علي الطنطاوي.. أديب الفقهاء وفقيه الأدباء ومحب دمشق

لو قُدر لدمشق أن تنطق اليوم لقالت: “كم تمنيت أن يعود علي الطنطاوي إلى رحابي، أو حتى أن أحتضن رفاته الطيب”. وكذا لو تحدث جبل قاسيون أو نهر بردى أو مآذن المسجد الأموي، فمنذ تركها الشيخ في 1963 لم تغب عن باله لحظة واحدة، وكان قلبه يتقطع شوقا للعودة إليها.
أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما شائقا، مفعما بالذكريات العطرة، مليئا بالمحطات المهمة، من حياة أديب الفقهاء وفقيه الأدباء، وفارس الكلمة ورجل الدعوة، الشيخ علي مصطفى الطنطاوي، ويستعرض ضيوف الفيلم من تلاميذ الشيخ وأبنائه ومحبيه طرفا من سيرته العطرة، ويقفون على بعض فصول حياته الغنية بالعلم والعمل والتضحيات.
“يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم”
يعد الشيخ علي الطنطاوي أحد كبار أعلام الدعوة الإسلامية والأدب العربي في القرن الـ20، وهو إعلامي من الرعيل الأول، ومن أوائل الإذاعيين العرب، ولم يدّخر -على مدى 60 عاما- وسيلة لإيصال صوته للناس؛ من الخطابة إلى الإذاعة والكتابة وصولا إلى الشاشة الصغيرة.

يقول الدكتور عبد الله الطنطاوي، رئيس رابطة أدباء الشام: هنالك ظاهرة ما رأيت حتى الآن من بحثها، وهي وجود عباقرة في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، شخصيات لا نكاد نجد مثيلا لها الآن، ومن هؤلاء الشيخ علي الطنطاوي، فقد تتلمذتُ على هذا الرجل ورأيته متعدد المواهب، أديبا وعبقريا كبيرا، لا آخذ واحدا من كتبه حتى آتي عليه، قرأت معظم كتبه، وبعضها أكثر من مرة.
ويقول عنه صديق عمره سعيد مولوي: كان الشيخ رحمه الله منارة نهتدي بها، وله تأثير في نفوسنا، نتوخى سماع حديثه الذي يلعب بقلوبنا.
ويصفه الدكتور علي القره داغي، الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين، قائلا: كان نجما في سماء الدعوة، وكوكبا في عالم الفقه، وكان متميزا في علوم كثيرة وخاصة اللغة، فهو فقيه الأدباء وأديب الفقهاء.

وتتذكره ابنته بيان بفخر وشوق، فتقول: عرفته أبا وأخا وصديقا، لم يختلف في كل هذه الأدوار التي قام بها في حياته، كان إنسانا مع الجميع، بكل ما تعنيه الكلمة، وكان على منبره كما على الشاشة كما في المحكمة والإذاعة، لم يعش بوجهين ولا لحظة واحدة، يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم”.
أيام الصبا.. نشأة في حديقة معرفية غنية
وُلد علي الطنطاوي عام 1909 في دمشق، المدينة التي لم تفارقه يوما، أحب هواءها وحاراتها ودورها، سكنها حينا من الوقت وسكنته العمر كله، وظلت سلطانة حبه ومهوى فؤاده، حتى ناله من جمال روحها وعبقرية نجومها الشيء الكثير.

يقول الشيخ في مذكراته: هذه ذكرياتي، حملتها طوال حياتي، لأجد فيها نفسي وأسترجع أمسي، أنا من جمعية المحاربين القدامى، كان لي سلاح أخوض به المعامع وأطاعن به الفرسان، سلاحي قلمي، حملته سنين طوالا، أقابل به الرجال وأقاتل به الأبطال.
نشأ الطنطاوي في أسرة ذات علم ودين، فأبوه الشيخ مصطفى الطنطاوي، من العلماء المعدودين في الشام وأمين فتواها، كان بيته منارة علم تعج بالمريدين وطلبة العلم، وذلك ما جعل الفتى علي متحفزا لطلب العلم، فتربى على المشايخ؛ جده وخاله وعمه، ومجموعة من علماء دمشق.

