفسه وعن أبيه بينما لم يكن قد تجاوز خمسة عشر عاما.
آمن “أورسون ويلز” بالحب والعطاء وقدرة الصداقة على صناعة الأنس في حياة الفرد، فقد قال في أحد حواراته الصحفية: “يولد الإنسان وحيدا، ويعيش وحيدا، ويموت وحيدا، ومن خلال الحب والصداقة، فقط، يمكنه أن يخلق الوهم في هذه اللحظة بأنه ليس وحيدا”.
آمن “أورسون ويلز” بالحب والعطاء وقدرة الصداقة على صناعة الأنس في حياة الفرد، فقد قال في أحد حواراته الصحفية: “يولد الإنسان وحيدا، ويعيش وحيدا، ويموت وحيدا، ومن خلال الحب والصداقة، فقط، يمكنه أن يخلق الوهم في هذه اللحظة بأنه ليس وحيدا”.
ورغم موهبته المذهلة وعمله الرائد في المسرح والإذاعة والسينما، إلا أن “أورسون ويلز” واجه تحديات شخصية ومهنية كبيرة، ساهمت في توقف العديد من مشروعات الأفلام التي كان يمكن أن تضيف إلى تاريخ السينما صفحات بهية، ورغم ذلك فقد ترك إرثا يبين أنه واحد من أكثر الشخصيات تأثيرا في تاريخ الفن.
صدمة الفقد
جاء رحيل والدة الطفل “جورج أورسون ويلز” بعد حفل عيد ميلاده التاسع، ليشكل ملامح مرحلة جديدة كليّا، تختلف عمّا سبقها، وليزيد في جرعة التراجيديا التي بدأت بطلاق الوالدين قبل عامين، وزواج الأم، ومن ثم موتها، وليغرق الأب في مستنقع الإدمان، لكن الصبي صمد في وجه العواصف الدرامية المتلاحقة حتى رحل والده، ليصبح وجها لوجه أمام الحياة.
ورغم رحيلها المبكر، تركت الأم في ابنها آثارا لا تمحى، إذ كره الطفل الحضانة ولم يشأ الذهاب إليها، فكانت سابقا تطلب منه أن يقدم شيئا مفيدا أو طريفا أو جميلا خلال يومه وإلا أجبرته على الذهاب إلى الحضانة، وهو ما جعل ويلز منتجا حقيقيّا في كل يوم من أيام حياته، التي تمتد من عام 1915 وحتى عام 1985.
كان الأب شخصا عاطفيّا إلى حد كبير، وكان الابن في سنواته الأولى قريبا جدا منه، فهو مخترع مبهر، ورجل أعمال صاحب شخصية وكاريزما حقيقية، ولكن إدمانه على الكحول خلق بيئة منزلية غير مستقرة، خاصة بعد وفاة والدة “ويلز”، واضطر الابن إلى القيام برعاية الأب حتى رحيله.
ويمكن رؤية تأثير “ريتشارد ويلز” في عمل “أورسون ويلز” حيث تتكرر موضوعات العلاقات المعقدة بين الأب والابن، وتأثير الشخصيات الأبوية في أفلام ومسرحيات “أورسون ويلز” فشخصية الأب “ريتشارد” كانت مصدرا غنيا بالمواد لسرد القصص.
نجومية مبكرة
التحق “أورسون ويلز” بمدرسة “تود للبنين” في “وودستوك-إلينوي”، حيث نشأ اهتمامه بالمسرح على يد مدير المدرسة “روجر هيل”، وعلى الرغم من افتقاره إلى التدريب الرسمي، كان “أورسون ويلز” قارئا نهما ومتعلما ذاتيا، حيث استوعب المعرفة من مختلف المجالات التي أثّرت لاحقا على عمله.
أنهى المراهق اليتيم دراسته الثانوية في سن السادسة عشرة، أي بعد وفاة والده بعام واحد، وبدلا من قبول منحة قدمتها له واحدة من أعظم جامعات العالم وهي “هارفارد”، سافر المغامر الصغير إلى أيرلندا، وحصل على دور في أحد العروض على مسرح “جيت” في دبلن، واستمر هناك لثلاثة أعوام، وبعد عودته إلى الولايات المتحدة، ظهر لأول مرة على خشبة المسرح في نيويورك 1937، وإذا كان المسرح هو العشق الخاص والهوس المجنون للشاب القصير السمين ذي الملامح الكاريزمية، فإن الإذاعة كانت اللعبة المفضلة للطفل الشقي بداخله، وهو ما نتج عنه الذعر الذي سببه برنامجه الأكثر شهرة “حرب العوالم” 1938.
