“السيدة الرئيسة”.. مطبات وألغام في مسيرة أول امرأة تقود الأمة السلوفاكية

يصنف فيلم “السيدة الرئيسة” (Ms. President) للمخرج السلوفاكي “ماريك شوليك” (2024) من أفلام السيرة الذاتية والدراما النفسية، وتأكيد الذات النسوية.

كما تتناول حكاياته الفرعية السياسة والحرب وجائحة كورونا، والعلاقات الاجتماعية في دولة منقسمة، تضج بالخصوم الشعبويين، ويعاني أبناؤها من الإحباط واليأس وخيبة الأمل الكبيرة، سواء بمستقبل الديمقراطية في البلد، أو بطبيعة القيادة التي يمكن أن تتسلم كرسي الحكم وتفعل ما تشاء.

ويرى غالبية النقاد السينمائيين الذين كتبوا عن هذا الفيلم، أن فكرته الأساسية تتمحور على شخصية “زوزانا تشابوتوفا” بوصفها أول سلوفاكية تصل إلى سدة الحكم، وقد نجحت إلى حد بعيد في أن توازن بين السلطة القانونية التي منحها مجلس النواب، وبين حياتها الشخصية التي لم نعرف منها إلا القليل.

امتدت حقبة “زوزانا تشابوتوفا” ما بين 2019-2024، وقد شهدت تحديات كبيرة، أبرزها النّفس الشعبوي الذي دعاها لاستبدال 5 رؤساء وزراء في أثناء دورتها الرئاسية.

ومع أن المخرج قد قسم فيلمه الوثائقي إلى 12 قسما، يبدأ بتدشين المنصب الرئاسي، وينتهي بمغادرتها له، فإننا نميل إلى تقسيمه بحسب الأحداث الكبرى إلى 5 أقسام لا غير، وهي:

  • تدشين المنصب الرئاسي في منتصف يونيو/ حزيران 2019.
  • جائحة كورونا.
  • الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022.
  • أزمة الطاقة الناجمة عن الغزو الروسي.
  • التضخم المتزايد الذي أفضى إلى الارتفاع الجنوني للأسعار في شتى أرجاء المعمورة.
الرئيسة “زوزانا تشابوتوفا” تؤدي واجباتها اليومية المألوفة

“نصر لكل أوروبا”.. عقبات في طريق رئيسة الأمة السلوفاكية

بدأت “زوزانا تشابوتوفا” تدشين منصبها الرئاسي بأداء اليمين الدستورية، فأعلنت التزامها بخدمة الأمة السلوفاكية والأقليات العرقية المتعايشة معها، مثل الهنغاريين والرومن (الغجر)، وآخرين لم تحدد هوياتهم أو انتماءاتهم العرقية، ولكن لديهم حقوق المواطنة، شأنهم شأن كل مواطن سلوفاكي آخر.

ومع أن الرئيسة حاولت أن تنأى بنفسها، وتجنب أفراد أسرتها الظهور الإعلامي، فقد قالت قبل حفل التنصيب إن ابنتها “أصيبت بورم في الدماغ، ومن حسن الحظ يبدو أن الورم حميد وقابلٌ للعلاج”، وقد خفف ذلك من لوعتها، ودفعها لمواصلة حلمها الرئاسي الذي أحاطته المجموعات اليمينية المتطرفة بالشكوك والنيات السيئة.

الرئيسة “زوزانا تشابوتوفا” تلتقي بـ”زيلينسكي” عبر الأثير في أثناء أزمة كوفيد 19

لا شك أن هذا الفيلم استقصائي بامتياز، لكنه يعتمد على شكلين من أشكال المعايير الستة لـ”بيل نيكولز” وهما: الشكل الإرصادي (المراقبة)، والشكل التشاركي.

أما الشكل التشاركي فهو يعول على الحوارات واللقاءات الشخصية، التي تكشف رؤى الرئيسة وتطلعاتها لخلق مجتمع ديمقراطي عادل، خالٍ من العنصرية والمحسوبية والفساد.

