“فرانك كابرا”.. مخرج النهايات السعيدة والحلم الأمريكي في العصر الذهبي
لم يهيمن أي صانع أفلام قط على عصره كما فعل المخرج الأمريكي “فرانك كابرا” (1897-1991)، ففي أوج قوته ونجاحه خلال الثلاثينيات والأربعينيات، فاز بثلاث جوائز أوسكار، وكان المخرج الأعلى أجرا في هوليود.
وضعت مجلة “تايم” صورته على غلافها في أغسطس/ آب 1938، وكان ذلك شرفا ومجدا استثنائيا، لم ينله قبل ذلك إلا مخرج واحد، هو “والت ديزني” الذي تصدر الغلاف في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1937.
هذان الغلافان، الصادران بفارق ثمانية أشهر فقط، يعبّران بدقة عن مدى تسليم مملكة الأحلام الهوليودية مفاتيحها لهذين الرجلين. كان “ديزني” يتوجه بأعماله أساسا إلى الأطفال، في حين كان “كابرا” يخاطب الكبار، وكلاهما قدّم للعالم أعمالا أشبه بالقصص الخيالية.
عراب أسطورة الإنسان العادي في السينما
اشتهرت أفلام “فرانك كابرا” في زمن الكساد الكبير، بكونها أفلاما وطنية عاطفية، تتمحور حول “الإنسان العادي” النبيل، الذي يتحدى السلطة ويبحث عن الخير، وينتصر على الشر، وتنتهي حكايات أفلامه دائما نهاية سعيدة.
وتلك صفات أرادت الغالبية العظمى من الناس تصديقها عن أنفسهم في الثلاثينيات والأربعينيات، كالمرونة والإيثار والتفاؤل في وسط الصعوبات الهائلة، فقد كان المجتمع الأمريكي يومئذ يعاني من ارتفاع البطالة، وانهيار المصارف والشركات، وتراجع التجارة الدولية، وانكماش الاقتصاد.
مسيرة أحد أعظم مخرجي العصر الذهبي
قد لا يكون اسم المخرج “فرانك كابرا” معروفا لدى كثير من الناس، لكن الوثائقي “فرانك كابرا.. سيد أمريكا” (Frank Capra: Mr. America) يستكشف لنا حياة ومسيرة أحد أعظم مخرجي أفلام العصر الذهبي في هوليود، الذي شكلت أفلامه رؤية لما يعنيه أن تكون أمريكيا.
وقد أخرج هذا الوثائقي المخرج “ماثيو ويلز” (2023)، وهو متاح للعرض على منصة “آبل تي في”.
يتألف الوثائقي من مشاهد مقتطفة من أفلام “كابرا” وأفلام منزلية له، إلى جانب حوارات كانت قد أجريت معه، ومداخلات من مخرجين ونقاد يتتبعون حياته بالنقد والتحليل، منذ وصوله مهاجرا طفلا من صقلية، وحتى أصبح أحد أكثر المخرجين المحبوبين في أمريكا.
رحلة من قاع الهجرة إلى القمة.. تجسيد الحلم الأمريكي
“فرانك كابرا” هو ابن فلاحين صقليين أميّين، قدما إلى الولايات المتحدة في الدرجة الثالثة على متن سفينة، وهو يستذكر رحلة الـ13 يوما من صقلية إلى أمريكا، فقد احتفل بعيد ميلاده السادس في قاع سفينة مظلم، محاطا بالفقر والقاذورات، وبمهاجرين منهكين خائفين، وكان الجميع مرضى يتقيؤون.
وعندما وصلت العائلة إلى لوس أنجلوس، التحق “فرانك” بالمدرسة، لكن عائلته ضغطت عليه لترك الدراسة والذهاب إلى العمل، فرفض ذلك، لأنه أراد المشاركة الكاملة في الحلم الأمريكي.
انصب اهتمام “فرانك” على دراسته، عازما على الهروب من الفقر، وعمل في أيام الابتدائية بائع صحف، متصارعا دائما مع باعة آخرين على أفضل أماكن البيع.
وطبقا لهذا المسار، كان يبدو مقدرا له أن يعيش حياة مجهولة في ثياب عامل بسيط، لا حياة حالمة في هوليود، يكون فيها نجما من نجوم الصناعة، وقد دفعت قصته مؤرخي الأفلام إلى تصنيفه “تجسيدا للحلم الأمريكي”.
عالم هوليود.. ابتسام الحظ بعد عبوس طويل
يروي “فرانك كابرا” في حوار قديم أنه ولد باسم “فرانشيسكو روزاريو كابرا”، وهو ابن مزارع فاكهة صقلي، وأصغر سبعة أبناء. وإنه كان يخجل من أصوله المتواضعة، ومن أمية والديه، وهي مشاعر ربما زادت إحساسه بالنقص، كونه مهاجرا إيطاليا فقيرا.