سينما “ويلز” العالمية
نجح “أورسون ويلز” في تقديم 23 فيلما للسينما العالمية، بالإضافة إلى إنجازات لا تحصى في المسرح والدراما الإذاعية والتليفزيونية، وحصل على عدد كبير من الجوائز في مهرجانات العالم، كما فاز بالأوسكار عن فيلمه الأشهر “المواطن كين” 1941 (Citizen Cane). ومن أفلامه المبكرة الناجحة أيضا، فيلم “آل أمبرسون الأجلاء” 1942(The Magnificent Ambersons)، وفيلم “لمسة شيطان” 1958 (Touch of Evil) و”أجراس منتصف الليل” 1965 (Chimes at Midnight)، وتم اختيار ويلز عام 2002 كأعظم مخرج سينمائي في التاريخ في استطلاع نظمته مؤسسة الأفلام البريطانية.
يعتبر فيلم ويلز الأول “المواطن كين” أحد أعظم الأفلام على الإطلاق، وقد شارك في كتابته وإنتاجه وإخراجه، وقدم فيه تقنيات ثورية في التصوير السينمائي وبنية السرد والصوت، ويلعب “أورسون ويلز” في الفيلم دور الناشر ورجل الأعمال “تشارلز فوستر كين”، الذي تعكس حياته الخيالية جزئيّا حياة الناشر ورجل الأعمال الحقيقي “ويليام هيرست”، وأيضا حياة منافسه القديم “جوزيف بوليتزر”، وقبل عرضه نشأت معركة شرسة بين “ويليام هيرست” الذي امتلك عشرات الصحف وبين “أورسون ويلز”.
تم توثيق المعركة في فيلم وثائقي: تحت اسم ” معركة المواطن كين”، وقد كانت نموذجا للعبة عض الأصابع بين الإبداع الفني من جهة ورأس المال من جهة أخرى، فقد تلاعب رجل الأعمال برؤساء الأستوديوهات الأربعة الكبرى في هوليوود كولومبيا؛ “بيكتشرز”، و”مترو جولدوين ماير”، و”باراماونت”، و”وارنر براذرز”، وذلك لعقد تحالف يتمكن من شراء النيغاتيف الأصلي بهدف إحراقه، ورغم المعركة الشرسة التي أثّرت على الإيرادات، استطاع “أورسون ويلز” أن يحقق نجاحا نقديّا هائلا، واستمر النجاح بل وتضاعف حتى تربع الفيلم على قمة قائمة الأفضل في تاريخ السينما لسنوات طويلة.
“ويلز”.. المهووس بشكسبير
طوال حياته، كان هاجس “أورسون ويلز” هو شكسبير، وقد بدأ ذلك الهاجس مبكرا جدّا، إذ قدم الولد الذي لم يكن قد بلغ العشرين من عمره بعد مشروعا شكسبيريّا حقق نجاحا هائلا، ولم يكن تمثيلا أو إخراجا، وإنما كان عملا مكتوبا، احتل به “أورسون ويلز” مكانة فريدة في الثقافة الأمريكية، وهو “شكسبير والثقافة الشعبية”، حيث ترجم “أورسون ويلز” أعمال شكسبير الثقافية الرفيعة للجمهور الأمريكي الشعبي في القرن العشرين.
وأنتج وأدى “أورسون ويلز” دور البطولة في مسرحيات شكسبير في “برودواي”، كما أخرج ولعب دور البطولة في نسخ متعددة من أعمال شكسبير في الأفلام، بما في ذلك مسرحية “أجراس منتصف الليل و”ماكبث” و”عطيل”، وهي أعمال تميزت بأجواء ميلودرامية قاتمة، وتلاعب بالضوء والظل بمهارة وحرفية واضحة، وقد صور “عطيل” في كل من إيطاليا والمغرب.
صراع مع الاستوديوهات الكبرى
لم يكن “أورسون ويلز” صاحب المواهب المتعددة يتوقف عن العمل والإبداع، حتى في أسوأ حالاته الصحية، ولم يكن يتراجع عن التمسك بحقوقه كفنان ومبدع في غابة هوليوود الإنتاجية، لذلك جاء صراعه مع الاستوديوهات الكبرى عنوانا رئيسيّا في حياته المهنية.