وبعد خطاب التنصيب أخذ القادة الأوروبيون يعلّقون عليها الآمال، فقال رئيس الاتحاد الأوروبي إنها “نصر لكل أوروبا”، ووصفها الرئيس الفرنسي “مانويل ماكرون” بأنها “رمز للاتحاد الأوروبي”.

أذن تسمع الآراء ويد تضرب الفساد.. خصال القوة الناعمة

كانت “زوزانا تشابوتوفا” قبل الرئاسة سياسية ومحامية وناشطة، وقد نالت بعض الجوائز المحلية والدولية، لمحافظتها على البيئة، ومكافحة النفايات السامة.

وحين بلغت كرسي الرئاسة أصبحت تناقش مستشاريها في كل شيء تقريبا، وهي مستمعة جيدا لآراء الآخرين، وتلك إحدى خصال القوة الناعمة، فكيف إذا كانت صاحبتها محامية وناشطة في حقوق الإنسان، ولا تجد حرجا في أن تتحدث عن المخدرات والماريوانا و”مجتمع الميم”، وكذلك التحايل الضريبي، وبث الكراهية بين صفوف المجتمع السلوفاكي المتعدد الأعراق والأجناس؟

الرئيسة “زوزانا تشابوتوفا” في أوقات فراغها النادرة تمارس التأمل

استغرق إنجاز الفيلم 5 سنوات تقريبا، فلا غرابة أن نرى لقاءات متعددة لها مع بعض القادة الأوروبيين وغيرهم، منهم “أنغيلا ميركل” و”فولوديمير زيلينسكي” و”إيمانويل ماكرون”، وشخصيات أخرى سنأتي عليها ضمن سياق الفيلم السردي.

وكانت تقول في معظم لقاءاتها إنها تدعو إلى التفاؤل، وترى أن الأشياء يمكن أن تتغير نحو الأفضل.

وقد ذكرنا أن هذا الفيلم سيرة ذاتية، لكنها لا تخرج كثيرا عن حدود السنوات الخمس، إلا باستثناءات محدودة، كما في قصتها مع المرأة التي ترجمت كتاب “تاو تي تشينغ”، الذي كتبه “لاوتسي” مؤسس الطاوية، وقد أهدته إليها.

فقد أثر عليها هذا الكتاب حقا، واستفادت من كثير من مضامينه التي تستدعي رباطة الجأش، والنزاهة الشخصية العميقة، والمعرفة الذاتية، وقد وضعها ذلك في مواجهة حاسمة مع المسؤولين السلوفاكيين الضالعين في قضايا السرقة والتزوير والاحتيال الضريبي، وما إلى ذلك.

ملاحقة الفاسدين.. محامية على كرسي الرئاسة

ثمة أدلة كثيرة على تواطؤ السياسيين مع المجرمين، ويتطرق الفيلم لجريمة اغتيال الصحفي الاستقصائي “يان كوتشياك” مع صديقته “مارتينا كوشنيروفا”، بسبب تحقيقاته في عمليات تزوير متصلة برجال أعمال وسياسيين في الدولة، كانت تدور حولهم شبهات الفساد المالي، منهم رئيس الوزراء السابق “روبرت فيكو”.

وقد أحدث مقتل الصحفي وصديقته بهذه الطريقة البشعة صدمة كبيرة وغضبا شعبيا عارما، وسارع إلى إدانته قادة الاتحاد الأوروبي.

الرئيسة تحفظ كل شيء وكأنها طالبة تؤدي فروضها المدرسية كل يوم

ولا غرابة أن تحبَط الرئيسة من تدني مستوى ثقة الناس بالعدالة في هذا البلد، الذي يصنف الأدنى بين دول الاتحاد الأوروبي. وهي لا تجد حرجا في القول إنها ستعطي تفويضا لأي حزب يفوز في الانتخابات، ليشكل حكومة جديدة، سواء أكانوا من أقصى اليمين أو أقصى اليسار.