ثم يقول: كنت أكره الولايات المتحدة، وأكره الطريقة التي تُعامل بها عائلتي.
ويبدو أن قرار والديه بترك الحياة الريفية البسيطة في صقلية، ثم الذهاب للعيش فيما وصفه بـ”الغيتو” في لوس أنجلوس، كان مصدر حيرة له طوال حياته. فـ”الغيتو” مصطلح يشير إلى حي أو منطقة تسكنها مجموعة مهمّشة أو محرومة، نتيجة الفقر أو التمييز العرقي والاجتماعي.
بخلاف إخوته الستة، واصل “فرانك” تعليمه الجامعي في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، حيث نال منحة دراسية، ثم عمل بوظائف عدة، وتخرج عام 1918، وبعد الحرب العالمية الأولى، عجز عن إيجاد عمل في الهندسة، فتنقّل سنوات عدة يعمل أعمالا بسيطة.
لكن كما هو الحال مع أبطال أفلامه، فقد ابتسمت له الأقدار، وانطلقت مسيرته، وترقى الدرجات في هوليود، من كادح بدأ من الصفر، ثم أصبح كاتب نصوص كوميدية، ثم مساعد مخرج، ثم عاطلا عن العمل، وأخيرا مخرجا فنيا منذ 1926.
مزيج الفكاهة الإنسانية والرسائل العميقة
أقبلت الجماهير لمشاهدة أفلام “فرانك كابرا”، وهيمن على شباك التذاكر طوال الثلاثينيات بحكاياته الشعبية، التي سماها النقاد (Capra-corn)، وذلك وصف نقدي يُستخدم للسخرية من المبالغة في تقديم العواطف والمثالية في أفلامه. مثل فيلميه:
- “السيد ديدز يذهب إلى المدينة” (Mr. Deeds Goes to Town) عام 1936.
- “السيد سميث يذهب إلى واشنطن” (Mr. Smith Goes to Washington) عام 1939.
كانت هذه الأفلام درامية كوميدية، تصور أناسا عاديين على أنهم رموز للفضيلة والإنسانية، يقفون في وجه طمع الأغنياء وأصحاب النفوذ وفسادهم، وجسدت صورة مشرقة ومتفائلة لأمريكا. وقد استطاع المزج بين الفكاهة الإنسانية، والرسائل الاجتماعية العميقة.
اتسمت حبكاته غالبا بالتقلبات الدرامية التي تقود إلى نهايات سعيدة، تُحسم بلمسة سينمائية خارقة، وتتجلّى التحولات من خلال دعم شعبي مفاجئ، أو معجزة تغير مجرى الأحداث.
وفي كل فيلم تقريبا، استطاع الانتقال بسلاسة بين الجوانب الكوميدية والمآسي، مقدما صورا سينمائية متداخلة بين الواقع والحلم، وبين الخيال والإسقاطات الاجتماعية.
“حدث ذات ليلة”.. فيلم حصد 5 جوائز أوسكار
كان فيلم “حدث ذات ليلة” (It Happened One Night) الذي عُرض عام 1934 نقطة التحول في مسيرة “فرانك كابرا”، وهو فيلم كوميديا رومانسية، جمع بين “كلارك غيبل” و”كلوديت كولبير”.
فقد فاز الفيلم بخمس جوائز أوسكار كبرى، ودفع “فرانك كابرا” إلى الصفوف الأمامية في هوليود، وأصبح أول فيلم يفوز بخمس جوائز أوسكار:
- أفضل فيلم.
- أفضل مخرج.
- أفضل ممثل.
- أفضل ممثلة.
- أفضل سيناريو (روبرت ريسكين).
ولم يستطع تحقيق هذا الإنجاز طوال 90 عاما، إلا فيلمان فقط، هما:
- “طار فوق عش الوقواق” (One Flew Over the Cuckoo’s Nest) عام 1975.
- “صمت الحملان” (The Silence of the Lambs) عام 1991.
لا يعد هذا الفيلم من روائع “فرانك كابرا” فحسب، بل أحد أهم وأحب وأثرى الكوميديات الرومانسية في تاريخ هوليود، وهو عمل حقق نجاحا هائلا عند صدوره عام 1934، ولا يزال بعد 90 عاما يشع بسحره، ويحتفظ بمكانته بوصفه واحدا من كلاسيكيات السينما.