استمر الصراع واشتد بين “أورسون ويلز” والاستوديوهات، حتى أن بعضها أعادت مونتاج أحد أفلامها، وتوقفت العديد منها أثناء التصوير، لكنه لم يتنازل أبدا، وأنتج العديد من أعماله بنفسه، ممّا اضطره أحيانا للقبول بالمشاركة في أعمال لا تليق به، واضطرته أزمته مع الاستوديوهات إلى القبول بالنفي إلى خارجها، فانطلق في رحلة إلى أوروبا، وتعود القصة إلى مهزلة سينمائية تسببت في أذى كبير له.
في عام 1947، رغبة منه في تقديم مسرحية “ماكبث” لشكسبير على شكل فيلم سينمائي، تعاون “أورسون ويلز” مع المنتج “تشارلز فيلدمان” لإقناع “هربرت ياتس”، رئيس شركة “ريبابليك بيكتشرز”، بتمويل الفيلم. ضمن “أورسون ويلز” تقديم ماكبث ميزانية قدرها 700 ألف دولار، وعندما أعرب بعض أعضاء مجلس إدارة شركة “ريببليك” الممولة عن شكوكهم بشأن المشروع، وافق “أورسون ويلز” على دفع أي مبلغ يزيد عن المبلغ المطلوب شخصيا.
قام “أورسون ويلز” بإجراء العديد من التغييرات على النص الأصلي لشكسبير، مثل إضافة أهمية للساحرات، وقد لعبت دورهنّ اثنتان من أساطير راديو هوليوود: “بيغي ويبر” و”لورين تاتل”.
أعلن “أورسون ويلز” عن إحباطه من الملابس والجدول الزمني الضيق، الذي جعل الممثلين يسجلون جميع حواراتهم مسبقا؛ لأن مواقع التصوير كانت عبارة عن مواقع متبقية من أفلام الغرب الأمريكي، وتم الإنتاج بالكامل في ثلاثة وعشرين يوما فقط، ووقّع “أورسون ويلز” بعد ذلك على بطولة فيلم “السحر الأسود” لغريغوري راتوف، وتم التصوير في روما.
روجت الشركة الممولة “ربابليك” للفيلم في البداية باعتباره عملا مهما، ودخل مهرجان البندقية السينمائي عام 1948، لكن تم سحبه فجأة بعد مقارنات مع نسخة “لورانس أوليفييه” من مسرحية “هاملت عاد من أوروبا في الربيع”، فقام “أورسون ويلز” باقتطاع عشرين دقيقة من الفيلم بناء على طلب الشركة، وسجل سردا لتغطية بعض الثغرات، ولكن عندما تم عرضه أخيرا، وصف الفيلم أيضا بالكارثة.
وفي عام 1948، وقع “أورسون ويلز” على المشاركة في بطولة الفيلم الإيطالي “أمير الثعالب” مع “تيرون باور”، وصدر الفيلم في ديسمبر/كانون الأول من عام 1949.
الهروب إلى أوروبا
كان “أورسون ويلز” في الـ33 من عمره، وقد اكتفى من هوليوود، كان غارقا في الديون وكان بحاجة إلى الانتقال إلى أوروبا بدوام كامل، كانت محطته الرئيسية الأولى ستكون في فيينا، ليقوم ببطولة فيلم جديد بعنوان “الرجل الثالث” مع “جوزيف كوتون”.
كان “أورسون ويلز” في الـ33 من عمره، وقد اكتفى من هوليوود، كان غارقا في الديون وكان بحاجة إلى الانتقال إلى أوروبا بدوام كامل، كانت محطته الرئيسية الأولى ستكون في فيينا، ليقوم ببطولة فيلم جديد بعنوان “الرجل الثالث” مع “جوزيف كوتون”.
لم يستطع الفنان الموسوعي أن يصمد ولو في زيجة واحدة حيث، تزوج ثلاث مرات، الأولى من “فرجينيا نيكلسون”، ثم “ريتا هايوارث”، وأخيرا بـ”اولا موريط، وأنجب ثلاثة أبناء هم “ريبيكا”، و”بياتريس”، و”كريستوفر”.
ظل “أورسون ويلز” منذ طفولته متألقا كنجم محلي ثم عالمي، والمعروف أنه حين تصل النجوم إلى أقصى حالات البهاء، فهي تكون في أسوأ حالات الاشتعال.
وهكذا عاش ويلز يحترق بنار مواهبه الموسوعية وأحلامه التي لا تنتهي.