ولا تقتصر الشبهات على الوزراء والبرلمانيين وضباط الشرطة، بل تتعداهم إلى رأس الهرم. فقد حوكم الرئيس السابق “أندريه كيسكا” بتهمة التهرب الضريبي، وسُجن سنتين مع وقف التنفيذ، ثم خفضت المدة لسنة واحدة.

“الخائنة الشقراء”.. مطبات تعصف بسيدة سلوفاكيا

يصف الخبراء والساسة السلوفاك الرئيسة بأنها تعمل محامية أكثر مما تعمل سياسية، فلا غرابة أن نسمعها وهي تقول “سأدخل في نقاشات مع أقصى اليمين، لأني أحترم إرادة الجماهير”.

الرئيسة “زوزانا تشابوتوفا” في واحدة من مؤتمراتها الصحفية

ومع ذلك فهي تعترف بأن الشعب يريد التغيير، وأن الناس بدؤوا يقفون في وجه عقلية الفساد، التي قادها “روبرت فيكو” و”بيتر بليغريني”.

يغطي المخرج جانبا من جائحة كورونا، في حين تقول الرئيسة إنهم لا يحتاجون لاختراع العجلة، وإنما عليهم اتباع الإجراءات التي أثبتت فعاليتها في سلوفاكيا والخارج.

وقد انتقدت رئيس وزرائها “إيغور ماتوفيتش”، وطلبت منه أن يفوض إدارة أزمة كوفيد 19 إلى عضو حكومي آخر، لأن النظام الصحي السلوفاكي على وشك الانهيار. وهو يلوم الآخرين على الإغلاق، ولا سيما الرئيسة التي ينال منها السب والكلام النابي، الذي يصفها بـ”الخائنة الشقراء”، وقد طالبها البعض أن تختفي من سلوفاكيا.

زيارة البابا تخفف حزن الرئيسة

بعد تشخيص إصابة ابنتها بالسرطان، وجدت الرئيسة نفسها مضطرة لأن تتحدث عن صحة والدها التي تدهورت نحو الأسوأ، وهو يصارع السرطان منذ 4 سنوات، وقد جُلب من المستشفى إلى المنزل، لكي يواجه مصيره المحتوم في غضون أيام قليلة.

ومع أنها كانت تواجه موقفا صعبا، فإن زيارة البابا “فرانسيس” قد خففت وطأة حزنها، وأضفت جوا من الوئام والسلام والمحبة على سلوفاكيا برمتها.

الرئيسة تلبس الملابس الواقية المُضادة للرصاص في أثناء زيارتها لكييف

ويسلط المخرج الضوء على الحرب المدمرة التي شنتها روسيا على أوكرانيا، والمروحيات الروسية التي تحلق فوق العاصمة كييف وتقصفها بضراوة، ومع ذلك فقد قررت الرئيسة زيارة نظيرها “فولوديمير زيلينسكي” في كييف وأبدت مؤازرتها له، متحدية الدعاية الروسية القوية، التي تهدف لزعزعة الاستقرار في أوكرانيا وسلوفاكيا.

“سلوفاكيا تريد السلام”

تضع الرئيسة الخوذة الواقية والصدرية المدرعة في زيارتها للعاصمة كييف، وتتجول في أرجاء المدينة التي دمرتها القوات الروسية المهاجمة، لكنها توقعت انتصار أوكرانيا في خاتمة المطاف، لأنها جزء من أوروبا، وستلتحق بالاتحاد الأوروبي، وستبذل قصارى جهدها في المناقشات مع الرؤساء الأوروبيين.

لكن أطرافا أخرى في المجتمع السلوفاكي، لا تريد الحروب الأمريكية، ولا تريد كراهية روسيا، ولا يريدون لأطفالهم أن يتجمدوا بسبب البرد وانقطاع الغاز الروسي، وبعضهم الآخر يقول بالفم الملآن “سلوفاكيا تريد السلام”.