يقول الشيخ في مذكراته عن تلك الحقبة: ولقد كنتُ أجد -منذ وعيت- مشايخ يقرؤون على أبي، فقد كان عالما ولغويا، أدخل عليهم فألتقط كلمة بعد كلمة، لا أفهم معناها ولكن تبقى في نفسي ذكراها.
ثم صار أبي يأمرني أن أناوله الجزء الأول من حاشية ابن عابدين، أو الثاني من الفتاوى الهندية، أو جزءا من القاموس، فعرفت أسماء بعض الكتب، ثم حفظت ألفية ابن مالك، والجوهر المكنون في البلاغة، ومتونا أخرى نُقشت في ناظري في الصغر، وانتفعت بها في الكبر.
حلقات المسجد الأموي.. بيئة علمية كوّنت فكر الطنطاوي
أحب الشيخ الطنطاوي دمشق كثيرا، وكان يحنّ إليها، ومات وهو يحلم بالعودة إليها. يذكر جبل قاسيون ويحن إليه. وتعد كتاباته في الحنين إلى الشام نادرة المثال، فعندما تقرأ كتابه “دمشق”، تحس أنه يذوب عاطفة للشام وسوريا.
يقول حفيده مؤمن ديرانية: جمع جدي بين طريقتين في طلب العلم؛ طريقة التلقي عن المشايخ، وطريقة التعليم الحديث. وكان مواظبا على حلقات العلم في المسجد الأموي.

يقول الطنطاوي في مذكراته: المسجد الأموي قلب دمشق النابض، ندخله كلما سنحت لنا الفرصة، كان مهوى القلوب ومستقر الأفئدة، حافلا بحلقات التدريس التي كان لها دور قوي في تكوين فكري.
تنقل الشيخ علي الطنطاوي بين عدد من مدارس دمشق، وحط رحاله في مكتب عنبر، وكانت الثانوية الوحيدة في دمشق، وقد خرّجت عددا من رجالات الشام، فيها كوكبة من العلماء، منهم سليم الجندي والشيخ المبارك، وقد قال عنهما الشيخ: لا أعلم تحت قبة السماء من كان أفقه منهما في اللغة.
“هذا يفترض أن يطرد لا أن يستقبل”
كانت سوريا يومئذ تحت الاحتلال الفرنسي، وكانت في مرحلة قاسية، وقد بلغت ذروتها بعد معركة ميسلون، ثم دخلت مرحلة صراع للحفاظ على هويتها.
يقول مجاهد ديرانية، وهو كاتب متخصص في سيرة الطنطاوي: في أحد الأيام طُلب من الشيخ والتلاميذ استقبال الجنرال الفرنسي، فرفض علي، وكان عمره يومها 10 سنوات، وقال: هذا يفترض أن يطرد لا أن يستقبل.

يقول الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته عن وفاة أبيه: في عام 1925 واجهت أكبر منعطف في عمري، موت أبي، يومها واجهت الحياة وأنا غير مستعد لمواجهتها، وخضت معركتها وأنا لم أتسلح لخوضها، فقد اشتغلت أجيرا وحاولت أن أكون تاجرا، ورأيت بعدها أن الرجوع للحق أفضل من التمادي في الباطل، وعدت لما خلقت له؛ العلم والأدب.
وتقول عابدة العظم، حفيدة الشيخ الطنطاوي: لما توفي والد جدي، أشار عليه المقربون أن يترك الدراسة ويتوجه للتجارة، بل اتفقوا مع التجار على أن يعمل في الدكاكين، وجمعوا له مالا ليكون له عمله الخاص، وقد وافق جدي، ولكن لما بدت له طبيعة العمل في التجارة وحساباتها شعر أن هذا العمل لا يناسبه أبدا.
أيام الصحافة.. قلم مرهف يسقي القاهرة أدبا
عاد علي الطنطاوي إلى مكتب عنبر، وفي 1928 كان على موعد مع القاهرة، وهي درة العرب في ذلك الوقت، فقد جاءته دعوة من خاله محب الدين الخطيب، الذي أصدر مجلة الزهراء الأدبية، وهناك ظهرت له موهبة جديدة، ستلازمه طوال حياته، إنها الصحافة.
يقول عن تلك الحقبة: كانت سفرتي إلى مصر أكبر حدث في شبابي، كالذي وصل إلى الكنز المرصود، هناك ذقت لذة العمل الصحفي في الزهراء؛ المجلة الأدبية الأولى في العالم العربي يومئذ، قويَ فيها قلمي، وانتقلت في الكتابة من الأسلوب الحماسي إلى أسلوب أقرب إلى الرصانة.

انفتح باب جديد في تاريخ الصحافة بإنشاء جريدة “الأيام”، وعملتُ فيها قبل أن أكمل 23 عاما، وكان في غرفتي أشخاص مختلفو المشارب متباعدو الاتجاهات، وأعطيت الجريدة وقتي وجهدي ونشاطي.
وكم كانت فرحة الشيخ عندما نشر له أول مقال، ثم كتب في “الرسالة” التي يرأس تحريرها الأديب الكبير أحمد حسن الزيات، وصارت مقالاته تتقدم مقالات كبار الكتّاب. ثم عاد إلى دمشق، وكتب في عدد من الصحف والمجلات، وأصبح العمل الصحفي فضاء يعلق عليه آماله وأحلامه.
غدا الطنطاوي على أعتاب جامعة دمشق، والتحق بكلية الحقوق التي تضم كبار أساتذة القانون، وعلى رأسهم فارس الخوري أبو القانون في سوريا، وخلال الدراسة انخرط في الحراك الطلابي ضد الاحتلال الفرنسي، وأسس “اللجنة العليا لطلاب سوريا”، فكانت حلقة الوصل بين الطلاب والكتلة الوطنية لقيادة النضال ضد المحتل.