يدور الفيلم حول شابة هاربة من سلطة والدها الثري المستبد، فتتجه من فلوريدا إلى نيويورك متخفية في حافلة، وهناك تصطدم بالصحفي المفلس “كلارك غيبل”، فيعرف هويتها ويشمّ رائحة سبق صحفي، لكن الحب يتدخل ويبدل خططهما.
وقد تأثر صناع السينما المصريون بالسينما الأمريكية، فظهرت أفلام مصرية استلهمت نموذج “فرانك كابرا” في أفلامه، وقد اقتبس الفيلم المصري “يوم من عمري” (1961) قصة فيلم “حدث ذات ليلة” كاملا، وهو من بطولة عبد الحليم حافظ، وزبيدة ثروت. مع الإشارة إلى أن السينما المصرية تراعي أخلاق المجتمع العربي وقيمه.
“إنها حياة رائعة”.. فشل كبير وشهرة عظيمة بعد عقود
لم يستمر تألق “فرانك كابرا” طويلا، حتى أن فيلمه الأشهر “إنها حياة رائعة” (It’s a Wonderful Life) لم يلق نجاحا عند عرضه الأول عام 1946، بل فشل نقديا وتجاريا.
ولم ينل شعبيته إلا بعد أن فقد حقوق الملكية الفكرية، وعُرض مجانا على شاشات التلفزيون في السبعينيات، وأصبح فيلما عتيقا يعرض سنويا في موسم عيد الميلاد على التلفزيون الأمريكي.
لقد بلغ هذا الفيلم مبلغا عظيما من الشهرة، حتى لدى من لم يسمعوا اسم “فرانك كابرا” من قبل، فمن المرجح أنهم يعرفون هذا الفيلم، ورأوا جزءا منه على الأقل.
ما بعد الحرب العالمية الثانية.. بدايات الخفوت
مع أن “فرانك كابرا” نجح نجاحا كبيرا، فإن تألقه لم يستمر طويلا، فبعد الحرب العالمية الثانية، وجد صعوبة في التأقلم مع تغييرات هوليود، وفشل في التكيف مع التغيرات في صناعة السينما، فأصبحت أعماله أقل إبداعا وأكثر سطحية، وواجه صعوبة في تأمين مشاريع جديدة.
وقد استمرت مسيرته السينمائية 35 عاما، من بداياته عام 1926 إلى 1961، وبين هذين التاريخين قدم إنتاجا غزيرا، لكن خلال الحرب العالمية الثانية، خفت بريقه في السينما، لكنه أصبح مخرجا وثائقيا بارزا.
فقد استعان به الجيش الأمريكي لقيادة حملة تشجيع الشباب على التجنيد، فأخرج نحو 10 أفلام دعائية تحت عنوان “لماذا نحارب؟” (Why We Fight)، وتهدف لشرح أسباب دخول الولايات المتحدة في حرب بدت بعيدة عنها.
وبعد انتهاء الحرب، وحتى عام 1958، قدم أفلاما تلفزيونية تعليمية، لتكون عزاء عن فشله في استعادة أمجاد الماضي.
وبحلول الستينيات، توقف عمليا عن الإخراج، وشغل منصب رئيس أكاديمية فنون وعلوم السينما، ونقابة المخرجين السينمائيين، وكرس وقته لكتابة مذكراته، التي وصفها بعض النقاد بأنها خيالية ومليئة بالمغالطات.
“الاسم فوق العنوان”.. سيرة ذاتية تعكس المكانة السينمائية
كان “فرانك كابرا” أول مخرج يفرض على شركة الإنتاج، أن يوضع اسمه فوق عنوان الفيلم، ليكون علامة شخصية مميزة، وذلك ما يؤكد استقلاليته التامة، وتحكمه الكامل في كل الفيلم، من البداية إلى النهاية، وكان شعاره “رجل واحد.. فيلم واحد”.
وقبل 20 عاما من وفاته، كتب سيرته الذاتية بعنوان “الاسم قبل العنوان”، وصدرت عام 1971، وتشير دلالة الاسم إلى كونه واحدا من قلة من المخرجين الذين ظهرت أسماؤهم فوق عناوين الأفلام على الملصقات أو قائمة طاقم العمل.
“سيد أمريكا”.. أسطورة تعكس التطلعات والأزمات
قدم الفيلم الوثائقي “فرانك كابرا.. سيد أمريكا” صورة مقربة من “فرانك”؛ فهو رجل صنع أسطورته التي تعكس تطلعات المجتمع الأمريكي وأزماته في آن واحد، وتظل أعماله دعوة مفتوحة للحلم والأمل.
ومع ما يراه البعض من بساطة أو مثالية مفرطة في أفلامه، فإن إرثه السينمائي يبقى شهادة حيّة على قدرة الفن على التعبير عن أعماق النفس الإنسانية والطموح المجتمعي.