الرئيسة “زوزانا تشابوتوفا” تتهيأ لاستقبال البابا “فرانسيس”

لقد هبط مستوى الثقة بالرئيسة، حين توجهت بما ينسجم مع العقلية الأمريكية والأوروبية، حتى تقدم عليها غريمها “بيتر بليغريني”، بسبب هجمات أقصى اليمين.

ومع ذلك فقد رضيت “زوزانا” بهذه النتيجة، لأنها ليست رئيسة للحكومة ولا للمعارضة، بل تحاول أن تكون رئيسة للشعب كله، حتى وإن اختلف معها بعضهم في الرأي والعقيدة والتوجه، مع أنها باتت تعرف جيدا أن حماية المبادئ الدستورية قد باتت مهمة صعبة في سلوفاكيا.

جهزت السفارة الأمريكية نصا مفاده أن الاستفتاء على استقالة الحكومة ليس حلا، فرآها المعارضون عميلة أمريكية، وبدأت تخشى على ابنتيها، بعد أن تلقت تهديدات وشتائم فظة ومهينة.

وقد قتل أحد الإرهابيين عضوين من “مجتمع الميم” (الشاذين جنسيا) الذين تتعاطف معهم الرئيسة، وتصفهم بالشخصيات الثمينة التي تنتمي إلى المجتمع السلوفاكي، ويقدم رئيس الوزراء “إيغور ماتوفيتش” استقالته، لكنه يتراجع عنها.

محاولة اغتيال الرئيس المنتخب مأساة إنسانية وهجوم على الديمقراطية

يهدد أحد المتطرفين الرئيسة “زوزانا” بقطع حنجرتها وقتل ابنتيها، ومع ذلك تقرر إكمال سنتها النهائية، لكنها لا تمضي في دورة رئاسية ثانية، وهي تشعر بالأسف، لأنها خيبت آمال الناس الذين آمنوا بها.

تطلب “زوزانا” من “روبرت فيتسو” أن يقف أمامها ليقبل رسالة التعيين، لأن غالبية الشعب صوتوا له. وما أن استلمت مقاليد الأمور، حتى أجرى وزير الداخلية تطهيرات قوية بين الموظفين، وأبعد قائد الشرطة ومعاونيه وعددا من محققي النخبة، كما أجرت تغيرات في الإذاعة والتلفزيون، وتعديلات على قانون الجريمة، لكي تكون العقوبات أقل على الفساد والجريمة.

الرئيس “روبرت فيتسو”

وحينما انتُخب “بيتر بيلغريني” رئيسا للبلاد، هنأته “زوزانا” على الفوز، ورجت له النجاح. وقد أعلن في كلمته أنه سيكون رئيسا لكل المواطنين السلوفاكيين.

ينتهي الفيلم بمحاولة اغتيال “روبرت فيتسو”، وقد أدانت “زوزانا” الحادث، ووصفته بأنه مأساة إنسانية كبيرة، وهجوم على الديمقراطية، وأملت له الشفاء العاجل.

“ماريك شوليك”.. مخرج يلامس القضايا الاجتماعية

بقي أن نقول بأن مخرج الفيلم “ماريك شوليك” (مواليد 1975) هو مخرج ومونتير سلوفاكي، وقد تخرج بأكاديمية الفنون المسرحية في براتيسلافا، وهو متخصص في القضايا الاجتماعية.

أما أبرز أفلامه فهي:

  • “سجائر وأغاني” (Cigarettes and songs) عام 2010.
  • “أجراس السعادة” (Bells of Happiness) عام 2012.
  • “موقد ثقيل” (Heavy Hearthe) عام 2017.

وقد فاز فيلمه “السيدة الرئيسة” (Ms President) بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان جيهلاها بجمهورية التشيك سنة 2024.


إعلان