حمل عام 1931 في ثناياه فاجعة عظيمة للشيخ، فقد ماتت أمه، المرأة العظيمة التي أخذت على عاتقها تربية أبنائها وتدريسهم، حتى أصبحوا نجوما تتلألأ في سماء العلم، وخرّجت للحياة رجالا مثل علي الطنطاوي، وناجي الطنطاوي القاضي، والدكتور عبدالغني الطنطاوي عالِم الرياضيات الكبير، وسعيد الطنطاوي الذي يعد أمّة وحده في مكة المكرمة.
“أنا أقدم معلّم على وجه الأرض”
كانت بغداد محطة علي الطنطاوي التالية، فقد سافر إليها مع صديقه ورفيق دربه أنور العطار، واستكمل بها مسيرته في التدريس، فجاب العراق شمالها وجنوبها، وأعطى الدروس والمحاضرات في معظم مدنها، ما بين 1936-1939، وهناك التقى الشيخ أمجد الزهاوي رحمه الله، ودرّس في بغداد، وفي كركوك شمال العراق، وفي البصرة جنوبها.

يقول عن تلك المرحلة: أصبحت بغداد أحب البلدان إلي بعد دمشق، ودجلة أحلى الأنهار بعد بردى، بغداد الماضي جنة مسحورة من جنان الأحلام، وليلة مجسدة من ألف ليلة، في بغداد كنت أعلم الأدب، لا على أنه واجب مدرسي، بل إمتاع نفسي، أعيش بالأدب وللأدب.
أحب الشيخ التدريس، واتخذه رسالة له، فدرّس في دمشق منذ أن كان طالبا، واستكمل رسالته في العراق، وكان يقول عن نفسه: أنا أقدم معلم على وجه الأرض، اشتغلت في التعليم في 1924 عندما كنت طالبا.

وفي تلك المرحلة أيضا تزوج عائدة الخطيب، وأنشأ معها أسرته التي أحب، ورزق منها 5 بنات ملأن عليه حياته، وما أطاق فراقهن يوما. تقول ابنته أمان: والدتي رحمها الله كانت أيضا من بيئة علم، والدها الشيخ صلاح الدين الخطيب، كان قاضيا وذا مكانة عالية، وجدّها الشيخ بدر الدين الحسني كان عالما بالحديث، وكانت قريبة لوالدي من جهة أمه.
أيام القضاء والإذاعة
في عام 1941، عين علي الطنطاوي قاضيا في ريف دمشق، وتدرج في المناصب حتى غدا مستشارا لمحكمة النقض، وحقق إنجازات كبيرة، فأسهم في إعداد قانون الأحوال الشخصية، وتعديل قانون الأوقاف ومناهج المدارس الثانوية.

يقول عبد الله زنجير، وهو أحد تلامذة الطنطاوي: كان الشيخ يؤمن بالاجتهاد ويمارسه عمليا، فحين كُلف بقانون الأحوال الشخصية لم يلتزم بكل ما ورد من مواد في التراث الفقهي السابق، بل عدّل بما يقتضيه الحال، وشاركه في ذلك الشيخ مصطفى الزرقا.
وفي أوائل الخمسينيات، سطع نجمه إذاعيا من الطراز الأول، فهو من أوائل المذيعين العرب، وقد بدأ في أواسط الثلاثينيات بإذاعة الشرق الأدنى في يافا، ثم إذاعة دمشق فإذاعة بغداد، وبرز من خلال أحاديثه الإذاعية منهجُه الإصلاحي. وكان آسرا بأسلوب خطابته وحديثه العذب، وزاد من عذوبته لثغةٌ في لسانه، أضفت عليه جاذبية ساحرة.
أبعده الانقلابيون عن دمشق فتلقته مكة المكرمة
في 8 مارس/ آذار 1963، دخلت سوريا في أزمة سياسية جديدة، بعد انقلاب ضباط بعثيين يرأسهم حافظ الأسد وصلاح جديد، واستيلائهم على الحكم، فتغيرت ملامح البلاد، وازدادت المضايقات على الطنطاوي وأمثاله، فاضطر لترك موطنه إلى غير رجعة.
وقد سُرح عدد من القضاة بأوامر عسكرية، فأنكر الشيخ الطنطاوي هذا، وصعد إلى شرفة قصر العدل وجمع الناس، ثم ألقى خطابا ناريا شنّع فيه على الحاكم العسكري واستنكر أفعاله، وجرّ عليه هذا الموقف أذى ومضايقة، مما أجبره على مغادرة البلاد.

يقول الشيخ: في مطلع 1964، أتاني مبعوث من سماحة مفتي المملكة العربية السعودية، وعرض عليّ التدريس في مكة المكرمة، فقلت بلا تردد: نعم.
وصل الشيخ إلى مكة المكرمة، وهناك بدأ مرحلة جديدة، فغدا علما من أعلام المملكة ورمزا من رموزها، واتخذ مكانا في الحرم يجلس إليه، ويجتمع الناس حوله يستفتونه، وكان بيته مزارا لطلبة العلم والمثقفين من أطياف المجتمع كافة.

وفي الجامعة، اقترح علي الطنطاوي على رئيسها برنامجا للتوعية الإسلامية، يزور من خلاله المدارس ويلتقي الطلبة والمدرسين، فوافق رئيس الجامعة، بل فرّغ الشيخ من التدريس في الجامعة، لتتسنى له زيارة المدارس حسب البرنامج المعدّ.
يقول حسن شاهين، وهو إعلامي سعودي: لا يوجد أحد في المملكة خلال الـ50 عاما الماضية لم يعرف الشيخ الطنطاوي رحمه الله، كنا نتحلق حول الشاشة بعد صلاة الجمعة لنسمع حديثه العذب. لقد كان للشيخ أثر في نهضة وتثقيف المجتمع السعودي، والتف حوله الجميع من الشباب والشيوخ والرجال والنساء.

كان للشيخ برنامج إذاعي يومي لمدة 10 دقائق، وهو “مسائل ومشكلات”، وبرنامج أسبوعي في التلفزيون مدته نصف ساعة بعد صلاة الجمعة، وهو “نور وهداية”، والبرنامج الثالث الذي ارتبط بأذهان الملايين من المسلمين، وهو “على مائدة الإفطار” في رمضان.
وقد كان لكل واحد من هذه البرامج لونه وطعمه المميز، وجاءت شعبية الشيخ من شخصيته العفوية، فقد كان لا يتصنع أمام الكاميرا.
وصمت فارس الكلمة ورجل المنابر
لم ينقطع عطاء الشيخ يوما، فلم يزل يلقي المحاضرات وينثر المؤلفات، وكان من أبرز ما كتب في العقيدة والفكر كتاب “تعريف عام بدين الإسلام”، وقد ألّفه في نهاية الستينيات، وتُرجم إلى عشرات اللغات، بأسلوب ميسر وبسيط يفهمه المثقف والعامّي، وكتب غيره في كل العلوم، ولكن ليس على شكل كتب مخصصة.

لم تفارق دمشق قلب الشيخ لحظة، فيقول: دمشق التي عرفتها وأنا صغير ليست دمشق التي نراها الآن، تغيرت حاراتها ودورها وتبدل الكثير من أحوالها، أيها المحسن المجهول الذي رضي أن يزور دمشق عني، لم يبق لي عندك إلا حاجة واحدة، أكمل معروفك وأقرئ أمي مني السلام.
في 1981، فجع الشيخ بمقتل ابنته بنان في ظروف غامضة، تعود لأسباب سياسية، فهي زوجة الشيخ عصام العطار، أحد كبار قادة جماعة الإخوان المسلمين في سوريا. ويقول فيها: بقي يوم موت أمي الأقسى في حياتي، حتى أتى اليوم الذي فاقه قساوة، يوم قتلت ابنتي برصاص مجرم آثم، لم نعرفه لننتقم منه.

شارفت قصتنا مع الشيخ على النهاية، ففي التسعينيات اعتزل الناس وأغلق عليه بابه، ولم يقابل إلا القليل من المقربين، ولم يبق له من أنيس سوى كتبه التي ما فارقته لحظة. ثم ضعف قلبه وزاد سقمه، وبات كثير التردد إلى المستشفى، حتى وافته المنية بعد صلاة العشاء من يوم الجمعة 18 يونيو/ حزيران 1999.

وقد صلّت عليه جموع غفيرة في المسجد الحرام بمكة المكرمة، وخرجت جنازته من تحت سُدّة المؤذنين، مقابل الحجر الأسود، وهو نفس المكان الذي كان يجلس فيه للتدريس، ودفن في مكة المكرمة.
رحم الله الشيخ علي الطنطاوي، ونفع الأمة بعلمه الغزير، وأقرّ عينه برؤية النبي الكريم، وجمعه بوالديه وابنته في الفردوس الأعلى من الجنة.